كيف حوّلت قطر الذهب إلى أرباح في سوق مضطرب؟

في حين تسجل أسعار الفائدة على الودائع المصرفية انخفاضاً مستمرًا خلال السنوات القليلة المنصرمة، ترتفع أسعار الذهب في السوق العالمية ارتفاعًا كبيرًا. مصرف قطر المركزي استجاب لهذين المؤشرين فأجرى تعديلاً جوهرياً على سياسته النقدية، أصبح يشتري كميات استثنائية من الذهب سنويًا.

خلال أربع سنوات مضت، اشترى مصرف قطر المركزي أكثر من خمسين طناً عن طريق ودائعه المصرفية فحقق أرباحاً كبيرة، هذه خصوصية تنفرد بها قطر مقارنة بجميع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.

تتولى لجنة الاستثمار التابعة لمصرف قطر المركزي وضع السياسة السنوية العامة للاحتياطي النقدي بكافة مصادره، وتوزع مهام تنفيذها على ثلاث إدارات: إدارة الاستثمار التي تراقب سعر صرف الريال مقابل الدولار وإدارة مخاطر الاستثمار والالتزام المكلفة بالمجالات الآمنة لاستثمار الاحتياطي النقدي، وأخيرًا إدارة عمليات الاستثمار والتسويات التي تحدد توقيت وميادين استغلال الأموال وتسهم في الحد من المخاطر.

تعتمد سياسة المصرف على التوازن والتوفيق بين ثلاث وظائف: الوظيفة الأولى أن يوفر المصرف السيولة اللازمة لاستقرار سعر صرف الريال مقابل الدولار، الوظيفة الثانية تغطية احتياجات المصارف من العملات الأجنبية والوظيفة الثالثة استثمار الاحتياطي النقدي في الودائع والسندات والأسهم والأذونات وكذلك شراء الذهب.

أهمية الذهب النقدي

تشير الإحصاءات الرسمية القطرية إلى القيمة السوقية للذهب المملوك للمصرف المركزي، أي تدرج قيمته وفق الأسعار السائدة في السوق العالمية. وعليه، هي القيمة الحقيقية للمعدن التي جرى الاعتماد عليها من قبل البنوك المركزية لغالبية البلدان سواء كانت نامية أم صناعية.

قبالة ذلك، تكون قيمة الذهب النقدي في إحصاءات دول الخليج الأخرى دفترية، أي قيمته وقت شرائه. على سبيل المثال، يجري تقدير قيمة الذهب النقدي في السعودية والكويت والبحرين حسب أسعاره التي كانت سائدة قبل عقود دون مراجعة، ولهذا السبب، لا تتغير القيمة في هذه الدول.

بالنتيجة، لا يجوز إجراء مقارنة بين قيم الذهب في دول الخليج إلا بعد تحويل القيمة الدفترية إلى قيمة سوقية. جميع القيم المذكورة في هذه المقالة سوقية.

الذهب بالأطنانقيمة الذهبالاحتياطي النقدينهاية السنة
0.51253942006
22.2757520612015
56.73441561742020
100.96745674692023
110.89295699592024

الجدول تركيب أعده الكاتب لغرض هذه المقالة انطلاقاً من بيانات مصرف قطر المركزي ومنشورات مجلس الذهب العالمي (بملايين الدولارات).

حتى نهاية 2006، لم يكتسب الذهب أهمية تذكر في الاحتياطي النقدي القطري إذ لم يكن يزيد على نصف طن، لكن رغبة القطريين في تنويع هذا الاحتياطي وبسبب التطورات العالمية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي حدث تغيير جوهري في السياسة النقدية القطرية.

في 2007 اشترى مصرف قطر المركزي أكثر من سبعة أطنان من الذهب. وبذلك، انتقل المخزون من 0.5 طناً في الربع الرابع من 2006 إلى 8.3 طناً في الربع الأول من 2007، توالت المشتريات سنوياً فوصل المخزون إلى 110.8 أطنان في نهاية 2024.

خلال الفترة بين 2020 و2024 ازداد المعدن إذن بمقدار 54.1 طناً. وبذلك تسجل الدولة من هذه الزاوية المرتبة الخليجية الأولى وتستحوذ على المرتبة العربية الثانية بعد العراق، تأتي مصر في المرتبة الثالثة.

في هذه الفترة، ارتفعت قيمة الذهب بنسبة تفوق بكثير نسبة ارتفاع المكونات الأخرى للاحتياطي النقدي، ووصلت الزيادة في هذه القيمة إلى 168.8% في حين سجلت العملات الأجنبية (الودائع) زيادة قدرها 8.3%. كما ارتفعت الموجودات لدى صندوق النقد الدولي (حقوق السحب الخاصة والودائع القطرية لدى الصندوق) بنسبة 24.5%.

يمكن القول إن السياسة النقدية القطرية تتجه إلى تقليص أهمية العملات الأجنبية وزيادة دور الذهب في الاحتياطي النقدي. في نهاية 2015 كان مجموع العملات الأجنبية المملوكة لقطر لدى المصرف المركزي والبنوك الأجنبية 26160 مليون دولار أي 50.2% من الاحتياطي النقدي. أما في نهاية 2024 فقد بلغت هذه العملات 24433 مليون دولار أي 34.9% من الاحتياطي النقدي. هبطت إذن قيمة هذه العملات وكذلك أهميتها النسبية في الاحتياطي.

في المقابل، حدث العكس تماماً فيما يخص الذهب، في نهاية 2015 كانت قيمته 757 مليون دولار أي 1.4% فقط من الاحتياطي النقدي ثم أصبحت 9295 مليون دولار في نهاية 2024 أي 13.2% منه. بمعنى آخر ازداد الذهب من حيث مبلغه ومن حيث نسبته.

يؤشر هذا الوضع بوضوح إلى أن قطر تشتري الذهب بالعملات الأجنبية المودعة في المصارف الأجنبية. هذه سياسة سليمة لأن أسعار الفائدة على هذه العملات سجلت هبوطاً كبيراً في الآونة الأخيرة في حين ازدادت أسعار الذهب باستمرار وبقوة.

أدت هذه السياسة إلى إحراز تقدم على مستوى التصنيف الدولي. في نهاية 2015 كانت قطر تسجل المرتبة العالمية رقم 91 في قيمة الذهب ورقم 95 في نسبتها إلى الاحتياطي النقدي، وفي نهاية 2024 أصبحت تستحوذ على المرتبتين 33 و25 على التوالي.

يتأتى تزايد أهمية الذهب في الاحتياطي النقدي القطري من تفاعل عاملين: العامل الأول يتعلق بالسياسة النقدية القطرية التي اتجهت إلى شراء كميات إضافية من الذهب على النحو المذكور أعلاه. والعامل الثاني تصاعد أسعار المعدن في السوق العالمية.

ارتفاع أسعار الذهب

ارتفع سعر الذهب من 1296 دولاراً للأونصة في منتصف فبراير 2019 إلى 2936 دولاراً في منتصف فبراير 2025. بمعنى أن المعدل السنوي لنسبة الارتفاع 21.1% ثم تصاعد في نهاية أبريل إلى 3295 دولاراً.

يعود هذا الوضع إلى عدة أسباب أهمها ما يلي:

الصراعات المسلحة: أسهمت الحرب الروسية الأوكرانية وحرب إسرائيل ضد غزة ولبنان والصراع العسكري بين الهند وباكستان في زيادة الطلب على الذهب فارتفع سعره.

توتر العلاقات الاقتصادية الدولية: فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ودول أخرى عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا وضد إيران بسبب برنامجها النووي فتصاعد الإقبال على الذهب.

الرسوم الجمركية الأمريكية: مطلع أبريل 2025 قررت الإدارة الأمريكية زيادة أسعار الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات السلعية من جميع أنحاء العالم، خاصة الصين وكندا والاتحاد الأوروبي. وبالمقابل اتخذت هذه الدول، لا سيما الصين، إجراءات مضادة فأصبح التبادل التجاري العالمي وبالتالي جميع الأنشطة الاقتصادية في حالة هلع شديد تنذر بالركود. لذلك، ارتفع سعر الذهب.

في 30 مارس 2025 (قبل ثلاثة أيام من إعلان هذه الرسوم) كان سعر الأونصة 3084 دولاراً. ثم أصبح في منتصف ابريل 3223 دولاراً، أي بزيادة قدرها 139 دولاراً سجلت خلال أيام بسبب هذه الرسوم.

تخفيض أسعار الفائدة: أقدمت دول عديدة على خفض أسعار الفائدة على عملاتها في العام الماضي. أجرى الفيدرالي الأمريكي تخفيضاً على سعر الفائدة ثلاث مرات (في سبتمبر ونوفمبر وديسمبر). وتمارس الإدارة الحالية ضغطاً على البنك المركزي بهدف إجراء تخفيضات أخرى. كما قلص الأوربيون سعر الفائدة على اليورو وسلكت جميع دول الخليج هذا النهج. على سبيل المثال، قام مصرف قطر المركزي بتخفيض سعر الفائدة على الريال في نفس التواريخ الأمريكية.

يقود هذا الوضع المصحوب بعدم تراجع معدلات التضخم إلى هبوط عوائد الودائع المصرفية فيتجه الأشخاص نحو الملاذ الآمن لأموالهم وهو الذهب، عندئذ، ترتفع أسعاره.

تزايد طلب البنوك المركزية: للأسباب المذكورة أعلاه لجأت البنوك المركزية إلى شراء كميات كبيرة من الذهب. في 2024 وللعام الثالث على التوالي وصل طلب هذه البنوك إلى حوالي ألف طن وسجل الطلب أوج عظمته في الربع الرابع من 2024 حيث بلغ 332.9 طناً حسب منشورات مجلس الذهب العالمي.

ويبلغ حجم مشتريات قطر في العام المنصرم 9.9 طنا. الأمر الذي قاد إلى تحسن حجم الأرباح.

تزايد الأرباح

استجابت لجنة الاستثمار التابعة لمصرف قطر المركزي لارتفاع أسعار الذهب عبر قرارات متتالية بشراء كميات منه سنويًا. تمخض عن هذه السياسة في إدارة الاحتياطي النقدي تحقيق أرباح لا يستهان بها، وبسبب عدم وجود إحصاءات رسمية حول هذه الأرباح، فيما يلي محاولة لتقديرها بصورة تقريبية.

في نهاية 2023 كان لدى مصرف قطر المركزي 100.9 طناً من الذهب وكان سعر الأونصة 2050 دولاراً في السوق العالمية. وفي نهاية 2024 أصبح لدى المصرف 110.8 طناً وارتفع سعر الأونصة إلى 2617 دولاراً.

بمعنى أن المصرف اشترى 9.9 طنا وعلى افتراض أن عمليات الشراء تمت في نهاية 2023 يصبح الفرق بين السعرين 567 دولارا.

بعملية حسابية بسيطة نستنتج ما يلي:

9.9 طناً مشتريات الذهب خلال سنة × 35.2 ألف أونصة للطن الواحد × 567 دولاراً. الفرق بين السعرين= 197.5 مليون دولار. وهي الأرباح التقريبية خلال سنة واحدة.

أما إذا انطلق الحساب من عام 2020 فسوف تتضاعف الأرباح عدة مرات ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار الذهب بل كذلك لأن كمية الذهب انتقلت من 56.7 طناً في نهاية 2020 إلى 112.8 طناً في نهاية أبريل 2025، أي بلغ حجم المشتريات 56.1 طناً.

حققت إذن عمليات الشراء أرباحاً مهمة وسوف يستمر المصرف بهذه العمليات لعدم وجود أية توقعات تشير إلى انخفاض أسعار المعدن، وبالفعل، أشترى مصرف قطر طنين في فبراير 2025.

باستثناء قطر لا توجد دولة خليجية أخرى اشترت كميات من الذهب منذ عدة عقود. البنوك المركزية في السعودية والإمارات والبحرين وعمان والكويت لم تستجب إطلاقاً لارتفاع أسعار المعدن، لذلك، لم تحقق ربحاً عن طريق سياساتها. ضياع فرص الأرباح يعادل خسائر مالية فادحة لم يعد بالإمكان تعويضها.

تستحوذ قطر على المرتبة الخليجية الأولى في الأهمية النسبية للذهب في الاحتياطي النقدي لكن لا يجوز المبالغة في هذه الأهمية، إذ يشكل هذا المعدن حالياً 13.2% من الاحتياطي النقدي كما ذكرنا. هي نسبة عالية قياساً بدول الخليج الأخرى لكنها ضعيفة مقارنة بدول كمصر (23.6%) والأردن (27.3%) ولبنان (51.1%) وكذلك فرنسا (72.2%) وألمانيا (74.3%) والولايات المتحدة (74.9%).

الفرق الأساسي بين قطر ودول الخليج الأخرى في هذه النقطة هو توجه قطر نحو شراء كميات من الذهب في الآونة الأخيرة وعزوف دول الخليج الأخرى عن ذلك.

لما كان من المتوقع أن تستمر أسعار الذهب بالتصاعد على الأقل خلال العام الجاري يصبح من الضروري أن يستمر مصرف قطر المركزي بشراء كميات أخرى من المعدن، كذلك أن تنحو باقي دول الخليج إلى ذات الإتجاه.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.