من بوابة السعودية: الرئيس ترامب يختبر رهاناته الكبرى في الخليج
تأتي زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المرتقبة إلى منطقة الخليج، في توقيت بالغ الحساسية والتعقيد، مبتدئاً مساره بالمملكة العربية السعودية، ومن ثم متوجهاً إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر.
هذه الجولة، التي يترقبها المراقبون بعين فاحصة، تتجاوز حدود البروتوكول التقليدي، لتُنبئ بمحاولة استراتيجية لإعادة صياغة معالم العلاقات الأمريكية-الخليجية، وربما رسم ملامح نظام إقليمي جديد، في ظل تحولات جيوسياسية عاصفة وتوازنات قوى عالمية آخذة في التبلور.
هي زيارة محمّلة بطموحات اقتصادية هائلة، يسعى الرئيس ترامب من خلالها إلى ضخ استثمارات تُقدر بتريليونات الدولارات في شرايين الاقتصاد الأمريكي الذي يواجه رياحاً عاتية من المنافسة الصينية المتصاعدة، ومخاوف التضخم والركود الاقتصادي، فضلاً عن ارهاصات حروب تجارية اشعلتها التعريفات الجمركية التي شرع بها ترامب ضد مختلف دول العالم. بيد أن هذه التطلعات الاقتصادية للرئيس ترامب تصطدم بحقل ألغام من الأزمات الإقليمية المتفجرة، من الحرب في غزة إلى تهديدات الحوثيين الملاحية والملف النووي الإيراني الشائك، مروراً بتمدد إسرائيلي في سوريا ولبنان يقلق تركيا ويذكي نيران الغضب الإقليمي، وصولاً إلى توترات دولية مستجدة، كاحتمال توسع المناوشات الهندية الباكستانية العسكرية لتتحول الى صراع مفتوح بين دولتين نوويتين، والتي تلقي بظلالها القاتمة على أمن الممرات المائية ومستقبل الاستقرار العالمي برمته.
السعودية أولاً: نقطة ارتكاز ترامب
اختيار ترامب للسعودية كأول دولة خارجية يزورها رسميًا يعكس الأهمية الاستراتيجية المحورية التي تحتلها الرياض في حسابات أي إدارة أمريكية تتطلع إلى التأثير في مسارات المنطقة.
استبقت الزيارة بصفقات دفاعية بمليارات الدولارات كمحور لترجمة التحالفات السياسية إلى عقود تسليح ضخمة. أبرزها صفقة صواريخ بـ3.5 مليار دولار للسعودية، تشمل 1000 صاروخ AIM-120C-8 متطور، مع معدات دعم وخدمات لوجستية من شركة RTX، لتعزيز تفوق الرياض الجوي ودعم الاستقرار الإقليمي، وفق بيان وكالة التعاون الأمني الأمريكية. هذه الصفقة ليست سوى جزء من حزمة تسليح غير مسبوقة تتجاوز 100 مليار دولار، تضم طائرات C-130، منظومات صاروخية، ورادارات من لوكهيد مارتن، تعكس نهج ترامب “الصفقات أولاً”، الذي تخلى عن الشروط السياسية المعقدة التي عطلت إدارة بايدن، كتقييد علاقات السعودية مع الصين أو اشتراط التطبيع مع إسرائيل.
وبتركيز ترامب على العوائد الاقتصادية، روّج لخلق آلاف الوظائف الأمريكية عبر صفقات مع السعودية، قطر، والإمارات، مستندًا إلى استثمارات خليجية محتملة تصل إلى 600 مليار دولار.
بالنسبة للسعودية، فإن تعزيز قوتها العسكرية ومكانتها كشريك إستراتيجي موثوق يعززان، دون شك، من نفوذها الإقليمي. والمملكة، بثقلها الاقتصادي والسياسي والديني، لا تمثل فقط القوة الدافعة في مجلس التعاون الخليجي، بل هي أيضاً اللاعب الرئيسي الذي لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات أمنية أو اقتصادية أو سياسية مستقبلية. ولهذا، تأتي هذه الزيارة في سياق تشهد فيه العلاقات السعودية-الأمريكية التاريخية مرحلة من إعادة التقييم والتكيّف. فالرياض، مدفوعة برؤية 2030 الطموحة، تنتهج سياسة خارجية أكثر استقلالية وديناميكية، تسعى من خلالها إلى تنويع شراكاتها الاستراتيجية شرقاً وغرباً، وعدم رهن مصالحها بحليف واحد، مهما بلغت درجة الثقة التاريخية.
يدرك ترامب، بمنطقه البراغماتي والتجاري، أن بوابة تحقيق طموحاته الاستثمارية، التي يطمح أن تصل إلى “تريليون دولار” أو ما يفوق ذلك بكثير، لا يمكن أن تُفتح إلا بمفتاح سعودي. هذه المليارات المنشودة ليست مجرد أرقام تضاف إلى الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، بل هي شريان حياة لاقتصاد يئن تحت وطأة تحديات بنيوية، ومحاولة حثيثة لاستعادة بعض من الزخم المفقود في مواجهة التنين الصيني، وتضميد جراح سياسات الحماية التجارية التي وإن كانت تحمل بصمات ترامب، إلا أن تداعياتها تجاوزت ولايته لتؤثر على مجمل المشهد الاقتصادي العالمي.
ومع ذلك، فإن السعي المحموم خلف المكاسب الاقتصادية لا يمكن عزله عن البيئة السياسية والأمنية المضطربة التي تكتنف المنطقة. فالحرب الدائرة في قطاع غزة، بكل ما خلفته من دمار إنساني ومادي وما أثارته من تساؤلات أخلاقية وقانونية، تظل الجرح الأكثر إيلاماً في الجسد العربي والإسلامي.
وبينما لمّح ترامب سابقاً إلى إمكانية طرح مبادرة أمريكية جديدة لمعالجة الأزمة قد تشمل تصورات لإدارة القطاع ما بعد الحرب، فإن الحرب الإسرائيلية الشاملة في قطاع غزة والتي قاربت السنتين وسياساتها المتصلبة تجاه الحق الفلسطيني عامة، فضلاً عن عملياتها العسكرية المتكررة في سوريا ولبنان، باتت تثير حفيظة متزايدة، حتى داخل بعض دوائر صنع القرار في واشنطن، وإن لم يُعبّر عن هذا الامتعاض بالحدة المطلوبة علناً. هذا السلوك الإسرائيلي لا يقتصر تأثيره على عرقلة جهود التهدئة وتقديم المساعدات الإنسانية، بل إنه يقف حجر عثرة أمام مشروع ترامب الخاص بتوسيع نطاق “الاتفاقيات الإبراهيمية”. فالسعودية، التي يُعوّل على انضمامها لإعطاء زخم حقيقي لهذه الاتفاقيات، أوضحت أن أي تطبيع مع إسرائيل مرهون بتحقيق تقدم ملموس على المسار الفلسطيني، وفي مقدمته إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وفقاً للمرجعيات الدولية ومبادرة السلام العربية، وهو شرط يبدو تحقيقه بعيد المنال في ظل المواقف الراهنة للحكومة الإسرائيلية.
تحديات إقليمية ودولية متشابكة
إن قائمة التحديات التي تواجه أجندة ترامب الخليجية لا تتوقف عند حدود الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فاستمرار هجمات الحوثيين على السفن المتجه إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، رغم إعلان ترامب انهاء حربه عليهم بعد التوصل الى تفاهمات شفهية معهم عبر الوسيط العماني، تظل تشكل خطراً على الاستقرار وأمن الملاحة الدولية، وبالتالي لتدفقات التجارة والطاقة العالمية.
بموازاة ذلك، يستمر الغموض في تحييد الملف النووي الإيراني، وتداعيات نفوذ طهران الإقليمي عبر حلفائها. ولا يُستبعد أن تسعى إدارة ترامب، في حال عودتها، إلى تبني نهج أكثر تصادمية، أو على الأقل فرض شروط تفاوضية أكثر تشدداً، مما قد يعيد المنطقة إلى حافة المواجهة.
وما يزيد المشهد تعقيداً، هو التوتر المتصاعد، والذي يحمل في طياته بذور صراع مسلح واسع النطاق، بين الهند وباكستان. هذا النزاع الحدودي التاريخي بين قوتين نوويتين، وإن كان يبدو للوهلة الأولى بعيداً جغرافياً عن قلب الخليج، إلا أن أي شرارة قد تندلع هناك، ستكون لها ارتدادات مباشرة وخطيرة على منطقة الخليج. فمن ناحية، سيتأثر أمن الممرات الملاحية الحيوية في بحر العرب والمحيط الهندي، وهي شرايين أساسية للتجارة الخليجية ولإمدادات الطاقة العالمية. ومن ناحية أخرى، فإن وجود جاليات ضخمة من كلا البلدين في دول الخليج، تساهم بشكل كبير في اقتصاداتها، يضيف بعداً إنسانياً واجتماعياً لا يمكن تجاهله في حال نشوب صراع.
هذا العامل الخارجي الطارئ يفرض على صانعي القرار في واشنطن وعواصم الخليج إدراج هذا الاحتمال في حساباتهم الاستراتيجية، وقد يدفع إلى إعادة ترتيب بعض الأولويات أو على الأقل إضافة طبقة جديدة من الحذر والترقب إلى الخطط الاقتصادية والاستثمارية الطموحة.
الزيارات اللاحقة التي يُنتظر أن يقوم بها ترامب إلى كل من الإمارات وقطر بعد محطته السعودية، تأتي كاستكمال ضروري لهذه اللوحة المعقدة. فالإمارات، بشراكتها الاستراتيجية الراسخة مع الولايات المتحدة، وديناميكيتها الاقتصادية والتكنولوجية وطموحاتها الإقليمية، تمثل لاعباً أساسياً في أي معادلة خليجية.
قطر، بدورها، أثبتت قدرتها على لعب أدوار وساطة معقدة في العديد من الملفات الإقليمية الشائكة من أفغانستان إلى غزة، مما يجعلها طرفاً لا يمكن الاستغناء عن الاستماع إلى رؤيته. ومع ذلك، تظل القضايا الجوهرية التي ستُطرح على الطاولة متشابهة في جوهرها: كيف يمكن إيجاد نقطة توازن دقيقة بين المصالح الاقتصادية الأمريكية الآنية والمتطلبات الأمنية الاستراتيجية لدول الخليج وطموحاتها السيادية في ظل نظام عالمي متغير، وكل ذلك في خضم منطقة تعصف بها الصراعات والتوترات المتداخلة والمستعصية.
مستقبل يكتنفه الغموض
إن سعي ترامب الحثيث لتدشين “مرحلة جديدة” من العلاقات، يكون عنوانها الأبرز هو تدفق الاستثمارات التريليونية، يأتي في وقت تشهد فيه دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، تحولاً تاريخياً يهدف إلى بناء مستقبل أكثر استدامة وتنوعاً. هذا التحول لا يقتصر على تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، بل يشمل أيضاً تعزيز القدرات الدفاعية الذاتية، وتبني سياسات خارجية أكثر مرونة وتوازناً، والسعي للعب دور قيادي في صياغة مستقبل المنطقة بعيداً عن الاستقطابات التقليدية. هذه الطموحات الخليجية المشروعة قد تجد نقاط التقاء مع بعض جوانب الأجندة الترامبية، ولكنها قد تتعارض معها في جوانب أخرى، لا سيما فيما يتعلق بالسيادة الوطنية، وتجنب الانجرار إلى سياسات أحادية قد تضر بالمصالح الخليجية على المدى الطويل. فالتركيز الخليجي على التنمية الشاملة والاستقرار الدائم قد لا يتماشى بالضرورة مع نهج “الصفقات” السريعة والمتقلبة الذي غالباً ما يطبع أسلوب ترامب في إدارة العلاقات الدولية.
ويبقى السؤال الذي يبحث عن إجابة مطروحًا: هل ستكون هذه الجولة فاتحة لمرحلة جديدة من التعاون البنّاء والاستقرار الإقليمي المنشود، أم أنها ستكون مجرد محاولة براغماتية لتحقيق مكاسب آنية، قد تترك المنطقة أكثر عرضة للتقلبات والمفاجآت في المستقبل؟