بين استثمارات واشنطن وصواريخ تل أبيب: الخليج في مشهد معقَّد وتحولات حاسمة
في منتصف مايو 2025، قام الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، بزيارة رسمية إلى منطقة الخليج أُعلن خلالها عن توقيع مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية العملاقة التي تجاوزت تريليونات الدولارات. لم تمر أسابيع قليلة على تلك الزيارة حتى اندلعت المواجهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران، مخلفة موجات من التصعيد والتساؤلات الجادة حول طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج، وعن مدى التزام واشنطن الفعلي باستقرار حلفائها في منطقة تعتبر الأشد حساسية عالميًا على مستوى الأمن والطاقة.
من غير المنطقي، سياسيًا أو استراتيجيًا، أن يتم توقيع اتفاقيات استثمارية كبرى بين الولايات المتحدة ودول الخليج في مايو، ثم يُترك المجال مفتوحًا أمام تصعيد عسكري واسع في ذات المنطقة خلال شهر واحد، دون قراءة جادة لتبعات هذا التصعيد على تلك الاستثمارات وعلى مجمل الاستقرار الإقليمي.
المصالح الأمريكية في الخليج ليست منفصلة عن أمنه، وغني عن البيان التأكيد على أن مصدر الأموال التي سيتم ضخها في تلك الاستثمارات المعلنة حديثًا هي صادرات النفط الخليجية، التي باتت مهددة بشكل مباشر في حال تطورت الحرب لتشمل منشآت نفطية أو في حال عمدت طهران إلى إغلاق مضيق هرمز أو تعرضت القواعد الأمريكية المنتشرة في دول الخليج لهجمات من إيران أو حلفائها في العراق واليمن.
تاريخيًا، لطالما كانت علاقات عواصم الخليج مع واشنطن مقترنة بضمانات أمنية واضحة وقاطعة. اليوم، تثير طبيعة التصريحات الأمريكية الداعمة لإسرائيل في حربها على إيران والمُلوِّحة بدخول الحرب في أي لحظة، الشكوك حول ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة فعليًا للدفاع عن أمن الخليج، أم أنها تستخدم المنطقة كساحة حرب لإعادة توزيع النفوذ في المنطقة عبر أدوات غير مباشرة.
واشنطن الرابحة في جميع الأحوال
تبدو الولايات المتحدة غير مضطرة للتدخل العسكري في الحرب طالما أنها تستطيع جني المكاسب دون تكلفة باهظة. إذا نجحت إسرائيل في تحييد القدرات النووية الإيرانية وإضعاف القدرة الصاروخية لطهران، فإن واشنطن ستستفيد من خفض مستوى التهديد وستكون في موقع المعني بإعادة ترتيب المنطقة سياسيًا. أما إذا فشلت تل أبيب أو وجدت نفسها في مأزق عسكري، فإن الولايات المتحدة ستعود بصفتها الراعي الدبلوماسي القادر على إحياء المفاوضات النووية مع طهران. لا يمنع ذلك من أن واشنطن تنام بعيون مفتوحة، وأن التدخل المباشر قد يحدث في أي لحظة في ظل جاهزية قواتها القتالية في المنطقة.
التردد الأمريكي لا يعكس فقط غياب الحافز للتدخل بل يعكس وجود استراتيجية مزدوجة، تؤسس لواقع إقليمي جديد تقوم فيه واشنطن بدور “الموازن الأخير” دون أن تكون جزءًا مباشرًا من النزاعات والمواجهات المباشرة (عقيدة ترامب). لكن واشنطن بذلك، تضع دول الخليج في موقع الطرف المعرض للخطر دون تمكينه من التأثير على مجريات الأحداث أو مآلاتها.
ميدانيًا، تحافظ قوة الرد الإيراني عبر صواريخها الباليستية التي تتساقط على إسرائيل يوميًا على نسق معقول في المواجهات بين الطرفين. وهو أيضًا ما يجعل واشنطن أقل رغبة في التدخل العسكري المباشر. قبالة ذلك، قد تثير مهمة تدمير موقع فوردو المنيع، باعتبارها اللمسة الأخيرة في الحرب، شهية الرئيس دونالد ترامب للقيام بذلك يلي ذلك إعلان نهاية الحرب والعودة إلى العاصمة العمانية “مسقط” للجلوس على طاولة المفاوضات مجددًا.
الانقسام الخليجي وتفاوت مواقف الدول
خلاف بيانات اليوم الأول المنددة بالهجوم الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية، تبدو مواقف دول الخليج من التصعيد الأخير غير موحدة، وهو أمر لم يعد مستغربًا.
تتبنى كل من الإمارات والبحرين خطابًا محسوبًا يتماهى مع شبكة علاقاتهما المتقدمة مع إسرائيل. في المقابل، تبدو كل من قطر وسلطنة عمان أكثر دول الخليج قلقًا على خلفية علاقاتهما الوثيقة مع طهران والتهديدات الإسرائيلية المتصاعدة للدوحة ومسقط على خلفية مواقفهما من حرب غزة. وما بين الموقفين، يبرز الموقف السعودي الذي أدان الهجوم الإسرائيلي بشدة.
هذا الانقسام يُضعف الجبهة الخليجية، ويمنع تشكل موقف إقليمي موحد يمكن أن يُترجم إلى ضغط دبلوماسي أو حتى إلى تحصين أمني مشترك. كما أن غياب التنسيق الأمني الجماعي في ظل وجود قواعد أمريكية متفرقة يجعل كل دولة عرضة لمخاطر مختلفة، بحسب موقعها الجغرافي وتحالفاتها الفردية إقليميًا ودوليًا.
إسرائيل من الردع إلى الهيمنة
تتعامل إسرائيل مع التصعيد الأخير بوصفه لحظة تاريخية مناسبة لتحقيق أهداف تتجاوز البرنامج النووي الإيراني. يمكن ملاحظة أن الهجوم الإسرائيلي لم يقتصر على المنشآت النووية أو القواعد العسكرية بل استهدف البنى التحتية المدنية ومقرات إعلامية وتصفية كبار القادة العسكريين في إيران، وهو مشهد يُحاكي سياسة تهدف إلى تغيير النظام، أو على الأقل، إلى إنهاكه تمهيدًا لأزمات داخلية تؤدي لتغييره.
تسعى إسرائيل إلى تثبيت نفسها لا كقوة إقليمية كبرى بل كقوة وصاية على الأمن الإقليمي. وعبر شبكة من الاتفاقيات الأمنية والتقنية التي رسختها خلال السنوات الأخيرة مع دول الخليج، أصبحت تل أبيب لاعبًا لا يواجه فقط أعداءه بل يعيد تعريف شكل العلاقة مع حلفائه.
إن نجاح إسرائيل في تحجيم إيران قد لا ينعكس إيجابيًا على دول الخليج، بل قد يؤدي إلى مزيد من الانكشاف الأمني إذا ما تحولت إسرائيل إلى قوة إملاء سياسي في المنطقة. تؤكد التجربة في لبنان وسوريا ومصر أن تل أبيب لا تميز بين عدو وحليف عندما يتعلق الأمر بحماية أمنها أو تعزيز تفوقها في الإقليم. وفي هذا السياق، تبدو كل دول الخليج العربية تحت التهديد.
نحو استراتيجية خليجية مستقلة
تواجه دول الخليج اليوم لحظة اختبار مركّبة: فهي أمام خطر توسع الصراع بين إسرائيل وإيران، وفي ذات الوقت، أمام شريك غربي (الولايات المتحدة) يمارس حسابات معقدة لا تعطي الأولوية المطلقة لأمن دول الخليج واستقرارها سياسياً واقتصاديًا.
يجب ألا يقتصر الرد الخليجي على بيانات التنديد أو الإدانة بل أن يتبلور في صورة استراتيجية أمنية إقليمية متماسكة، تضع مصالح دول المجلس في صدارة الحسابات. وهو ما يتطلب مراجعة شاملة لطبيعة العلاقة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل دون المساس بالتحالفات التقليدية، لكن ضمن شروط أكثر صرامة ومحددات تحفظ سيادة الخليج واستقراره.
في لحظة تتحرك فيها الجغرافيا السياسية بسرعة غير مسبوقة، يصبح الصمت الخليجي أو ما يطلق عليه في وسائل الإعلام الخليجية بـ “الحياد” موقفًا خاسرًا، كذلك تبدو المراهنة على الحلفاء التقليديين، دون إعادة تقييم لتموضعاتهم الجديدة، خيارًا غير مضمون النتائج.
إن إعادة تموضع الخليج في معادلات الأمن الإقليمي بوصفه شريكًا وفاعلاً حقيقيًا لا مجرد طرف تابع ليست ترفًا سياسيًا، بل هي ضرورة وجودية لضمان بقاء دول الخليج خارج نيران الصراع، لا داخلها.