الحج في السعودية: ربح وخسارة

تحقق السعودية مكاسب مالية وتجارية في موسم الحج. يقابلها خسائر تتحملها الدول الإسلامية الأخرى. يخلق هذا الوضع خللاً في فرص التنمية وتناقضاً مع أحكام الشريعة الإسلامية. الحج كالزكاة ركن من أركان الدين الإسلامي الخمسة. هو عبادة من جهة وله جانب اقتصادي من جهة أخرى. وهذا الجانب ليس حديثاً بل قديم قدم الشعيرة نفسها ومعروف حتى قبل الرسالة الإسلامية حيث كان يمثل أحد ابرز إيرادات مكة المكرمة. وبالتالي لا يجوز إهمال هذا الجانب الاقتصادي بحجة كون الحج عبادة. بل على السعوديين الاهتمام في إحصاءاتهم وتحليلاتهم باقتصاديات الحج.

“ليشهدوا منافع لهم” أي استغلال الحج لتنمية التجارة والحصول على الأرباح سواء تعلق الأمر بالأفراد أم بالشركات أم بالدول. هذا النص القرآني مطلق وهو حصول الجميع على مكاسب. عندئذ ينبغي أن لا يربح البعض على حساب خسارة البعض الآخر. أي أن لا يقود الحج إلى التأثير سلبياً على مالية الأفراد واقتصاديات بلدانهم.

من الناحية المبدئية للسعودية الحق في فرض الرسوم على دخول الحجاج الأجانب. فهذه مساهمة الحاج في النفقات المرتبطة بالشعيرة والتي تتحملها السعودية. ومن البديهي أن ينفق الحاج لقاء نقله وإقامته شريطة أن تكون الأسعار معقولة. ولكن على الصعيد العملي أصبحت تكلفة الحج مشكلة حقيقية داخلية وخارجية.

مكاسب السعودية

يمكن تقسيم الأموال التي تحصل عليها السعودية من الحجاج الأجانب إلى قسمين. يتكون القسم الأول من التكلفة الكلية بما فيها رسوم تأشيرات الدخول. ويتضمن القسم الثاني الأموال الأخرى التي ينفقها الحجاج في الهدايا. في الحالتين تمر هذه الأموال بالقنوات المصرفية ووكالات صرف العملات لينتهي بها المطاف في البنك المركزي السعودي (ساما). بمعنى أنها تسهم في زيادة الاحتياطي النقدي لهذا البنك.

ومن المعلوم أن السعودية تعاني من عجز مزمن بلغ 195 مليار ريال في ميزانية العام الجاري. تتم تغطية العجز عادة بثلاثة أساليب: السحب من الاحتياطي النقدي أو السحب من رأسمال ومن احتياطي الصناديق السيادية أو اللجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي.

كلما ارتفعت مصروفات الحج ارتفع حجم الاحتياطي النقدي وزاد الاعتماد عليه في تمويل العجز المالي. وكلما زاد الاعتماد على هذا المصدر انخفض اللجوء إلى الصناديق السيادية والقروض. عندئذ تتحسن استثمارات السعودية في الخارج وتنخفض مديونيتها العامة. أو على الأقل لا تنخفض الأولى ولا ترتفع الثانية.

ولكن لا يجوز المبالغة في هذا المكسب نظراً لارتفاع حجم العجز المالي. إذ أن إيرادات الحج لا تسهم بتغطية اكثر من 8% من العجز المالي. أما عند إضافة إيرادات العمرة فإن مجموع هذه الإيرادات سوف يعادل 23% من العجز.

صرح أحد كبار المسؤولين السعوديين بما يلي “إذا كان هنالك مسلم يريد الحج أو يعتمر لأول مرة فهو لا يدفع قيمة الفيزا وتتحملها الحكومة السعودية. لكن إذا كان يريد أن يأتي مرة أخرى وثالثة فهو يستنزف الاقتصاد السعودي”.

لتقدير هذا الموقف لابد من الإشارة إلى مساهمة الحج في تنمية الأنشطة الاقتصادية للبلد خاصة مكة المكرمة. فقد ذكرت الغرفة التجارية الصناعية لهذه المدينة بأن موسم الحج يمثل 70% من إيرادات مكة المكرمة السنوية. وله انعكاسات كبيرة على اقتصاديات هذه المدينة في جميع القطاعات. وترى الغرفة بأن موسم الحج أهم بكثير لاقتصاد هذه المدينة من مواسم العمرة.

ينفق الحاج 40% من أمواله للسكن و31% للنقل و14% للهدايا و10% للغذاء. إضافة إلى نفقات أخرى بنسبة 5%. وتتولى الشركات تنفيذ هذه الأنشطة. ولا يعقل أن تستمر هذه الشركات بأنشطتها إلا إذا كانت أرباحها مجدية. كما ينعش الحج عدة مهن خاصة تجارة اللحوم والمصارف والحلاقة. ولا فرق في ذلك بين حاج لأول مرة وحاج لثاني أو ثالث مرة وهكذا.

يبدو واضحاً أن التصريح المذكور أعلاه يحاول تبرير الرسوم التي تحصل عليها الدولة من الحجيج. إنه إشارة إلى أن هذه الرسوم تدفع مقابل ما تقرره الدولة من نفقات أمنية وعقارية وغيرها. لكن التصريح استخدم كلمة الاستنزاف في غير محلها. إنه يخلق متاعب معنوية في نفوس الضيوف.

نظام تأشيرة الدخول الذي ينطبق على الحاج وكذلك على المعتمر يقضي بدفع مبالغ تتراوح بين 3000 و 8000 ريال في حالة تكرار الحج أو العمرة. كما يخضع حج المقيمين السعوديين والأجانب لتصريح خاص. يقولون في السعودية “لا حج بدون تصريح”. وهنالك غرامات مالية وعقوبات بدنية توقع على من يخالف ذلك.

وبالمقابل نلاحظ اتجاهات في السعودية تبالغ في الأهمية المالية للحج والعمرة. يقولون بأن إيرادات الشعيرتين مهمة إلى درجة أنها ستصبح قريباً مساوية لإيرادات النفط. والواقع بلغت إيرادات الحج 4.2 مليار دولار (16 مليار ريال) في عام 2017. وإذا أضفنا إليها إيرادات العمرة فسيصبح المجموع 12 مليار دولار. في حين أن إيرادات النفط 168 مليار دولار في السنة. وعلى افتراض أن رؤية السعودية 2030 ستحقق هدفها الرامي إلى زيادة الطاقة الاستيعابية للحج والعمرة من 8 ملايين إلى 30 مليون شخص فإن إيراداتها سوف لن تتجاوز الخمسين مليار دولار.

وفي جميع الحالات يمثل الحج مكاسب مالية وتجارية للسعودية. لكنه يخلق مشاكل اقتصادية لغالبية الدول الإسلامية.

 

خسائر الدول الإسلامية

الحج يكلف مبالغ لا تقوى عليها الغالبية العظمى من المسلمين. وتختلف التكلفة وفق عدة عوامل تتعلق بالبلد الذي ينتمي إليه الحاج والنظام المتبع فيه لتحديد النفقات والبرنامج الذي يختاره الحاج للقيام بالفريضة. ويتعلق الأمر بالسكن (قربه من الحرم المكي وتصنيفه وسعة غرفه وخدماته) ونوع الأطعمة ووسائل النقل وغيرها.

إذا اقتصرنا على بعض الدول العربية نلاحظ أن المعدل العام للتكلفة كما يلي بالدولارات (الحسابات لا تشمل مصاريف الجيب المخصصة للهدايا): السعودية 2950. السودان 3100. العراق 3800. مصر 4250. موريتانيا 4490. تونس 4500. المغرب 4950. الكويت 7500.

يفرق المصريون بين الحج السياحي والحج الاقتصادي. لكل من هذين القسمين درجات ولكل درجة سعر خاص. وهنالك نظام مماثل في بلدان أخرى كالمغرب.

ويختلف ثقل هذه التكلفة حسب الدول. ففي السعودية تستحوذ التكلفة على 5% فقط من معدل الدخل الفردي السنوي. وترتفع النسبة إلى 10% في الكويت و21% في العراق و36% في مصر و38% في تونس لتصل إلى 63% في السودان وإلى 114% في موريتانيا. وعلى هذا الأساس تمثل تكلفة الحج نسبة لا يستهان بها من الدخل الفردي في الدول العربية غير الخليجية. مما أدى إلى ظهور استياء ضد ارتفاع الرسوم في السعودية وتزايد الأسعار فيها خلال موسم الحج.

ففي المغرب يشكل الحج عبئاً على مالية الدولة بلغ 163 مليون دولار في العام المنصرم. أضف إليه الأموال المسموح بإخراجها لكل حاج وقدرها ألف دولار. وهذا يمثل كلفة إضافية قدرها 32 مليون دولار.

وفي مصر تذكر وسائل الإعلام أن البلد يدفع سنويا خمسة مليارات دولار لتغطية نفقات الحج والعمرة التي تمثل 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي. يؤثر هذا المبلغ تأثيراً سلبياً وكبيراً على الاقتصاد المصري الذي يعاني من أزمة مالية منذ عشرات السنين. ولكن يفترض أن تكون هذه التقديرات دقيقة.

أما في تونس فيتوقع أن تصل تكلفة الحج للموسم الحالي إلى 51 مليون دولار. ويرى التونسيون أن هذا المبلغ مرتفع نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد. لذلك ظهرت اتجاهات تدعو إلى تأجيل الفريضة لهذا العام. بل ذهب بعض الأئمة إلى تحريم الحج لأن السعودية بتقديرهم تستخدم إيراداته في قتل المسلمين اليمنيين. علماً بأن هذا الموقف لا يعبر عن وجهة نظر رسمية سواء كان دينية أم سياسية. الخسارة المذكورة تطابق عدد الحجاج والتكلفة. لكن المبالغة ليست في الرقم بل في تقدير تداعياته. فهو لا يمثل سوى 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي (الحساب هنا لا يشمل العمرة). استطاع المفاوضون التونسيون إقناع التجار السعوديين (أصحاب الفنادق) بضرورة منح بعض التخفيضات. وبالفعل وافقوا على حذف 200 دولار عن كل حاج تونسي للموسم الحالي. علماً بأن هذا المكسب لا يشكل سوى 2% من التكلفة.

بصورة عامة ومن الناحية المالية تتضرر جميع الدول الإسلامية من مواسم الحج والعمرة. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن السعودية هي المستفيد الوحيد من الشعيرتين رغم كونها المستفيد الأكبر.

كما أن تكلفة الحج بالمفهوم الوارد أعلاه لا تعتبر كلها عبئاً على اقتصاديات الدول. لأن الحاج ينفق قسطاً من هذه التكلفة في بلده الأصلي كالمبالغ المدفوعة للنقل الجوي وبعض الرسوم والوسطاء. هنالك تقديرات سعودية تؤكد على إن الحاج ينفق 36% من التكلفة في بلده الأصلي.

خلال السنوات الثلاث المنصرمة بلغ العدد الكلي للحجيج 6.2 مليون شخص. منهم 4.5 ملايين من الخارج. والغالبية العظمى من هؤلاء الأجانب رعايا دول إسلامية ناهيك عن كون ثلثي حجاج الداخل أجانب. يستهلك هؤلاء سلعاً مستوردة من دول غير إسلامية. المواد الغذائية مستوردة وحتى السجاد والسبح والملابس مستوردة خاصة من الصين.

لابد من حل لهذه المشكلة بحيث يمكن مشاركة الدول الإسلامية في تصنيع وتصدير السلع المستهلكة في موسم الحج. عندئذ تخف الأعباء المالية الناجمة عن تكلفة الحج. وبذلك تصبح الشعائر الدينية سبباً لتنمية الدول الإسلامية وليست وسيلة لتدهور أوضاعها المالية.

من هذا الباب يمكن تقسيم الدول العربية إلى ثلاث مجموعات.

المجموعة الأولى. دول لا تعاني كثيراً من تكلفة الحج ولا تقوى على منافسة السلع الآسيوية. وهي جميع بلدان مجلس التعاون. وبالتالي فهي غير معنية بهذا الأمر.

المجموعة الثانية. دول غير قادرة على تلبية حاجات الحج نظراً لضعف صادرات صناعاتها التحويلية وانشغالها بصراعات داخلية عنيفة. العراق وسوريا وليبيا واليمن.

المجموعة الثالثة. دول تعاني من تكلفة الحج وتتوفر على إمكانات في بعض الميادين كالأغذية والهدايا. مصر والمغرب. إذا تحسنت صادرات هذه المجموعة الثالثة إلى السعودية خلال موسم الحج فسوف تستطيع معالجة مشكلة تكلفة الحج على اقل تقدير.

تحقق السعودية مكاسب جمة في موسم الحج ترتبط بمالية الدولة وبالأنشطة الاقتصادية المختلفة. في حين يمثل هذا الموسم عبئاً مالياً ثقيلاً على الأفراد غير السعوديين وعلى ميزانيات بلدانهم. لابد من معالجة هذا الخلل لتعم المنفعة على الجميع بما ينسجم مع أحكام الشريعة الإسلامية.

منشورات أخرى للكاتب