كيف تفهم طهران ضغوط واشنطن وما هي الخطة لتجاوزها؟
منذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وجدت إيران نفسها أمام تحد سياسي واستراتيجي جديد، وكما كان متوقعاً، أعادت الإدارة الأميركية تبني سياسات صارمة تجاه طهران مستلهمة نهج “الضغط الأقصى” الذي مارسه ترامب خلال ولايته الأولى (2017-2021). ورغم أن تلك السياسة لم تؤد إلى انهيار النظام الإيراني أو تغيير سلوكه بشكل جذري، فإنها فرضت تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة على طهران. اليوم، تبدو إيران أكثر تعقيداً من حيث الوضع السياسي لكنها في الوقت ذاته باتت أكثر قدرة على التكيف مع العقوبات والتحديات الإقليمية والدولية. فكيف يمكن أن تتعامل مع عودة ترامب؟ وما الخيارات المتاحة أمامها؟
حين قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، كان الهدف الأساسي هو فرض عقوبات خانقة على الاقتصاد الإيراني لدفع طهران إلى التفاوض بشروط أميركية أكثر صرامة لكن هذه الاستراتيجية لم تحقق أهدافها لعدة أسباب، أبرزها كان قدرة إيران على التكيف مع العقوبات عبر تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين وروسيا، كذلك استخدام الأسواق الرمادية للالتفاف على القيود المالية. عززت طهران من نفوذها الإقليمي بدلاً من التراجع، حيث زادت من دعمها لحلفاءها في المنطقة، وهو ما جعل القوات الأميركية وحلفاءها تحت ضغط مستمر.
على المستوى النووي، زادت إيران من معدلات تخصيب اليورانيوم واستخدمت تقدمها في هذا المجال كورقة ضغط ضد الغرب. إضافة إلى ذلك، استفادت من الانقسامات الدولية، حيث دفعت التوترات الأميركية-الصينية والحرب في أوكرانيا كلا من بكين وموسكو إلى تعزيز دعمهما لطهران.
مع عودة ترامب، تمتلك إيران اليوم عدة خيارات للتعامل مع هذا التحدي، تبدأ من تعزيز قدرتها على تحمل العقوبات عبر توسيع شراكاتها الاقتصادية مع الصين وروسيا والاستمرار في تصدير النفط عبر شبكات غير رسمية، وتقوية الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الواردات. لكن رغم هذه الاستراتيجيات، يبقى الاقتصاد الإيراني هشًا، حيث يعاني من التضخم وضعف العملة مما يجعل الداخل الإيراني عاملًا حساسًا في تحديد مدى صمود طهران أمام العقوبات الأميركية الجديدة.
في السياق الإقليمي، قد تلجأ إيران إلى زيادة دعمها للحلفاء في العراق ولبنان واليمن وحتى في سوريا، ما يجعل من أي تصعيد أميركي مكلفًا للأخيرة. كما يمكنها التأثير على أسعار النفط عبر التصعيد في مضيق هرمز، وهو ما قد يضغط على الاقتصاد الأميركي. لكن رغم فاعلية هذه الاستراتيجية، فإنها تحمل مخاطر مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة في حال تجاوز التصعيد الحدود المحسوبة.
على الصعيد الدبلوماسي، قد تسعى طهران إلى المناورة عبر الإبقاء على قنوات تواصل مع أوروبا مستفيدة من الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن سياسات ترامب. كما يمكنها تعزيز تحالفاتها مع الصين وروسيا لكسب دعم دولي أكبر. في الوقت ذاته، قد تحاول إعادة ترتيب علاقاتها الإقليمية لتخفيف الضغوط، كما فعلت سابقا مع السعودية. ومع ذلك، لا تزال واشنطن تمتلك أدوات ضغط يمكن أن تجعل هذه المناورات أكثر صعوبة.
أما الورقة الأكثر حساسية فهي البرنامج النووي، حيث قد تلجأ إيران إلى تسريع تخصيب اليورانيوم لمستويات تقربها من امتلاك قدرة نووية عسكرية مما يزيد الضغط على واشنطن ويدفعها نحو إعادة التفاوض. كما يمكن أن تقلل من تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما يجعل المجتمع الدولي أكثر توترا بشأن نواياها. لكن هذا النهج ينطوي على مخاطر كبيرة، إذ قد يؤدي إلى رد عسكري أميركي أو إسرائيلي، ما يفتح الباب أمام تصعيد خطير.
إلى جانب هذه الاستراتيجيات، تدرك إيران أن العقوبات الأميركية تشكل تحديًا مستمرًا لاقتصادها، لكنها عملت على التكيف معها. ورغم استمرار الضغوط الاقتصادية وتأثيرها على معيشة المواطنين فإن طهران تمكنت من تقليل اعتمادها على النظام المالي العالمي الخاضع للرقابة الأميركية وهو ما منحها قدرة على المناورة في مواجهة أي تصعيد اقتصادي جديد. ومع ذلك، يبقى الاقتصاد الإيراني تحت ضغط كبير وهو ما قد يدفع الحكومة إلى اتخاذ خطوات إضافية لتخفيف الأعباء الداخلية ومنع تفاقم الأوضاع الاجتماعية.
على المستوى الإقليمي، تستفيد إيران من التغيرات التي طرأت على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، حيث أدى تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق وسوريا – في مرحلة سابقة – إلى إعادة تشكيل موازين القوى لصالحها. كما أن التقارب مع بعض دول الخليج، مثل السعودية، منحها فرصة لتخفيف التوترات الإقليمية وكسر محاولات عزلها دبلوماسيا. ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح لا يعني بالضرورة أن طهران ستكون في مأمن من الضغوط خاصة أن علاقاتها مع بعض الدول العربية لا تزال محكومة بالحذر، فضلا عن استمرار التوترات مع إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
عسكريًا، طورت إيران قدراتها الدفاعية والهجومية بشكل ملحوظ، خاصة في مجالات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وهي قادرة على ردع أي تهديد محتمل لا من جانب التصدي بالضرورة للهجمات لكن من جانب القدرة على الاضرار بمصالح الدول المعادية. في الوقت ذاته، فإن أي تصعيد عسكري واسع قد يكون مكلفًا لكلا الطرفين، وهو ما يدفع طهران إلى اتباع نهج حذر في استخدام قوتها، حيث توازن بين استعراض قدرتها العسكرية وتجنب مواجهة مباشرة مع واشنطن أو تل أبيب. تدرك إيران أن تطوير قدراتها لا يعني غياب المخاطر، خاصة مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية بضرب منشآتها النووية واستمرار التوترات مع القوات الأميركية في المنطقة.
في المحصلة، تجد إيران نفسها في مواجهة مرحلة جديدة من التحديات حيث تسعى إلى تحقيق توازن بين مواجهة الضغوط الأميركية وتعزيز نفوذها الإقليمي وتجنب تصعيد غير محسوب قد يضر باستقرارها الداخلي. ورغم قدرتها على التكيف مع العقوبات وتوظيف المتغيرات الدولية لصالحها فإن أي مواجهة مع إدارة ترامب ستظل اختبارا لقدرتها على الصمود في ظل بيئة دولية متغيرة وغير مستقرة. وبالتالي، المواجهة بين إيران وإدارة ترامب الجديدة ستكون معركة إرادات، حيث لن ترضخ طهران بسهولة للضغوط لكنها أيضًا ستبحث عن حلول اقتصادية ودبلوماسية لتخفيف وطأتها، ومن جانبها، قد تزيد واشنطن من تشديد العقوبات، ورغم أن التصعيد العسكري يظل خيارا قائما أمام واشنطن إلا أنه محفوف بالمخاطر.
في حال عادت المفاوضات، فقد يكون البرنامج النووي هو الورقة الحاسمة في تحديد ملامح المرحلة المقبلة.
مسار العلاقة بين الجانبين يعتمد على قدرة كل طرف على امتلاك أوراق الضغط من جانب والتكيف مع المتغيرات الدولية من جانب آخر.