الاقتصاد الإيراني: علامات القوة ومكامن الضعف

اكتسب القطاع الصناعي الإيراني قدرة عالية خلال فترة قصيرة. أصبح منتجاً لعدد كبير من السلع كالسيارات والأسلحة والأدوية. لكن البلد يعاني من مشاكل اقتصادية خطيرة في مقدمتها التضخم والبطالة وتدهور سعر صرف الريال. بات من اللازم معرفة أسباب هذه النقاط الإيجابية التي تجمعها التنمية التكنولوجية وهذه النقاط السلبية الناجمة عن العجز المزمن في ميزانية الدولة.

تقدم تكنولوجي
أدى التقدم التكنولوجي في إيران إلى تطوير قطاعها الزراعي وكذلك صناعتها المدنية والعسكرية الأمر الذي أسهم مساهمة فاعلة في تنويع مصادر الناتج المحلي الإجمالي وتقليص الاعتماد على استيراد السلع. ولم تكتف بنقل التكنولوجيا من الخارج بل راحت تعمل على توليدها أيضاً.
التنمية التكنولوجية كما هو معلوم لا علاقة لها باستخدام المعدات أو امتلاكها. فقد يستخدم المواطنون أحدث الأجهزة الإلكترونية والمعدات. وقد تملك الدولة أقماراً اصطناعية وأسلحة متطورة. لكن التكنولوجيا هي الجانب التطبيقي للعلوم بهدف الوصول إلى صناعة معينة بمفهومها الواسع. العبرة بالبحوث والتصنيع لا بالاستخدام والتملك.
فحسب آخر إحصاءات البنك العالمي بلغ الإنفاق الإيراني على البحث العلمي 6432 مليون دولار أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الإنفاق المماثل في مصر، بل يفوق الإنفاق على البحث العلمي في بعض الدول الصناعية كالنرويج. أفضى هذا الاهتمام المالي إلى تزايد الباحثين في مختلف ميادين المعرفة ليصل عددهم إلى 54 ألف باحث. فارتفع عدد البحوث المنشورة في المجلات العلمية بصورة لم يسبق لها مثيل في منطقة الخليج. فقد كان عددها 1451 بحثاً في عام 2000 فاصبح 32965 بحثاً في عام 2013. وقاد هذا الوضع إلى تزايد الاختراعات. فلا يمكن أن تنطلق التنمية التكنولوجية دون ابتكارات. وهذه لا تأتي إلا من التعليم والإنفاق والبحث. وارتفع عدد براءات الاختراع المسجلة من 529 براءة في عام 2001 إلى 2880 براءة في عام 2014. أصبحت إيران ضمن الدول التي تحتل المراتب المتقدمة من هذا الجانب.
عدد الاختراعات الإيرانية يفوق بكثير عدد الاختراعات في جميع الدول العربية. كما تعود جميع البراءات في إيران إلى إيرانيين. في حين أن البراءات المسجلة لأجانب في دول مجلس التعاون تعادل ثمانية أضعاف براءات الاختراع المسجلة لخليجيين.
أدت تلك المؤشرات إلى ظهور صناعات محلية موجهة للاستهلاك والتصدير. ولا يتعلق الأمر بالصناعات ذات التكنولوجيا المنخفضة (الإنتاج الذي لا يلعب فيه البحث العلمي دوراً مهماً) كالملابس والصناعات الغذائية فحسب بل كذلك بالصناعة ذات التكنولوجيا المتوسطة كالسيارات. فقد بلغ عدد السيارات المنتجة 1.6 مليون سيارة في السنة موجهة للاستهلاك المحلي وكذلك للتصدير خاصة إلى العراق وسوريا ولبنان ومصر. وكذلك الصناعات ذات التكنولوجيا العالية كالأدوية. غالبية براءات الاختراع المسجلة تخص صناعة الأدوية. بمعنى أن هذه الابتكارات لا تتأتى من جهود فردية بل من مؤسسات مختصة. أضف إلى ذلك أن إيران باتت من الدول المصدرة للأسلحة ومختلف قطع الغيار واختارت صناعة معقدة وهي تخصيب اليورانيوم اللازم لإنتاج القنبلة النووية.
لكن هذا التقدم في مراحله الأولى ولا يجوز إطلاقاً المبالغة في أهميته، فعلى الرغم من أهمية المصروفات المخصصة للبحث العلمي فإن نسبتها للناتج المحلي الإجمالي لا تزال ضعيفة ولا تمثل سوى ثلث النسبة الرسمية المستهدفة وهي 2.5%، كما تعاني الصناعات الإيرانية من ضعف جودتها. وإذا كانت التنمية التكنولوجية تمنح للاقتصاد الإيراني قوة لا يستهان بها، فإن هنالك مشاكل مالية خطيرة تؤثر عليه فتضعفه.

اختلال مالي
تعود النقاط الضعيفة للاقتصاد الإيراني إلى عدة أسباب في مقدمتها العجز المزمن للميزانية العامة. ففي ميزانية عام 2016/2017 (تبدأ السنة المالية في 21 آذار/مارس) بلغت إيرادات الدولة 1971 تريليون ريال. وتعتمد هذه الإيرادات على مصدرين أساسيين هما الضرائب والعوائد النفطية. تشكل الضرائب 45.6% من هذه الإيرادات نصفها تقريباً من الضرائب غير المباشرة التي ترتفع سنويا فتسهم مساهمة فاعلة في التضخم. أما النفط فيمثل 35.6% من الإيرادات. ولم تتحسن مكانته في السنوات الأخيرة بسبب تباطؤ أسعار الخام. إيران هي الدولة الوحيدة في منطقة الخليج التي استطاعت تنويع مصادر إيراداتها العامة وعدم الاقتصار على العوائد النفطية، بيد أن هذا المكسب تحقق على حساب المكلفين بالضرائب.
أما النفقات العامة فقد بلغت 2335 تريليون ريال. وتحتل الاعتمادات العسكرية دوراً كبيراً حيث تجاوزت ثلاثمائة تريليون ريال. وعلى هذا الأساس بلغ العجز المالي 364 تريليون ريال. ويرتفع سنوياً حتى تضاعف حجمه مقارنة بالعام السابق.
والمشكلة الأخطر هي تمويله بالإصدارات النقدية التي أدت إلى انتفاخ الكتلة النقدية فارتفع التضخم. في نيسان/أبريل 2016 وحسب البنك المركزي الإيراني بلغ معدل ارتفاع أسعار الاستهلاك 7.4% وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 2%. وفي نفس الشهر من العام الجاري 2017 ازدادت أسعار الاستهلاك بنسبة 11.9% وأسعار المواد الغذائية بنسبة 17.8%. بطبيعة الحال كلما ارتفع التضخم تضرر الفقراء وأصحاب الدخل المحدود خاصة عندما يتعلق الأمر بمواد ضرورية للمعيشة.
ويقود التضخم عادة إلى رفع أسعار الفائدة بحيث تصبح أعلى من المعدل العام للتضخم. وهذه السياسة متبعة في جميع البلدان للمحافظة على قيمة المدخرات. لذلك وصلت أسعار الفائدة في إيران إلى 18%. عندئذ أصبح ثمن القروض مرتفعاً فتراجع الاستثمار وهبط الإنتاج والتشغيل فتفاقمت البطالة.
كما قاد ارتفاع عرض النقود إلى تدهور القيمة التعادلية للريال. انخفض سعر صرفه انخفاضاً هائلاً خلال فترة قصيرة نسبياً. ففي منتصف أيار/مايو 2017 بلغ سعر صرف الدولار 32441 ريالاً مقابل 12260 ريالاً في نفس الشهر من عام 2012. أي هبطت قيمة الريال بمعدل سنوي قدره 32%.
علماً بأن السياسة النقدية الإيرانية تطبق نظام ازدواجية الأسعار، إذ يوجد إلى جانب هذا السعر المخصص لاستيراد السلع الضرورية للمعيشة سعر السوق الذي يستخدم للمبادلات التجارية الأخرى والذي وصل حالياً إلى أكثر من 40 ألف ريال للدولار.
يدل هذا التدهور على عدم رغبة البنك المركزي في استهداف قيمة تعادلية معينة وثابتة للريال، لأن ذلك يتطلب ضخ كميات كبيرة من الدولارات في السوق فيحدث هبوط مفاجئ بل واستنزاف للاحتياطي النقدي. تخلق إذاً مشكلة جديدة ربما دون تحسين القيمة التعادلية بصورة مقبولة.

ما دور العقوبات الدولية؟
جرت العادة على إلقاء تبعة المشاكل المالية والتجارية والاستثمارية على العقوبات الدولية. والواقع لابد من دراسات معمقة ومستفيضة وموضوعية توضح الثقل الحقيقي لهذه العقوبات. فمن المعلوم أن مجلس الأمن اتخذ قراراً في نهاية 2006 بفرض عقوبات اقتصادية على إيران بسبب برنامجها النووي تتضمن تجميد أموالها المودعة في مصارف الدول الأخرى. تم لاحقاً اتخاذ قرارات وسعت بموجبها العقوبات. وبعد التوصل إلى اتفاق بشأن هذا البرنامج وافق المجلس على رفعها في منتصف 2015.
مما لاشك فيه أثرت هذه العقوبات على الوضع الاقتصادي للبلد. لكن السؤال يتعلق بدرجة هذا التأثير.
من خلال قراءة المؤشرات يبدو أن العلاقة بين المشاكل الاقتصادية والعقوبات الدولية ضعيفة. فالكثير من هذه العقوبات لم تطبق بصورة فاعلة.
من ناحية الميزان التجاري لم يتسبب قرار رفع العقوبات بزيادة الصادرات أو الواردات. بقيت هذه وتلك في مستوى عام 2011. ولم تشهد الاستثمارات الأجنبية المباشرة أي تحسن بعد رفع الحصار بل تشير الإحصاءات الرسمية إلى العكس تماماً، فقد انخفضت من 4278 مليون دولار في عام 2011 إلى 1686 مليون دولار في عام 2016. ولم يرتفع سعر صرف الريال بل استمر تدهوره.
يتمثل المكسب الأهم في الإفراج عن الأموال المجمدة والبالغة نحو مائة مليار دولار والتي ستعطي نفساً جديداً لميزانية الدولة في السنوات القادمة.
نلاحظ من خلال الفقرة الأولى أعلاه أن التقدم التكنولوجي حدث خلال فترة الحصار الاقتصادي، وبالتالي قد تحدث نتائج سلبية بعد زوال الشكوك في إعادة فرضه، لأن وضعاً خالياً من شبح العقوبات يشجع الشركات الأجنبية على التنافس من أجل كسب السوق الإيرانية. عندئذ تتراجع الصناعات المحلية، وبالتالي لا مفر من زيادة الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية. من الناحية القانونية يحق لإيران فرض هذه الزيادة لعدم التزام البلد باتفاقات منظمة التجارة العالمية لأنه ببساطة لا يتمتع بعضويتها. لكن السياسة الجمركية ليست العلاج الملائم. ينبغي أن تقتصر وظيفتها على استغلال الوقت لمساعدة الصناعات المحلية من أجل تحسين الجودة وتقليل كلفة الإنتاج، ولا يتحقق ذلك إلا بالتقدم التكنولوجي.
تكمن معالجة المشاكل المالية في التصدي للفساد المستشري في الدولة الذي أشار إليه برنامج “الاقتصاد المقاوم”. ولابد من بذل قصارى الجهود لتهدئة التوترات السياسية مع دول الخليج، ويتعين تقليص الإنفاق العسكري الذي أنهك مالية الدولة وتخصيص الأموال الناجمة عنه للتنمية التكنولوجية. عندئذ يتم الإصلاح الاقتصادي حتى وإن لم ترتفع أسعار النفط.

منشورات أخرى للكاتب