حزب الإصلاح في اليمن: لعبة التحالفات المرنة

تعد التحالفات السياسية للتجمع اليمني للإصلاح حالة نموذجية لدراسة آليات اشتغالات جماعات الإسلام السياسي في اليمن. تكشف تحالفاته المتغيرة على قدرة فريدة في المراوغة السياسية، مكنته من التعاطي مع مختلف المنعطفات التاريخية التي شهدتها اليمن، أدار علاقته بالأنظمة السياسية المتعاقبة بمهارة جعلته إما جزءاً من السلطة أو مؤثراً فيها، متكئاً على اصطفافات جماعة الإخوان المسلمين كمرجعية سياسية ودينية، وهو ما جعل من تحالفاته اليمنية عرضة لاهتزازات وتناقضات سياسية. قد يلجأ حزب الاصلاح إلى أبواب مواربة لمد جسور مع خصومه أو التحالف معهم في حال دفعت تموضعات جماعة الإخوان المسلمين في الإقليم بذلك، ليضمن عدم خروجه عن خط الجماعة، وكذلك استمراره في المشهد السياسي كحزب يسعى للوصول إلى السلطة.

منذ تأسيسه في بداية التسعينيات، انتقل حزب الإصلاح من تحالف سياسي إلى آخر وفقاً لحساباته المحلية والإقليمية، وفي هذا السياق يكتسب تحالفه التاريخي مع الرئيس السابق “علي عبدالله صالح” أهمية رئيسية وذلك لأثره على تموضعات حزب الإصلاح المستقبلية، ولتداعياته على الصعيد الوطني أيضاً، وجد حزب الإصلاح في الساحة اليمنية كرديف ديني للمؤتمر الشعبي العام “حزب صالح”، وذلك لمواجهة القوى اليسارية والقومية، وقاد “الإصلاح” معارك “صالح” وحروبه الداخلية، بما فيها حرب صيف 1994 جنوب اليمن، وحتى بعد انفراط تحالفهما، وانضمام حزب الإصلاح إلى التكتل المعارض لنظام “صالح” (تكتل أحزاب اللقاء المشترك)، استمر “الإصلاح” في ولاءه لـ ـ”صالح”، وذلك التزاماً بالخط السياسي لجماعة الإخوان المسلمين المهادن للأنظمة العربية، وقتئذ؛ اكتفى حزب الإصلاح بالمطالبة في إصلاح نظام “صالح” لا إسقاطه أثناء الثورة اليمنية.

انخراط جماعة الإخوان المسلمين في ثورات الربيع العربي شكل متغيراً رئيساً في صياغة تحالفات حزب الإصلاح، إذ جعل التحالفات المتولدة عن الثورة أساساً لتحالفاته وتموضعاته السياسية، ولأن حزب الاصلاح لا يجيد التموضع خارج السلطة، فقد تبنى شرعية الرئيس اليمني “عبده ربه منصور هادي” ليضمن نفوذه في سلطة المرحلة الإنتقالية، ومن ثم كان انقلاب جماعة الحوثي و”صالح” على توافقيات المرحلة الإنتقالية فرصة تاريخية لحزب الإصلاح، لتكريس نفسه كمدافع عن شرعية الرئيس “هادي”، وذلك للانتقام من خصومه “جماعة الحوثي”، و”صالح”.

مثلت أقلمة الحرب في اليمن نقطة تحول محورية في التموضعات السياسيىة لحزب الإصلاح، إذ انحاز لخيارات حليفه الإقليمي، المملكة العربية السعودية، قائدة التدخل العسكري، انطلاقاً من علاقتهما التاريخية التي ترتكز على تنسيق مشترك في الصراعات والحروب التي شهدتها اليمن، واعتمدت السعودية على حزب الإصلاح وقيادته السياسية والعسكرية والقبلية كركيزة أساسية لحسم الحرب في اليمن، في حين ضمن حزب الإصلاح حماية محلية مكنته من المشاركة في السلطة اليمنية، وحماية إقليمية حيدته عن معارك الإمارات العربية المتحدة، الدولة الثانية في التحالف، إضافة إلى الدعم المالي والعسكري السعودي الذي مكنه من تشكيل أذرع عسكرية ومليشاوية كوسيلة ردع في وجه خصومه وحلفائه.

أسهمت تناقضات أجندات الدول المتدخلة في اليمن بدفع حزب الإصلاح إلى التشبيك مع خصومه في مرحلة لاحقة، فقد أدى تحول اليمن إلى ساحة صراع رئيسية بين الإمارات وجماعة الإخوان المسلمين إلى تقليص الخيارات السياسية لحزب الإصلاح، خاصة مع بروز الجماعات السلفية كطرف محلي منافس، وتغول المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن، واستخدامهما من قبل الإمارات في صراعها مع حزب الإصلاح، وفي حين ارتأى حزب الإصلاح تأجيل معركته مع الإمارات ومحاولة استمالها بباينات مؤيدة، ركز معركته ضد الجماعات السلفية والمجلس الإنتقالي الجنوبي، إلا أن اندلاع الأزمة الخليجية بين السعودية والإمارات من جهة، وقطر من جهة أخرى، وتبني جماعة الإخوان المسلمين لخيارات قطر في هذا الصراع، وضعت حزب الإصلاح في مأزق سياسي، فعلى الرغم من محاولته استرضاء حليفه السعودي، عبر تنصله من جماعة الإخوان المسلمين، فإن ذلك لم يكن كافياً، ومن ثم اعتمد حزب الاصلاح على آلية توزيع الأدوار والمواقف في صفوف قيادته كتكتيك مرحلي للتعاطي مع حلفائه وخصومه على السواء، تموضعت قيادته العليا مع التوجه السعودي في اليمن والإقليم، وتبنت قياداته الشبابية خط قطر وتركيا، بما في ذلك توظيفها جرائم التحالف العربي في اليمن كسلاح ضد السعودية، في حين ظل حزب الإصلاح صامتاً عن انتهاكات التحالف بحق اليمنيين طيلة الحرب.

إن استراتيجية المراوغة السياسية التي اعتمدها حزب الإصلاح للتعاطي مع حلفائه وخصومه لم تصمد في بيئة الحرب اليمنية، خلقت الحرب حالة فرز سياسي حادة أجبرت جميع الأحزاب السياسية على التموضع مع طرف ضد آخر، كما أن توزيع الأدوار مع الحلفاء قد يصمد في الجبهات السياسية، لكنه يفشل في جبهات الحرب التي ترتكز على تنسيق عسكري مباشر بين الحلفاء على الأرض، إضافة إلى أن مقتل الرئيس السابق “علي عبدالله صالح” على يد حليفه “جماعة الحوثي” خلط أوراق التحالفات والتموضعات السياسية، التحق مؤتمر “صالح” في معسكر التحالف العربي، ويقود حالياً معركة تحرير مدينة الحديدة ضد مقاتلي جماعة الحوثي من خلال الجيش التابع للعميد “طارق محمد صالح”، وهو ما جعل حزب الإصلاح يدرك أن تحالفه مع الشرعية اليمنية لم يعد كافياً لضمان مستقبله في السلطة، وأن حظوظ مؤتمر “صالح، “خصمه اللدود”، ودعم الإمارات له قد يجعله طرفاً رئيسياً في المفاوضات السياسية مستقبلاً، مما دفع بحزب الإصلاح لإعادة صياغة تموضعاته السياسية، وخوض معاركه متكئاً على ثلاثة محاور، الأول: تركيز معركته الإعلامية والسياسية ضد مؤتمر “صالح”، مستخدماً ذريعة عدم اعترافه بالشرعية اليمنية لنزع مشروعيته الوطنية امام اليمنيين، المحور الثاني: فتح قنوات سياسية غير مباشرة مع جماعة الحوثي، معتمداً على تقارب قطري- ايراني في الساحة الإقليمية، والمحور الثالث: اختيار المعركة في جغرافية تحقق له الأفضلية على خصومه وحلفائه.

خلافاً لمعظم المدن اليمنية التي أعادت توزيع خارطة الأحزاب اليمنية بموجب تحالفات الحرب وحضورها في المشهد السياسي والعسكري، فإن مدينة تعز ظلت خارج هذه المعادلة، إذ استطاع حزب الإصلاح الحفاظ على قاعدته الجماهيرية في المدينة، مقابل إعاقته للأحزاب اليسارية والقومية، وكان ذلك نتيجة تراكم عمل طويل لحزب الإصلاح، فقد احتوى الأطراف القبلية المُسلحة مستغلاً علاقتها بـ”صالح” ابان تحالفه معه مطلع التسعينيات، كما اعتمد على استنساخ تجربة القبيلة في الشمال إلى مدينة تعز، وتكريس المشيخات القبلية كحاضنة قبلية له في مناطق الأطراف في تعز، فضلاً عن الدور التاريخي الذي لعبته المعاهد العلمية التي ولدت حاضنة حزبية لحزب الاصلاح في المدينة، ومن ثم كانت مدينة تعز، خياراً مثالياً بالنسبة لحزب الإصلاح لتصفية حساباته السياسية مع حلفائه وخصومه.

منذ بداية الحرب، أصبح حزب الإصلاح قوة سياسية وعسكرية شبة مطلقة في مدينة تعز، وتمظهر ذلك في تمثيله السياسي العالي في المؤسسات المدنية والعسكرية، بما في ذلك امتلاكه تشكيلات مسلحة خاصة، ومليشيات قبلية، وفي حين ضبط حزب الإصلاح علاقته مع مختلف القوى السياسية والفصائلية على قاعدة امتثالهم لقوته، فإن بروز الجماعات السلفية كقوة مقاتلة في المدينة واشتداد حدة التنافس بينهما، جعله يخوض مواجهات مستمرة ضدها، وبشكل خاص جماعة القيادي السلفي “عبده فارع ” المكنى بـِ”أبو العباس”، كما نجح حزب الإصلاح في توظيف علاقته السياسية بالمحافظ السابق “علي المعمري” الموالي له لضرب خصومه، فقد استخدمه كغطاء رسمي لتنفيذ حملات أمنية ضد جماعة أبو العباس، وكذلك لتكريس وجوده في معظم المناصب الإدارية والعسكرية في المدينة وأريافها، إلا أن تولي الدكتور “أمين محمود” منصب المحافظ، خلفاً للمعمري، جعل حزب الإصلاح ينقل معركته إلى مستوى أكثر عنفاً وحدة، إذ أدرك حزب الاصلاح أنه بات محاصراً من أربعة قوى محلية مدعومة من الإمارات تسعى للإطاحة به، وهي: المجلس الإنتقالي الجنوبي، مؤتمر “صالح”، جماعة أبو العباس في مدينة تعز، إضافة إلى جماعة الحوثي، التي مهما تواطئ معها حزب الإصلاح في هذه المرحلة فسيظلان خصمان عقائديان يتربصان ببعضهما البعض. يدرك حزب الإصلاح أنه ومع التزامه باستراتيجية المراوغة السياسية، فإن عليه اتباع وسائل أكثر صرامة لمواجهة خصومه في مدينة تعز.

تبدو معركة حزب الإصلاح في مدينة تعز معركة حياة أو موت، للذود عن آخر معاقله السياسية في البلاد، ويمثل تولي رأس السلطة المحلية من خارج دائرة نفوذ حزب الإصلاح سبباً رئيسياً في توقيت معركته ضد المحافظ، أدرك حزب الإصلاح أنه فقد حليفاً رئيسياً في المدينة، وأنه لم يعد محمياً بالسلطة المحلية كما كان سابقاً لفرض شروطه على القوى السياسية وفصائل المقاومة الأخرى، إلا أن الحزب وكعادته أدار معركته ضد المحافظ والقوى الأخرى بذكاء، لم يدخل في مواجهة عسكرية مباشرة ضد السلطة المحلية، على الرغم من قدرته على الاستيلاء على المحافظة عسكرياً، لكن لجأ لأدوات أخرى مكنته من ايصال رسالته السياسية لجميع القوى السياسية، بما فيها المحافظ، حيث استخدم سلاح تحريك الشارع في المدينة عبر مظاهرات سياسية ضد المحافظ، إلى جانب استمرار تواطئه مع قوى أخرى لتكريس حالة الإنفلات الإمني في المدينة، إضافة إلى توظيفه منظومته الإعلامية لتشويه المحافظ سياسياً باعتباره يمثل الأجندة الإماراتية في المدينة.

تعقد تحالفات حزب الإصلاح السياسية المحلية والإقليمية مع الطرف الذي سيمكنه من المشاركة في السلطة السياسية، ويخوض معاركه المباشرة وغير المباشرة ضد حلفائه وخصومه من أجل الوصول إلى السلطة، فمن تحالفه مع “صالح” إلى التحالف مع” هادي”، إلى معارك انتقامه من “مؤتمر صالح”، وتحشيده العسكري والسياسي للسيطرة على مدينة تعز، ظلت السلطة وحدها هي المحدد لتحركاته، وفي حين يمثل ذلك سمة جماعات الإسلام السياسي في اليمن على اختلاف ايدلوجياتها، حيث تتشابه في أدواتها، وأهدافها، فكما أسقطت جماعة الحوثي الدولة اليمنية وتسبب بحرب أهلية وتدخل اقليمي من أجل وصولها إلى السلطة، فإن حزب الإصلاح على استعداد دائم لخوض معركته من أجل السلطة.

منشورات أخرى للكاتب