التدخل الإيراني في اليمن: أسبابه ومستقبله

فشل الثورة في البحرين وتحول سوريا إلى بؤرة صراع إقليمي جعل إيران تسعى إلى توسيع ساحة الصراع الإقليمي

اليمن تحولت من ساحة تجاذبات إقليمية إلى ساحة حرب إقليمية بأدوات محلية

إذا انتهت الحرب بصيغة سياسية تضمن لجماعة الحوثي البقاء ربما يستمر النفوذ الإيراني وقد يتضاعف

أي سلطة سياسية ستنشأ بعد الحرب اليمنية ستكون ولاءاتها عابرة للحدود الوطنية

منذ قيام الثورة الإسلامية (1979)، سعت إيران إلى خلق حضور اقليمي متمايز عن غيرها من دول المنطقة، يُمكِّنها من صدارة العالم العربي والإسلامي وشغل فراغ القوة في المنطقة العربية بعد هزيمة 1976؛ ولتحقيق هذا الهدف، ركزت إيران في سياستها الدولية على عدد من الوسائل منها: تصدير شعارات “الثورة الإسلامية” المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والداعمة لقضية فلسطين التي تجذب المشاعر العربية والإسلامية، ودعم وتوظيف “التجمعات الشيعية” داخل البلدان العربية، على اختلاف مذهب بعض هذه التجمعات عن مذهبها الشيعي، وتقديم نفسها كراعي إقليمي لها، ومكنها ذلك من استخدامها كورقة ضغط ضد الحكومات العربية لخدمة مصالحها الاستراتيجية، حيث أسهم عدد من هذه التجمعات في تعزيز نفوذ إيران داخل دولها.

بموازاة دعمها للتجمعات الشيعية العربية تحت مظلة أنظمة سُنية، عملت إيران لاستثمار الأزمات والتغيرات السياسية التي تشهدها دول المنطقة العربية، مما جعلها تشكل تهديداً سياسياً وأمنياً حقيقياً على عدد من الدول العربية، خاصة دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. ومع اشتداد التنافس الإقليمي بين إيران والمملكة العربية السعودية، تبنت إيران استراتيجية أكثر نشاطاً وعمدت للبحث عن مناطق نفوذ جديدة أخرى، حتى لو كانت بعيدة عن نطاق الحزام الشيعي في المنطقة، فبدأ التدخل الإيراني في اليمن في هذا المرحلة، حيث دعمت زعامات دينية داخل الطائفة الزيدية التي تبنت شعارات الثورة الإسلامية الإيرانية، ونجحت إيران في استثمار ذلك سياسياً ومنازعة السعودية في مناطق نفوذها، حيث تعتبر اليمن من أقوى مراكز النفوذ السعودي في المنطقة، وتمكنت إيران من تعطيل قدرة ونفوذ السعودية، ليس فقط عبر توجيه التجمعات الشيعية في بلادها، بل وتطويق المملكة من حدودها الجنوبية.

لم تكن الساحة اليمنية تمثل أولوية بالنسبة لإيران في إطار مصالحها الاستراتيجية الملحة، بل ساحة ثانوية وذلك لبعدها عن حدودها ووقوعها خارج نطاق الحزام الشيعي. لم يكن نفاذ إيران داخل الطائفة الزيدية في اليمن أمراً سهلاً، فعلاوة على الاختلافات الجوهرية بين المذهب الزيدي والمذهب الجعفري الذي تعتنقه السلطة الحاكمة في إيران، لم يعاني أتباع المذهب الزيدي أي شكل من أشكال التمييز السياسي أو الديني أو الاجتماعي بحيث تستطيع إيران استثمار مظلوميتهم سياسياً، كما فعلت في دول عربية أخرى؛ لذا لم تقم السياسة الإيرانية في البداية بنسج علاقات مع الطائفة الزيدية بشكل مباشر، وبدأت علاقتها بها عن طريق الحوزات الشيعية في إيران التي استضافت عدد من علماء الزيدية، أمثال “صلاح بن فلتة” و”بدر الدين الحوثي” اللذين تأثرا بالثورة الإسلامية وعادا إلى اليمن ليشكلا تياراً ثقافياً دينياً زيدياً تحول إلى اتجاه فكري حقق تقارباً سياسياً مع إيران، وإلى هذه الفترة يعود تأسيس “اتحاد الشباب” الذي تحول فيما بعد إلى “منتدى الشباب المؤمن”، ثم “تنظيم الشباب المؤمن” وليصبح بعد أقل من عقدين “الحركة الحوثية” بقيادة “حسين بدر الدين الحوثي” الذي تبنى شعارات الثورة الإسلامية ونهجها السياسي؛ وأسفرت هذه المرحلة التي امتدت إلى نهاية الألفية الثانية إلى توثيق إيران لصلاتها بجماعة الحوثي وتقديم منح دراسية واستضافة مرجعيات دينية حوثية.

أدى ضعف نظام علي عبدالله صالح وفشل الدولة المركزية في بسط سلتطها على المدن اليمنية واختلال توزيع الثروة إلى نشوء مظلومية جماعة الحوثي التي شن صالح عليها ستة حروب (2004- 2009)، كما لعبت كل هذه العوامل إضافة إلى بروز الحوثيين في خلق بيئة مناسبة لتدخل إيران في اليمن، ودعمها لمظلومية جماعة الحوثيين في الساحة الدولية؛ وقد أسهمت مشاركة النظام السعودي في الحرب السادسة ضد الحوثيين في تبني إيران لهذه القوى العسكرية المسلحة الصاعدة، ذات الطموح السياسي والتي وإن لم تتطابق مع المذهب الشيعي الإيراني، إلا أن بإمكان ايران استثمارها في حربها ضد المد الوهابي السعودي.

كما ساعدت التحولات التي شهدتها البلدان العربية بعد ثورات الربيع العربي، وبالأخص في دول مثل سوريا والبحرين واليمن، إلى جعل هذه البلدان ساحة لتجاذبات نفوذ القوى الإقليمية، وطغى عليها التنافس السعودي-الإيراني. ففي اليمن، انتهت الثورة اليمنية إلى صيغة توافقية، “المبادرة الخليجية” التي فرضت من قبل دول الخليج وعلى رأسها السعودية؛ حيث حصنت التسوية السياسية نظام “علي عبدالله صالح”، وأبقت على أسباب الصراع لتؤدي في النهاية لتفجر الأوضاع وخروجها كلية عن السيطرة، واستثمرت القوى الإقليمية، وعلى رأسها إيران، هذه الأوضاع للتدخل أكثر في اليمن. ويمكن القول أن فشل الثورة في البحرين، وتحول سوريا إلى بؤرة صراع إقليمي، جعل إيران تسعى إلى توسيع ساحة الصراع الإقليمي ونقل جزء من معاركها إلى جبهات أمامية جديدة، للضغط على منافسيها وتخفيف الضغط عليها في سوريا، فوجهت أنظارها إلى اليمن التي حكمتها سلطة انتقالية ضعيفة ليس لها قرار سيادي وطني، مكثفة من دعمها السياسي والإعلامي والعسكري لجماعة الحوثي كقوة سياسية وعسكرية يمكنها الصعود للواجهة السياسية لليمن ودعم سياسات ومواقف إيران. لكن ما لبثت هذه القوة الصاعدة أن فاجأت إيران ذاتها بتصعيد سياسي وعسكري غير محسوب، منتهية بالانقلاب على السلطة الانتقالية واحتلال العاصمة صنعاء والسيطرة على مؤسسات الدولة اليمنية.

بدى لإيران أن سيطرة جماعة الحوثي، كقوة سياسية يمنية تتقاطع معها مذهبياً وتتبنى شعاراتها السياسية، يمثل انتصاراً استراتيجياً لها، إذ يتيح لها ذلك الاستفادة من ساحة نفوذ أخرى واستثمارها سياسياً أو التفاوض بشأنها، خاصة بعد الاستنزاف الذي ما زالت تتعرض له في سوريا، فكرست إيران حضورها في المشهد السياسي اليمني عبر دعمها لجماعة الحوثي عسكرياً ودبلوماسياً، وبشكل مباشر هذه المرة، حد توقيع اتفاقيات تعاون اقتصادية لا تتم إلا بين دولة ودولة وليس دولة وجماعة، وتعد هذه الاتفاقية اعترافاً سياسياً بسلطة جماعة الحوثي وحكمها في اليمن، كما سيرت رحلات للطيران الإيراني إلى صنعاء وتوفير منصات إعلامية للجماعة ومناصريها وتكريس إعلامها لدعم جماعة الحوثي.

مع بدء العمليات العسكرية للتحالف العربي بقيادة السعودية، “عاصفة الحزم”، في 26 مارس الماضي، تحولت اليمن من ساحة تجاذبات إقليمية إلى ساحة حرب إقليمية بأدوات محلية، واستفادت إيران من بؤرة جديدة للصراع الإقليمي والتنافس السعودي-الإيراني، بتقديم نفسها في المجتمع الدولي كوصي إقليمي لحماية جماعة الحوثي وتمثيل مصالحها؛ وقد بدأت إيران في الأشهر الأولى للحرب في اليمن بتصعيد دور الوكيل الإقليمي، وكرست خطابها الإعلامي وتصريحات مسؤوليها لتسويق الحرب في اليمن على أنها حرب دول عربية سنية على أقلية يمنية شيعية، متجاهلة الأبعاد السياسية الداخلية التي أفرزتها الحرب؛ كما حاولت كسر الحصار الذي فرضته السعودية على اليمن بإرسال سفن إغاثة إيرانية، إلا أن الاتفاق النووي الإيراني-الأمريكي ألقى بأثره على إدارة إيران للحرب في اليمن، إذ ألقت أهمية الاتفاق النووي لدى إيران بظلاله على موقفها الداعم لجماعة الحوثي، وحرصت على التأكيد بأن حل الأزمة اليمنية لا يكون إلا بالحل السياسي وشاركت في النشاط الدبلوماسي لوقف الحرب في اليمن.

إن بلداً كاليمن، وقد تحول إلى ساحة حرب مفتوحة لأطراف صراع محليين وإقليمين، من الصعب أن ينتهي فيه شكل وطبيعة التدخل الإقليمي في الوقت القريب، وإنما قد يستمر طويلاً بشكله الحالي أو قد يتضاعف في المستقبل، إذ يخضع “التدخل الإقليمي” في النهاية لمتغيرات داخلية وخارجية عديدة ولمصالح متشابكة ومشاكل وطنية معقدة كثيرة. يرتبط مستقبل التدخل الإيراني في اليمن بشكل رئيسي بكيفية حسم الحرب الدائرة حالياً في اليمن، فإذا انتهت الحرب باندحار جماعة الحوثي والقضاء عليها، ربما يتقلص الدور الإيراني، لكنه لن يمنع تجدد العنف في مراحل لاحقة، وإن انتهت الحرب بصيغة سياسية تضمن لجماعة الحوثي البقاء في السلطة، ربما يستمر النفوذ الإيراني بشكله الحالي وقد يتضاعف، وفي الحالتين ستلعب التحولات السياسية داخل إيران بعد توقيعها الاتفاق النووي وربما استغلال أرصدتها المالية المجمدة دوراً رئيسياً في قرارها باستمرار التدخل ودعم وكلائها المحلين؛ كما يتوقف تزايد النفوذ الإيراني على الاتجاهات السياسية داخل جماعة الحوثي التي على ما يبدو يرفض بعض قياداتها العلاقة مع إيران، كما قد يؤدي نشوء سلطة سياسية قوية في اليمن إلى وقف التدخلات الإقليمية.

في حالة نموذجية للفوضى كالحالة اليمنية، حيث تزمع الأطراف المحلية والإقليمية إلى حسم الحرب وفق تقديراتها السياسية، فإن أي سلطة سياسية ستنشأ بعد الحرب ستكون ولاءاتها عابرة للحدود الوطنية، بالإضافة إلى ما ستشهده اليمن من نشاط للتنظيمات الجهادية التي وجدت في الفوضى التي انتجتها الحرب أرضاً ملائمة للتوسع والتمدد. وهكذا فإنه من الصعب، في شروط موضوعية تنتج في النهابة بلاداً منزوعة السيادة الوطنية، التنبؤ بتوقف أشكال التدخلات الإقليمية، بما فيها التدخل الإيراني.

منشورات أخرى للكاتب