مؤتمر صالح: معركة مصيرية ومستقبل بلا ملامح

خلافاً للأحزاب السياسية اليمنية الإيديولوجية والعقائدية الطابع، شذ حزب المؤتمر الشعبي العام في هويته السياسية العابرة إذ تشكل من توليفة شعبية لوجاهات اجتماعية وسياسية وعسكرية وقبلية تمثل قوام مراكز القوى التقليدية الموالية لمؤسس الحزب الرئيس السابق علي عبدالله صالح، شكلت هذه التوليفة سمة مميزة لغالبية أحزاب السلطة في الدول العربية، لا اليمن وحده.

راهن صالح أثناء تأسيسه حزب المؤتمر على أن الهوية المنفتحة ستجعله حزباً شعبياً أكثر قدرة على الاستمرارية، كما ستمنحه ميزة تفوق على الأحزاب السياسية اليمنية العقائدية والإيديولوجية لتجرده الفكري والعقائدي الذي يمنحه مرونة سياسية تفتقدها الأحزاب الأخرى، وهو ما يؤهله للانتشار أفقياً عبر التغلغل في طبقات المجتمع والتمدد إلى جميع المدن.

إن حزباً كالمؤتمر الشعبي العام، نشأ في رحم السلطة واستفاد من امتيازاتها طيلة ثلاثة عقود من حكم “صالح” باعتباره حزباً حاكم وتمثل معظم قياداته جهاز الدولة، جعله محكوماً بتجاذبات السلطة السياسية وصراعاتها الفوقية والبينية، وبمتقضى تموضعات صالح كرئيس للسلطة لا كرئيس للحزب.

هذا الارتباط التلازمي بين المؤتمر ومؤسسه جعل المؤتمر يتأثر بالهزات التي تتعرض لها سلطة “صالح”، إذ انقسم حزب المؤتمر أثناء اندلاع ثورة 2011 ضد نظام صالح، وذلك نتيجة لانقسام رأس السلطة السياسية في اليمن، ولم تمضِ أشهر من الثورة حتى تبلور في الساحة اليمنية حزب انبثق من مؤتمر “صالح” موالٍ للرئيس اليمني “عبده ربه منصور هادي”، نائب رئيس المؤتمر سابقاً، تشكل هذا الحزب من قيادات الصف الثاني من المؤتمر التي لم تجد نفسها ممثلة سياسياً في مؤتمر “صالح” الذي ظل رغم الانشقاقات يحتفظ بمعظم القاعدة الشعبية التاريخية للمؤتمر، فضلاً عن معظم القيادات السياسية والعسكرية والقبلية المؤثرة.

تضعضُع مؤتمر “صالح” بعد انقسامه أثناء الثورة لم يفقده أدواته السياسية، إذ ظل حاضراً في المشهد اليمني من خلال شخص “صالح”، وشكلت تحالفاته السياسية الموجه السياسي للمؤتمر، حيث انخرطت قواعده وقياداته في تحالف الانقلاب بين صالح وجماعة الحوثي بعد انقلابهما على سلطة المرحلة الانتقالية في سبتمبر 2014، وظلت قواعد الحزب وقياداته طيلة الحرب محكومة في توجهاتها السياسية بخطابات “صالح” وطبيعة علاقته مع حليفه، التي دخلت في مرحلة لاحقة طور التجاذبات السياسية بعد انخراط الحليفين في تشيكل حكومة الانقلاب في صنعاء، إلا أن إشكالية حزب الفرد كحزب المؤتمر، الذي تمحور حول “صالح”، أن بقاءه في المشهد، وكذلك مصيره السياسي ارتبط بمصير مؤسسه، وأنه لا يستطيع الخروج سليماً من معارك صالح.

تطورات الأحداث السياسية في صنعاء كشفت بعد تفجر الصراع بين “صالح” وحليفه السابق جماعة الحوثي عن افتقاد المؤتمر لجهاز تنظيمي، إذ تماهت الدوائر السياسية والقواعد الشعبية للمؤتمر حول شخص “صالح”، حيث شكلت كارزميته وطبيعة إدارة علاقاته مع خصومه وحلفائه، فضلاً عن خبرته الطويلة في السلطة، غطاءاً سياسياً للمؤتمر وأعضاءه، إذ ظلت هذه العوامل وحدها ما منح أعضاء المؤتمر وقياداته القدرة على الحركة في الميدان ومواجهة الخصوم.

أداء المؤتمر في الحرب الخاطفة بين صالح وجماعة الحوثي أثبت وجود خلل عميق في إدارة الأزمة، عطلت صدمة الصراع الجهاز الإداري للمؤتمر من تشبيك علاقاته مع قواعده وبين أجهزة الحزب الأخرى، فضلاً عن عجزه عن  اتخاذ خطوة سياسية لحماية أعضاءه، فعلى الرغم من توجيه صالح لقواعد حزبه في خطابه الأخير بالانخراط في الإنتفاضة الشعبية ضد الحوثيين، إلا أن القاعدة الشعبية للمؤتمر فقدت القدرة على التحرك بعد احتلال جماعة الحوثي للقنوات الإعلامية للمؤتمر، التي كان يوجه صالح منها تعليماته لأنصاره، وهو ما أدى إلى التزام القواعد الحزبية الحياد السلبي، ثم تعرضها للتنكيل والملاحقة.

شكل مقتل علي عبدالله صالح على يد جماعة الحوثي ضربة قاصمة للمؤتمر، إذ كشف أن حضوره الشعبي في مهرجانات صالح لم يكن سوى ظاهرة سياسية مرتبطة بعلاقة الجماهير المباشرة مع صالح، الرئيس المؤسس، وأن هذه الظاهرة تغيب بغياب المؤثر، حيث أدى غياب صالح الرأس السياسي والموجه للمؤتمر، إلى انفراط قواعده، وعجزت القاعدة الشعبية للحزب وكذلك القيادات الوسطى، عن تخليق قيادة أخرى، أو تشكيل غرفة عمليات مصغرة تقود المؤتمر في هذه المرحلة المفصلية من تاريخه. فعلياً، أصاب مقتل “صالح” القدرة والأثر السياسيين للحزب بالشلل، وهو ما جعل المؤتمر مرتبكاً في التعاطي المسؤول مع مقتل رئيسه، وبرز ذلك في تخبط البيانات المتضاربة التي أصدرها المؤتمر حول اغتيال صالح.

بمقتل صالح ونائبه عارف الزوكا، دخل المؤتمر الشعبي العام مرحلة مظلمة من تاريخه، إذ لم يتعرض المؤتمر فقط لفقدان رأسه السياسي ورئيسه القادم، بل تم تجريف القيادات العليا التي صنعت إلى جانب “صالح” تاريخ المؤتمر، وقادت مؤسسات الدولة اليمنية طيلة عقود؛ اغتالت جماعة الحوثي العشرات من أعضاء المؤتمر الشعبي العام من قيادات الصف الأول، وهو ما يشكل خطورة كبيرة على مصير الحزب في الوقت الراهن وعلى مستقبله السياسي.

تجريف المؤتمر وإفراغه من قيادات الدولة التكنوقراط، ووضع جماعة الحوثي للعشرات من القيادات السياسية والعسكرية والقبلية المنتمية للمؤتمر رهن الإقامة الجبرية، وتجريم قواعده الشعبية واختطاف أعضائه، جعل مؤتمر صالح في حالة شلل ربما لن يفيق منها إلا بعد وقت طويل.

إن السياقات السياسية التي أعقبت مقتل صالح، والحملات الانتقامية التي قامت بها جماعة الحوثي ضد أعضاء المؤتمر، تجعل من الخوض في مستقبل الأخير مرهوناً بالتطورات التي تشهدها صنعاء حالياً، إذ تشير كثير من المعطيات أن جماعة الحوثي تسعى إلى إزاحة كل رموز مؤتمر صالح من المشهد السياسي، لا بقصد الانتقام بل لصناعة مؤتمر آخر موال لها، يكون رديفاً سياسياً للجماعة، أو لتخليق حزب هجين من أعضاء المؤتمر الموالين لها لينخرط معها شكلياً في إدارة سلطتها في صنعاء والمناطق الواقعة تحت سيطرتها.

أثر تحالف مؤتمر صالح مع الحوثيين على بنية الحزب التي كانت قابلة للاختراق، ونجحت جماعة الحوثي بالتغلغل في أوساط الحزب واستمالة قياداته القبلية والعسكرية الوسطى التي تنتمي للهاشمية، وهو ما يفسر تعطيل جزء من قاعدة المؤتمر أثناء معركة “صالح”، وقد ينجح الحوثي كما يرى كثير من المتابعين في تجميع المؤتمريين “المتحوثيين” نحو تشكيل مؤتمر “حوثي” دون ملامح.

التجريف الذي تعرض له “المؤتمر” لم يتعرض له أي حزب سياسي يمني عدا الحزب الاشتراكي بعد حرب صيف 94، وسيحتاج أعضاء المؤتمر وقتاً طويلاً للملمة صفوفهم، وقد تنجح القيادات المؤتمرية التي نجت من الملاحقات في صنعاء في إنعاش “مؤتمر صالح” وقيادة مؤتمر ينتهج خطى “صالح” ومواقفه السياسية قبل اغتياله؛ ما قد يصعب الأمور هو أن حزباً كالمؤتمر الشعبي العام لا يستطيع ممارسة وجوده خارج السلطة والتحول إلى المعارضة، إذ يفتقد للأيديولوجيا الضابطة والمحركة لذلك. وعليه، قد يعيد تنظيم المؤتمر نفسه من خلال سلطة الرئيس “هادي” عبر انضمام قيادات مؤتمر صالح لشرعية “هادي”.

مهما كانت السيناريوهات المختلفة للمؤتمر الشعبي العام مظلمة، إلا أنه لن يختفي تماماً من المشهد السياسي في البلاد، قد يبقى ضمن تشكيلات سياسية أخرى مختلفة عن نسخته الأصلية، لكن المؤكد أن مستقبل المؤتمر كحزب فقد رئيسه وزعيمه ومؤسسه وأباه الروحي وخيرة زعاماته السياسية المحنكة، لن يكون أبداً كماضيه.

منشورات أخرى للكاتب