من المسؤول عن فوضى الشرق الأوسط؟ مراجعة نقدية لفرضيات المد الأسود




مع التقارب السعودي الإيراني الأخير، يتم إعادة تداول كتاب الصحفية الأمريكية (لبنانية الأصل) كيم غطّاس المعنون بـ ” المد الأسود:
السعودية وإيران وأربعون عاما من التنافس الثقافي الديني وذاكرة مجمّعة لمنطقة الشرق الأوسط” الذي صدر مطلع عام 2020.

يقوم الكتاب على فكرة مفادها أن عام 1979 كان نقطة تحول محورية بما حمله من أحداث عصفت بمنطقة الشرق الأوسط وأعادت تشكيل دولها ومجتمعاتها وعلاقاتها الخارجية.

ترى غطّاس أن ثلاثة أحداث كان لها الدور الأكبر في قدح شرارة معظم الأزمات التي ما يزال يعيشها الشرق الأوسط: الثورة الإيرانية، حادثة اقتحام جماعة جهيمان للحرم المكي، والاحتلال السوفييتي لأفغانستان. وترى غطّاس أن “السعودية وإيران يعيشان تنافسا إقليميا حادًا يهدد السلام والأمن العالميين.”

وعليه، يقدم الكتاب ما تصفه المؤلفة بـ ” تاريخ شامل على مدار الأربعين عامًا الماضية والذي تشرح فيه كيف تحول التنافس السياسي على ضفتي الخليج إلى شيء أكثر خطورة مما كانت تتوقعه الرياض أو طهران بأن أشعل سباق تسلح بين الدولتين، وساهم في نشر التعصب الإسلامي بشقيه السني والشيعي؛ والذي أصبح قوة دافعة للحروب، الإرهاب، المجاعات، وتشريد الملايين”. وبحسب الكتاب، فإن الشرق الأوسط قبل عام 1979 كان يعيش تسامحا بين السنة والشيعة.

أفردت غطّاس مساحة -تصل إلى النصف من كتابها لتصف كيفية انتشار الميليشيات السنية والشيعية المتطرفة والجماعات الإرهابية وحكومات بعض دول المنطقة منذ الثمانينيات في منطقة الشرق الأوسط، والتي تزعم بأنها تعمل بدعم مباشر أو موافقة من الرياض أو طهران.
تدلل المؤلفة على كلامها بأن المملكة موّلت المدارس الدينية في باكستان والتي كانت تشكل حواضن التشدد السني في باكستان وأفغانستان. وتضيف بأن المملكة واحدة من الحكومات القليلة التي اعترفت بشرعية حكم طالبان لأفغانستان، متغافلة تماما أن الولايات المتحدة ودولة الإمارات اعترفتا بطالبان في التوقيت نفسه. بالمقابل، تطرقت للدور الإيراني في دعم حزب الله الذي وصفته أنه واحد من أخطر المنظمات الإرهابية في العالم والذي يتكون أفراده من شيعة لبنان والذي تحّول إلى شريك وثيق للأجهزة الأمنية الإيرانية.

وخلاصة القول إن غطّاس ترى أن القاعدة منتج
سعودي وحزب الله منتج إيراني وقد نشرا التطرف الإسلامي بوجهيه السني والشيعي في مختلف مناطق الشرق الأوسط. وترى أن كل ما يدور من صراعات طائفية في العراق، لبنان، واليمن هو عبارة عن حروب بالوكالة بين المملكة وإيران.

من غير المقبول، الاتجاه إلى اعتبار الحركة السلفية الوهابية مرادفة للتطرف دون البحث في أُسس تكوين حركات الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة المنفلتة من قيادة “ولي الأمر” الذي تمت بيعته وفق الفقه التقليدي؛ ما خلا أن تكون هذه النتيجة متأثرة بفكر الإخوان المسلمين وتنظيماته، ذلك الفكر الذي ألقى بظلاله على حركات الإسلام السياسي في الجانبين السني والشيعي.

الكتاب يعكس موقفًا سياسيًا مسبقا من أحداث الشرق الأوسط يتلخص في أن الصراع السعودي الإيراني
هو سبب كل الشرور في المنطقة. وهنا يحق للقارئ أن يتساءل عن سبب إغفال “المد الأسود” لمعطيات مثل: دور مصر في عهدي عبدالناصر والسادات، وليبيا القذافي، عراق صدام حسين، إضافة إلى دور إسرائيل منذ عام 1948 في نشر التطرف ودعم الفرقاء
المتقاتلين، بدلا من اختصار الأمر بالصراع السعودي الإيراني في مرحلة ما بعد عام 1979.
كذلك، فإن غطّاس لم تتطرق بشكل جدي إلى الأدوار التي قامت بها القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا وكيف أنها ساهمت في غليان المنطقة بشكل أكبر مما ساهمت فيه دول المنطقة الكبرى.

ينبغي ألا نعتبر الكتاب حياديًا في نظرته للجارين في طرفي الخليج. فهو بربطه إيران بحزب الله اللبناني والميلشيات المسلحة في العراق، مقابل إلصاقه القاعدة وداعش بالسعودية يزرع فكرة خطيرة وغير مباشرة في ذهنية المتلقي. فكما نعلم، فإن المتلقي الغربي يرى في القاعدة وداعش خطرا أكبر من حزب الله وميلشيات العراق التي تتسم بالمحدودية الجغرافية مقارنة بنشاطات القاعدة وداعش العابرة للحدود.

هذه معادلة غير متكافئة يقع فيها الكثير من الكتاب الغربيين حتى مع تبنيهم مواقف لا تتفق مع ما يوصلونه من أفكار غير مباشرة بسبب تسطيحهم للفكرة. فنفوذ إيران في المنطقة يشمل جماعات “غير شيعية”، بل إن معظم علاقاتها العابرة للحدود تعتمد على مكونات سنية تتقاطع مصالحها معها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما أعلنت عنه الخارجية الأمريكية عن وجود عناصر مهمة من تنظيم القاعدة على الأراضي الإيرانية، ومن أبرزهم: سيف العدل المصري وأبو محمد المصري والذين اعتبرهم بن لادن “رهائن عند طهران” بحسب تقرير موقع وزارة الخارجية الأمريكية-الشؤون الدولية.

من الواضح أن طرح المؤلفة لا ينفصل عن ألم تجربة شخصية عايشتها في بلدها الأم، لبنان. فالخطاب الرائج أن مشاكل لبنان منذ الثورة الإيرانية تقوم على الصراع السني-الشيعي الذي غيّب بقية الأطراف بشكل كبير عن المسرح السياسي وجعلهم مجرد أتباع للسياسيين الشيعة المدعومين من إيران والسنة المدعومين من المملكة، بحسب وصفهم. ولكونها مسيحية، ترى أن أبناء مكونها المسيحي قد سُحب البساط منهم بشكل كامل حتى أصبح رئيس الجمهورية المسيحي يأتي على خلفية دعم شيعي أو سني منذ ذلك الحين.

لا يخرج الكتاب عن كونه سرداً غنياً بالقصص والمرويات الصحفية المتداولة، ما يجعله أقرب إلى العمل الموجه للرأي العام من كونه دراسة علمية معمقة. وبالرغم من أن المؤلفة سعت من خلاله إلى تقديم رؤية استراتيجية تجمع بين السعودية وإيران كفاعلين رئيسيين في مشهد متغير، إلا أن تأثير الكتاب في الأوساط الأكاديمية ومراكز البحوث الاستراتيجية ظل محدوداً. وقد حظي العمل باهتمام إعلامي ملحوظ، بما في ذلك ظهور الكاتبة في عدة برامج، من بينها برامج ذات طابع جماهيري مثل برنامج “The Daily Show” مع تريفور نوح، حيث عرضت وجهة نظرها بشكل مبسط يناسب الجمهور العريض.
وفي الآونة الأخيرة، عادت المؤلفة إلى وسائل الإعلام للتعليق على التقارب السعودي الإيراني، مستندة إلى الأفكار التي تناولتها في كتابها، رغم أن كثيراً من التطورات الحالية لا تتسق بالضرورة مع الرؤية التي طرحتها فيه.

ختاما، فإن الكتاب برغم أسلوبه الشيّق في تناول الاحداث عبر طرح قصص لـ19 شخصية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فإنه لم يأتِ بجديد على ما يتناوله الإعلام الأمريكي بشكل سطحي حول تطرف الإسلام السياسي ونسبته للمملكة في الجانب السني ولإيران في الجانب الشيعي، بل إن تغافل الكتاب عن النهضة التي تعيشها المملكة والانفتاح الاجتماعي
والاقتصادي في الداخل السعودي، مقابل حالة التوتر الاجتماعي والضيق الاقتصادي في الداخل الإيراني يدل على “توجيه” الكتاب نحو فكرة مسبقة تقسّم المنطقة لمكونين سني وشيعي برعاية سعودية إيرانية مغفلة بقية المكونات (مهما صغر تعدادها) والقوى الإقليمية الأخرى (حتى لو سقطت واستبدلت بالفوضى أو أخرى ضعيفة) لتقفز على الخاتمة القائمة على فكرة مسبقة.


منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.