إيران والفصائل العراقية: بقاء الحال على ما هو عليه

تجمع إيران والعراق علاقات تاريخية واستراتيجية معقدة، تمتد من الجوانب السياسية إلى الأمنية والاقتصادية. أحد أبرز الملفات التي تعكس هذا التعقيد في هذا التوقيت هو ملف الفصائل  المسلحة في العراق التي برز دورها بشكل كبير بعد عام 2003، ثم تضاعف نفوذها بعد تشكيل الحشد الشعبي عام 2014 لمواجهة تنظيم داعش.

ومع انتهاء الحرب ضد التنظيم، تحولت هذه الفصائل إلى لاعب رئيسي في المشهد العراقي، مما دفع الحكومات العراقية المتعاقبة إلى البحث عن سبل لتنظيمها أو دمجها ضمن مؤسسات الدولة، في ظل توازنات إقليمية ودولية دقيقة.

تنظر إيران إلى هذه الفصائل على أنها جزء مهم من الترتيبات الأمنية والسياسية في العراق وأن وجودها ساهم في تحقيق الاستقرار ومنع عودة الجماعات الإرهابية إلى جانب كونها قوة مؤثرة في مواجهة التحديات التي تواجه المنطقة. لذلك، فإن أي محاولة لحل هذه الفصائل أو تقليص دورها يُنظر إليها في طهران بحذر، حيث تخشى أن يؤدي ذلك إلى إضعاف البيئة الأمنية في العراق أو خلق فراغ تستفيد منه جهات أخرى.

في الوقت نفسه، تدرك إيران أن الحكومة العراقية تسعى إلى تحقيق سيادة الدولة وضبط الأمن الداخلي، وهي ليست في وارد الدخول في صدام مباشر مع هذه التوجهات، بل تفضل اتباع نهج أكثر مرونة يتيح لها الحفاظ على نفوذها، دون أن يؤدي ذلك إلى مواجهة مع بغداد.

في المقابل، تجد الحكومة العراقية نفسها أمام معادلة صعبة. فمن جهة، هناك مطالب داخلية وخارجية بتنظيم الفصائل ضمن مؤسسات الدولة لضمان استقرار البلاد وتقليل النفوذ غير الرسمي على القرار السياسي. ومن جهة أخرى، تشكل هذه الفصائل جزءا من النسيج السياسي والاجتماعي وتمتلك قاعدة شعبية ونفوذا اقتصاديا، وهو ما يجعل التعامل معها مسألة أكثر تعقيدا من مجرد إصدار قرارات إدارية أو قوانين حكومية. إن أي محاولة للمواجهة المباشرة قد تؤدي إلى رد فعل غير محسوب العواقب، خصوصا في ظل الأوضاع الإقليمية المتوترة.

إلى جانب ذلك، تواجه الحكومة العراقية ضغوطا من بعض الأطراف الإقليمية والدولية، التي ترى في استمرار نفوذ الفصائل عاملا يحد من قدرة العراق على اتخاذ قرارات مستقلة. هذه الأطراف، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تضغط على بغداد لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة تجاه هذه الفصائل، سواء عبر تقليص نفوذها السياسي أو الحد من أنشطتها الأمنية والاقتصادية. لكن بغداد تدرك أن الاستجابة المطلقة لهذه الضغوط قد تؤدي إلى تداعيات داخلية غير محسوبة، إذ أن هذه الفصائل ليست مجرد كيانات عسكرية، بل تمتلك امتدادات داخل مؤسسات الدولة وتحظى بدعم سياسي وشعبي في بعض الأوساط.

في هذا السياق، تحاول إيران الحفاظ على نفوذها في العراق دون أن تتسبب في توترات كبيرة بين الفصائل والحكومة العراقية. لذلك، تعمل على تهدئة التوترات عندما تتصاعد وتدعم الحلول التي تقوم على الحوار والتفاهمات بدلا من القرارات الأحادية التي قد تؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه.

في أكثر من مناسبة، لعبت طهران دور الوسيط بين الحكومة العراقية والفصائل، خاصة عندما تصاعدت الضغوط الداخلية أو الخارجية لإعادة ترتيب المشهد الأمني. فهي تدرك أن أي مواجهة مفتوحة قد تؤدي إلى حالة من الفوضى التي قد تستغلها قوى أخرى لتعزيز نفوذها في العراق على حساب طهران.

يشكل الملف الاقتصادي جانبا آخر من العلاقة بين هذه الفصائل وإيران. فإلى جانب دورها الأمني، تمتلك هذه الفصائل نفوذا في قطاعات اقتصادية مختلفة داخل العراق، سواء عبر شركات أو استثمارات أو مشاريع خدمية. يمنحها هذا النفوذ قدرة على التمويل الذاتي، ويجعلها أقل عرضة للضغوط الحكومية التي تهدف إلى تقليص دورها. في المقابل، ترى إيران أن هذا الوجود الاقتصادي يمكن أن يكون عاملا مساعدا في تحقيق نوع من الاستقرار، إذ إنه يقلل من احتمال حدوث مواجهات مباشرة بين هذه الفصائل والحكومة، ويتيح لها الاستمرار ضمن إطار غير تصادمي.

على المدى القريب، هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل هذه الفصائل. يتمثل السيناريو الأول في دمج تدريجي لها ضمن المؤسسات الرسمية عبر حلول وسط تضمن استمرار دورها ولكن ضمن إطار قانوني ومؤسسي.

هذا الخيار قد يكون الأكثر قبولا لدى معظم الأطراف، حيث يتيح للحكومة فرض سيادتها دون الدخول في صدام مباشر، كما يسمح لإيران بالحفاظ على نفوذها بطريقة أكثر تنظيما.

السيناريو الثاني، وهو أقل احتمالا لكنه وارد، يتمثل في حدوث تصعيد سياسي وأمني إذا قررت الحكومة اتخاذ إجراءات أكثر حزما، سواء تحت ضغط داخلي أو خارجي، مما قد يؤدي إلى رد فعل قوي من هذه الفصائل ويهدد بزعزعة الاستقرار الداخلي. السيناريو الثالث، والأكثر ترجيحا في الوقت الحالي هو استمرار الوضع الراهن، بحيث تبقى الفصائل جزءا من المشهد السياسي والأمني مع استمرار محاولات تنظيمها تدريجيا دون الدخول في مواجهة مباشرة، وهو ما يتوافق مع التوجه الإيراني الذي يفضل الحفاظ على توازن يمنع حدوث أي اضطراب كبير في العراق.

إلى جانب هذه السيناريوهات، لا يمكن إغفال الدور الذي قد تلعبه الانتخابات العراقية المقبلة في تحديد ملامح العلاقة بين الحكومة وهذه الفصائل. فإذا تمكنت القوى السياسية القريبة من هذه الفصائل من تعزيز نفوذها في البرلمان فقد يكون ذلك عاملا مساعدا في تقليل الضغوط عليها وتوفير غطاء قانوني لاستمرار دورها ضمن إطار الدولة. أما إذا شهدت الانتخابات صعود قوى مناوئة فقد يؤدي ذلك إلى تصاعد المطالبات بتقليص نفوذ هذه الفصائل مما قد يعيد النقاش حول هذا الملف إلى الواجهة ويضع الحكومة أمام خيارات صعبة مرة أخرى.

يبدو أن مستقبل هذه الفصائل لن يشهد تحولات جذرية على المدى القريب بل ستستمر محاولات إعادة ترتيب المشهد الأمني والسياسي بطريقة تحفظ للدولة سيادتها مع تفادي أي خطوات قد تؤدي إلى اضطرابات داخلية أو تغيرات إقليمية غير محسوبة. من جهتها، ستواصل إيران لعب دور الضامن لهذا التوازن، عبر دعم التفاهمات والحوار بين الأطراف المختلفة، بهدف تجنب أي تصعيد قد يؤثر سلبا على استقرار العراق والمنطقة ككل. وفي ظل هذه التوازنات الدقيقة، من المرجح أن تبقى هذه الفصائل عنصرا فاعلا في المشهد العراقي، لكن ضمن أطر جديدة تتشكل وفقا للمتغيرات السياسية والأمنية القادمة.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.