الذهب النقدي في دول الخليج

في السنتين الماضيتين 2023 و2024 سجل سعر الذهب ارتفاعاً غير مسبوق لأسباب عديدة اقتصادية وسياسية. لكن غالبية البنوك المركزية في بلدان مجلس التعاون الخليجي لم تستجب لهذا الارتفاع. ترتب على ذلك خسائر مالية فادحة.

يكتسب الذهب أهمية متزايدة في المجتمعات الخليجية لأسباب ترتبط بالعادات والتقاليد. ولا تقتصر هذه الأهمية على الاستهلاك المحلي بل تشمل أيضاً استيراد وتصدير وصناعة القطع الذهبية.

وتحتل الإمارات المركز الخليجي الأول من حيث تجارة الذهب والمجوهرات. تشتري كميات كبيرة من أفريقيا (غانا مثلاً) وتصدرها إلى عدة دول. أصبحت الإمارات من كبار الدول المصدرة للذهب والمستوردة له.

أما الإنتاج الخليجي فهو ضعيف ويكاد ينحصر بالسعودية. تستخرج سنوياً من مناجمها 11.5 طناً أي ما يعادل 3% من إنتاج الصين وهي أكبر منتج للذهب في العالم. وتتولى الاستخراج شركة معادن التي تسعى إلى زيادته ليصل إلى 45 طناً في 2040.

ويعتبر منجم الدويحي في مكة المكرمة أكبر مناجم السعودية حيث يبلغ إنتاجه 4.2 طناً. وللدولة مناجم أخرى خاصة بلغة والصخيبرات والأمار ومنصورة.

ينقسم الذهب إلى قسمين: تجاري ونقدي.

الذهب التجاري هو الذي يملكه الأفراد. يُباع ويُشترى في المحلات التجارية. ويطلق عليه أيضاً تسمية الذهب السلعي. ولا يشترط فيه نسبة معينة من النقاء.

أما الذهب النقدي (موضوع البحث) فهو الذي تملكه المؤسسات المصرفية لا سيما البنوك المركزية.

لا علاقة إذن لهذين القسمين بخصائص المعدن بل بالجهة المالكة له. علماً بأن صندوق النقد الدولي يستوجب في الذهب النقدي نسبة نقاء عالية.

أهمية الذهب النقدي ضعيفة

للذهب مكانة مرموقة في الاحتياطي النقدي للدول الصناعية. فهو يسجل المرتبة الأولى فيه. أما العملات والأوراق المالية فدورها ثانوي. يمثل هذا المعدن أكثر من ثلثي الاحتياطي النقدي للولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. ولا تقتصر هذه المكانة على الدول الصناعية الكبرى بل تشمل أيضاً العديد من البلدان الأخرى. يستحوذ الذهب على أكثر من ربع الاحتياطي النقدي في مصر والأردن ولبنان وتركيا وباكستان.

للتعرف على أهمية الذهب في الاحتياطي النقدي لدول مجلس التعاون لابد من تقسيم هذا الاحتياطي إلى أربعة أقسام وفق الإحصاءات الرسمية للبنوك المركزية.

القسم الأول: الذهب.

في الربع الثاني من 2024 بلغت قيمته 433 مليون دولار في السعودية أي 0.1% من الاحتياطي النقدي. وفي الكويت 103 مليون دولار أي 0.2% من الاحتياطي النقدي.

القسم الثاني: الموجودات لدى صندوق النقد الدولي.

وتتكون من احتياطي الدولة لدى الصندوق ومن حقوق السحب الخاصة. تصل موجودات السعودية إلى 24166 مليون دولار أي 5.2% من الاحتياطي النقدي. وللكويت 4993 مليون دولار أي 10.7% من الاحتياطي النقدي.

القسم الثالث: الأوراق المالية في الخارج المملوكة للبنوك المركزية.

تبلغ في السعودية 270836 مليون دولار أي 57.9% من الاحتياطي النقدي. وهي بذلك تحتل المرتبة الأولى في مكونات الاحتياطي النقدي. أما في الكويت فلا تزيد على 167 مليون دولار أي 0.3% فقط من الاحتياطي النقدي.

القسم الرابع: العملات الأجنبية.

وهي الأوراق النقدية الأجنبية لدى البنوك المركزية الخليجية وكذلك الودائع المصرفية الخليجية لدى البنوك الأجنبية.

في السعودية بلغت هذه العملات والودائع 172342 مليون دولار. أي 36.8% من الاحتياطي النقدي. أما في الكويت فتصل إلى 41627 مليون دولار أي 88.8% من الاحتياطي النقدي. وهي بذلك تحتل المرتبة الأولى فيه.

يتبين مما تقدم المكانة الهامشية للذهب في الاحتياطي النقدي. لكن هذا الضعف الشديد صوري وليس حقيقي. لأن قيم الذهب في الإحصاءات الرسمية تُحسب بموجب سعره وقت شراءه وليس وفق سعره في السوق حالياً.

والفرق بين السعرين شاسع لأن غالبية البنوك المركزية الخليجية اشترت الذهب منذ عدة عقود بالأسعار التي كانت سائدة آنذاك وهي منخفضة جداً مقارنة بالأسعار السائدة حاليا.

ففي الربع الثالث من 2024 يملك البنك المركزي السعودي 322.9 طناً من الذهب اشتراها قبل عقود بسعر 433 مليون دولار. في حين أن القيمة الحقيقية الحالية (سعر السوق) لهذه الكمية 27317 مليون دولار حسب مجلس الذهب العالمي. وعلى هذا الأساس يشكل الذهب 5.6% من الاحتياطي النقدي السعودي وليس 0.1% منه.

وينطبق هذا التحليل أيضاً على الكويت التي تملك 78.9 طناً من الذهب قيمتها السوقية 6677 مليون دولار أي 12.3% من الاحتياطي النقدي وليس 0.2% منه.

والبحرين تملك أربعة أطنان من الذهب قيمتها السوقية 311 مليون دولار أي 6.0% من الاحتياطي النقدي وليس 0.1% منه.

ورغم هذا التصحيح لا تزال أهمية الذهب ضعيفة في دول الخليج مقارنة بالدول الأخرى. لأن كمية الذهب فيها ثابتة منذ عدة سنوات ولم تستجب للتطورات الاقتصادية والسياسية الجديدة.

بين نهاية الربع الثالث من 2013 ونهاية الربع الثالث من 2024 لم تتغير إطلاقاً كمية الذهب لدى البنوك المركزية لغالبية بلدان الخليج.

ففي بداية الفترة كما في نهايتها للسعودية 322.9 طناً وللكويت 78.9 طناً. كما لم تختلف كمية الذهب في الإمارات (74 طناً) والبحرين (أربعة أطنان) وعمان (طنان).

أما قطر فتمثل من هذا الجانب الاستثناء الوحيد. فقد سلكت سياسة تنسجم مع التطورات العالمية. كان البنك المركزي القطري يملك 12.4 طناً من الذهب في نهاية 2013 قيمتها السوقية 480 مليون دولار أي 1.1% فقط من الاحتياطي النقدي للدولة. ارتفعت الكمية تدريجياً لتصل في نهاية الربع الثالث من 2024 إلى 109.5 طناً قيمتها في السوق 9262 مليون دولار. وبذلك أصبح الذهب يمثل 17.3% من الاحتياطي النقدي القطري. وهي أعلى نسبة مسجلة في دول الخليج. ولا تزال الدوحة مهتمة بشراء كميات إضافية من هذا المعدن.

لماذا ارتفع سعر الذهب؟

ارتفع سعر الأونصة من 437 دولاراً في نهاية 2004 إلى 1784 دولارا في نهاية 2022 أي بمعدل سنوي قدره 17.1%. ثم واصل ارتفاعه إلى 2645 دولاراً في نهاية 2024.

نجم هذا الوضع عن الأسباب التالية:

تدهور العلاقات الدولية: تتسم العلاقات الدولية بالصراعات العسكرية الخطيرة التي لا تجد حلاً سريعاً لها. بل قد تتسع رقعتها. فقد اندلعت الحرب الروسية ضد أوكرانيا منذ حوالي ثلاث سنوات مع تهديدات بالسلاح النووي. كما أعلنت إسرائيل الحرب على غزة ولبنان وسوريا. وهددت إيران والعراق واليمن والضفة الغربية. ولا تزال الأوضاع العسكرية خطيرة رغم اتفاق وقف إطلاق النار ضد غزة.

أما من الناحية الاقتصادية فتتسم العلاقات الدولية بالتوتر التجاري خاصة بعد وصول الحزب الجمهوري إلى الرئاسة الأمريكية وتهديدات الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية مرتفعة على وارداتها من الصين، وتهديدات صينية بخفض سعر صرف اليوان مقابل الدولار والعملات الأخرى.

بسبب هذه الوضع الدولي العسكري والتجاري تهبط ثقة الأشخاص بالعملات. يتجهون نحو ملاذ آمن لأموالهم. فيجدون الذهب. وهكذا يزداد الطلب على هذا المعدن فيرتفع سعره.

 تراجع أسعار الفائدة: في 2024 أقدم الفيدرالي الأمريكي على تخفيض سعر الفائدة على الدولار ثلاث مرات: في سبتمبر ونوفمبر وديسمبر. وفي كل مرة تسارع دول مجلس التعاون على تخفيض سعر الفائدة على عملاتها. وقام البنك المركزي الأوروبي بتقليص سعر الفائدة على اليورو. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تتجه الأسعار في جميع الدول إلى الهبوط.

يقود هذا الوضع بطبيعة الحال إلى انخفاض حصيلة الأموال المودعة في الحسابات المصرفية. لذلك يشتري الأشخاص (الأفراد والشركات والحكومات) الذهب بدلاً من استثمار أموالهم في تلك الحسابات. فيرتفع أيضاً سعر هذا المعدن.

ارتفاع معدلات التضخم: لم ينخفض التضخم على المستوى العالمي. ترتب على ذلك هبوط القوة الشرائية للنقود. في دول عديدة معدل التضخم أعلى من أسعار الفائدة. لذلك يزداد الطلب على الذهب فتتصاعد أسعاره.

تزايد طلب البنوك المركزية: اشترت البنوك المركزية في مختلف دول العالم كميات كبيرة من الذهب للدفاع عن مركزها المالي. ففي 2023 اشترى البنك المركزي السنغافوري 76 طناً والبنك المركزي البولندي 130 طناً والبنك المركزي الصيني 224 طناً. وفي الربع الثالث من 2024 اشترت البنوك المركزية في العالم 186 طنا.

أنها مشتريات ضخمة ناجمة عن التطورات المذكورة أعلاه. أدت بلا شك إلى ارتفاع آخر لسعر الذهب. وبذلك يصبح تزايد طلب هذه البنوك سبباً ونتيجة لتصاعد السعر.

عدم كفاية العرض: بسبب ارتفاع أسعار الذهب اتجهت الدول إلى زيادة استخراج هذا المعدن. لكن الطلب الذي جاء سريعاً كان أكبر من العرض.

بتفاعل هذه العوامل ارتفع سعر الذهب ارتفاعاً غير مسبوق في الآونة الأخيرة.

أما عدم الاستجابة لهذه العوامل كما تفعل السياسات النقدية لدول الخليج فيقود إلى خسائر مالية فادحة. لأن قسطاً كبيراً من الاحتياطي النقدي لهذه الدول عبارة عن عملات أجنبية مودعة في حسابات خارجية.

خسائر فادحة

تتطلب الإدارة السليمة للاحتياطي النقدي شراء كميات كبيرة من الذهب وبسرعة. أما الاستمرار بتلك السياسات فيقود إلى خسائر فادحة.

لا توجد إحصاءات ودراسات حول هذه النقطة الجوهرية. وفيما يلي محاولة لتقدير حجم هذه الخسائر في السعودية والكويت البحرين.

في السعودية كانت العملات الأجنبية في الاحتياطي النقدي تساوي 147829 مليون دولار في الربع الثاني من 2022. لنفترض أنها مودعة في حسابات بفائدة معدلها 5% (افتراض مبني على الأسعار السائدة فعلاً على الدولار واليورو لغاية سبتمبر 2024). عندئذ يصبح حجم الفوائد الناجمة عنها ولمدة سنتين 15152 مليون دولار في الربع الثاني من 2024. أي أن المجموع الكلي لهذه العملات في نهاية الفترة 162981 مليون دولار.

في حين ارتفعت أسعار الذهب خلال هذه الفترة بنسبة 48.2%. بمعنى لو اشترى البنك المركزي ذهباً في الربع الثاني من 2022 بذلك المبلغ لأصبحت قيمته السوقية 219082 مليون دولار في الربع الثاني من 2024.

وبسبب الاستمرار بتلك السياسات تكبدت السعودية خسارة قدرها 56101 مليون دولار (162981-219082). أنها خسارة ضخمة لأن مبلغها يمكن أن يغطي نفقات قطاع الصحة بأكمله.

وبنفس الطريقة يمكن تقدير خسارة الكويت. فقد بلغت العملات الأجنبية المملوكة للبنك المركزي المودعة في المصارف الأجنبية 41627 مليون دولار. تدر فوائد سنوية قدرها 2081 مليون دولار وفق الفرضية أعلاه. عندئذ يكون المبلغ الكلي لهذه العملات بعد إضافة الفوائد 43708 مليون دولار.

في حين لو خصصت تلك العملات لشراء الذهب لأصبحت القيمة بعد مرور سنة واحدة 53740 مليون دولار. لأن سعر هذا المعدن ارتفع بنسبة 29.1% في منتصف ديسمبر 2024 مقارنة بمنتصف ديسمبر 2023. الخسارة تعادل إذن 10032 مليون دولار. أي ما يعادل الإيرادات النفطية للدولة لمدة 69 يوماً.

أما المشكلة في البحرين فهي أكثر خطورة قياساً بدول الخليج الأخرى. المنامة كالرياض والكويت لم تستجب لزيادة أسعار الذهب. ترتب على ذلك خسارة سنوية قدرها 967 مليون دولار. وهذا مبلغ هائل نظراً لصغر حجم الاقتصاد البحريني. ولكن تزداد خطورة هذه الخسارة لأن الاحتياطي النقدي شهد في نهاية 2024 هبوطاً حاداً قدره 728 مليون دولار نتيجة السحب من العملات الأجنبية لتمويل العجز المالي.

في جميع الحالات تعادل الخسارة الفرق بين سعر الفائدة على العملات ونسبة ارتفاع سعر الذهب.

من المتوقع أن ترتفع أسعار الذهب في 2025 ولكن بصورة اقل مقارنة بالعام السابق. ورغم ذلك ستستمر السياسات النقدية لدول الخليج (باستثناء قطر) بعدم شراء كميات أخرى من هذا المعدن. عندئذ ستسجل ماليتها خسائر جديدة.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.