الانفتاح التونسي على إيران: تكتيكات
كسر “الاحتكار الغربي”

رغم تسارع الأحداث الدراماتيكية في الشرق الأوسط وسقوط نظام بشار الأسد السريع والمفاجئ في 8 ديسمبر الذي سيكون له آثاره على الداخل الإيراني، وعلى العلاقات التونسية الإيرانية، لم تكن طهران قريبة من تونس مثلما تبدو عليه اليوم.

أياً يكن مستقبل محور طهران – دمشق بعد سيطرة المعارضة المسلحة في سوريا، تبدو تونس برئاسة قيس سعيد ماضية في سياستها الخارجية القائمة على تقويض التحالفات القديمة، الأوروبية منها والعربية، وتعويضها بأخرى جديدة مختلفة تماماً عن تقاليد السياسة الخارجية التونسية التي عرفت في عهديْ بورقيبة وبن علي بـ “الاعتدال”، هذا التقارب يمثل نوعا من الاستفزاز للقوى الغربية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) وإنهاء ما يسمى بالاحتكار الغربي للعلاقات مع تونس.

لم يتردد قيس سعيد في فبراير 2022 في الاستشهاد بفيلسوف فارسي عرف عنه التشدد وهو ابن مسكويه في أثناء حديثه عن القضاء وكيفية تحقيق العدل. كلام سعيد جاء في غمار حملته على القضاء وحل المجلس الأعلى للقضاء، كان الرجل يتحدث بالكثير من الإعجاب عن شخصية لا يعرفها جل التونسيين، ولم تكن يومًا قرينة للعدل.

يومذاك، انتفضت المعارضة التونسية ضد الرئيس، واتهمته باستدراج المثال الإيراني الإسلامي إلى تونس. واعتبر الحزب الحر الدستوري المعارض أن سعيد بصدد توجيه تونس نحو منهج الحكم الإيراني والزج بها في متاهات القضايا الدولية الشائكة وتطويعها لخدمة محاور إقليمية، منددًا بهذا التوجه المفاجئ ومعلنًا رفضه “الاستناد إلى أسس دولة الخلافة عند طرح رؤى الإصلاح في مختلف المجالات”.

لم يكترث قيس سعيد للغضب السياسي، بل تشبث بتحالفه مع إيران وعززه لا سيما بعد زيارته إلى طهران لتقديم واجب العزاء في وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي الذي قتل في حادث سقوط مروحيته في يونيو 2024، كما توج سعيد زيارته بلقاء المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي الذي أثنى على سعيد، ووصفه بـ “الشخصية الفاضلة والأكاديمية المميزة” وشكر مواقفه المناهضة للصهيونية معتبرًا قيادته لتونس “فرصة لهذا البلد بعد سنوات من الحكم الاستبدادي والانفصال عن العالم الإسلامي، لتظهر وجهًا جديدًا وطيبًا من نفسها”.

تلك الزيارة كانت الثانية لرئيس تونسي منذ العام 1965 حيث زار الحبيب بورقيبة طهران في عهد الشاه.

في يونيو 2024، بعد وقت قليل من زيارة قيس سعيد إلى إيران، أعلنت الخارجية التونسية إعفاء الإيرانيين من تأشيرة الدخول إلى تونس ما شكل مفاجأة للكثير من المتابعين، لكنه قرار أتى في سياق تعثر المفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي وبحث تونس عن مصادر تمويل بديلة ورسم تحالفات تتعارض مع الأنموذج الغربي “الإمبريالي” كما يسميه سعيد.

الاتحاد الأوروبي استقبل الخطوة بامتعاض، ولم يُخفِ ذلك، فعلى لسان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أعرب الاتحاد عن قلقه البالغ من تقارب تونس مع روسيا والصين وإيران، ووصف الأمر بأنه “تطور مثير للقلق” لكن الرد أتى فورًا من السفارة التونسية في بروكسيل ببيان تقول فيه إن خيارات الحكومة التونسية تمثل تطلعات الشعب، وتعبر عن إرادته السيادية.

تعزز التقارب التونسي الإيراني عند إعلان تونس في أكتوبر 2024 رفضها الاعتداء الإسرائيلي على طهران ثم بزيارة وفد برلماني إيراني إلى تونس نهاية نوفمبر 2024 ما يراه بعض المراقبين الدوليين خياراً ثقافيا لا سياسياً وحسب، وذلك وسط مخاوف في الداخل من “التشيع”.

علاقات متأرجحة 

لم تكن علاقات بورقيبة بإيران متسمة بالثقة، بادرت تونس بقطع العلاقات بعد الثورة الإسلامية، واتهم بورقيبة طهران بدعم قوى إسلامية متطرفة في تونس. لكن فور انقلاب الرئيس زين العابدين بن علي على بورقيبة في العام 1987، استأنفت العلاقات بين تونس وإيران في العام 1990، وأبرمت عدة اتفاقيات تعاون بين الجانبين.

بعد سقوط نظام بن علي في 14 يناير 2011، رحبت طهران على لسان رئيسها الأسبق محمود أحمدي نجاد بالثورة التونسية، واعتبر أن الشعب “أسقط الديكتاتورية بشعارات إسلامية مطالبة بالعدالة” مستبشراً بإقامة “الأحكام الإسلامية”. الترحيب الإيراني بثورة تونس تبناه البرلمان الإيراني كذلك، ومرشد الثورة علي خامنئي.

تجددت رغبة طهران في التقرب من النظام التونسي بعد نهاية رئاسة المنصف المرزوقي وصعود الباجي قائد السبسي نهاية العام 2014. كان السبسي أكثر اعتدالاً من سلفه، ما شجع الرئيس الإيراني حسن روحاني في العام 2018 على إيفاد مبعوث خاص إلى الرئيس التونسي محملا برسالة صداقة.

توقيت تلك الرسالة جاء في فترة اختار فيها السبسي الاقتراب من الخليج، وتحديداً السعودية بعد أن توترت العلاقات في عهد المرزوقي. حنكة السبسي جعلته لا يصد ايران، لكن في الوقت نفسه أكد على تشبث تونس بحليفها القديم السعودية وهو خط منيع في السياسة الخارجية التونسية رغم الهزات الكثيرة.

إعجاب شخصي وسياسي

يأتي إعجاب سعيد بالأنموذج الإيراني في سياق شخصي وآخر سياسي، فشقيقه نوفل سعيد الناشط السياسي، معروف عنه قربه من إيران منذ عقود، قبل وقت قريب، قدم محاضرة عنوانها “العرب وسؤال إيران” في جمعية رابطة تونس للثقافة والتعدد قدم فيها محاسن النظام الإيراني. ويعتبر نوفل سعيد محسوبًا على ما يسمى باليسار الإسلامي في تونس “الإسلام التقدمي”. ويرى البعض أن شقيق الرئيس يؤثر في مزاجه العام واختياراته، وقد ينطق بما يفكر به حقًا.

أما سياسياً، فيبحث قيس سعيد منذ وصوله إلى الحكم عام 2019 عن محور استقطاب جديد مناقض للمحور الغربي الذي لطالما سماه “الإمبريالية” والغطرسة الغربية، فاختار التقرب من الصين وروسيا وإيران كنوع من التحدي للقوى الغربية. ولعل استئناف العلاقات بين السعودية وإيران في العام 2023 مثل حاضنة لسعيد ليمضي قدمًا في تحالفه مع طهران، دون أن يخسر الصديق القديم الرياض.

تماهياً مع رغبات قيس سعيد، تتبنى السياسة الخارجية التونسية توجهات جديدة، وتبحث عن تحالفات استراتيجية مختلفة تتجاوز البعد العربي، متبنيةً سياسة تعدد الأقطاب ومدركة صعود القوة الصينية ومتشبثة بتعزيز علاقاتها بموسكو التي لطالما كانت قريبة أيديولوجيا من الرئيس.

اختار قيس سعيد توطيد العلاقات مع إيران للخروج من عزلته السياسية بعد استئثاره بالحكم في يوليو 2021 وللتخلص من سطوة الاتحاد الأوروبي وكأنه نوع من رفض الوصاية على السياسة التونسية، السياسة التي عرف عنها تحالفها مع القوى الأوروبية وتبعيتها الاقتصادية لها.

لكن ماذا تستفيد إيران من التقارب مع تونس؟

السوق الأفريقية

اقتصادياً، قد تستفيد طهران من موقع تونس في السوق الأفريقية فهي عضو بالسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا وعضو مراقب في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) ما يمكنها من استكشاف أسواق أفريقية. أما من حيث المبادلات فالفوسفات التونسي مهم لإيران. في المقابل، ترغب تونس في جلب استثمارات إيرانية في مجال تجميع السيارات وصناعة الجرارات.

الحقيقة أن حجم المبادلات التجارية بين البلدين لم يكن يومًا بالزخم المرجو حتى في عهد بن علي وزمن الانتعاش الاقتصادي والنمو لم يتجاوز 218 مليون دولار في العام 2009.

ثقافياً، كانت إيران ولا تزال تمثل نوعًا من “الدهشة” الثقافية بالنسبة للتونسي، من رباعيات الخيام، مرورًا بالمنمنمات الأصفهانية والسجاد الفارسي أو “المصحف المعطر” الذي يعرض في المناسبات الثقافية. ويعد الأسبوع الثقافي الإيراني تقليدًا سنويًا في تونس لم يفقد بريقه منذ عقود. للسينما الإيرانية روادها في تونس، وينشط المركز الثقافي الإيراني منذ عهد بن علي. في أكتوبر 2024 زار وزير الثقافة الإيراني علي جنتي تونس على هامش الأسبوع الثقافي الإيراني للتوقيع على اتفاقيات ثقافية مع نظيره التونسي شملت الموسيقى والترجمة.

التشيع في تونس

لا يمكن الحديث عن العلاقات التونسية الإيرانية دون التطرق إلى التشيع في تونس، فهو القاعدة التي يمكن أن تمثل حاضنة شعبية لكل تحالف مع طهران.

أسس الفاطميون المهدية التونسية بين عامي 912-913 واتخذوها عاصمة لهم في العام 920م وأسسوا بها أول دولة شيعية في التاريخ الإسلامي قبل انتقالهم إلى القاهرة في العام 970م.

في العصر الحديث، لا تفصح السلطات عن عدد الشيعة في تونس ولا هم يعترفون بتشيعهم عملاً بـ “مبدأ التقية” (التستر) لكن حمد سلمان ممثل مركز أهل البيت في تونس قدّر عددهم في تصريح إذاعي في العام 2022 بنحو 100 ألف شيعي.

ينتشر الشيعة بحسب مركز “مؤمنون بلا حدود” في عدة مدن كالعاصمة والمهدية وسوسة على الساحل الشرقي، لكن لا سيما في الجنوب في الحامة (ولاية قابس) أو قفصة بالجنوب الغربي.

عرف المذهب الشيعي أول انتشاره في العصر الحديث في تونس في الستينيات من القرن الماضي، أي قبل اندلاع الثورة الإسلامية في إيران 1979. أشهر من تشيعوا هو التيجاني السماوي الذي يقدم نفسه عرابًا للتشيع، وهو من مواليد منطقة قفصة جنوب غربي تونس ومعه مبارك بعداش الذي كان ينتمي إلى جبهة الاتجاه الإسلامي وكلاهما تشيع في السبعينيات.

في تلك الفترة ظهر ما يسمى بـ “خط الإمام” في الجامعات التونسية، وهي حركة تشيع في صفوف بعض الطلاب.

بعد الثورة خرج المتشيعون إلى العلن، ولم تحاول السلطات التضييق عليهم، فانتعشت الجمعيات الشيعية على غرار جمعية أهل البيت الثقافية بعد أن كانت تعمل في السرية، وتأسست جمعية المودة.

بالتوازي، يعتبر المعسكر القومي في تونس أن توطيد العلاقات مع طهران هو نوع من المقاومة في وجه الغطرسة الغربية وإملاءاتها، فيما يحذر شق آخر من كلفة هذا التقارب، مستشهدين بتجارب أخرى فشلت وكانت نتيجتها عكسية بجلب المزيد من التدخل الأجنبي في وقت لاحق.

لا شك أن أي مواجهة إيرانية إسرائيلية محتملة ستؤثر في تونس لا سيما بعد انهيار نظام الأسد في سوريا. الحرب على إيران التي هي بلد نفطي، وتطل على أهم مضائق نقل النفط المائية، ستؤثر على نحو مباشر على سوق النفط العالمي، وكل ارتفاع في سعر البرميل سيكون له تبعاته المباشرة على تونس التي تعد أفقر الدول العربية من حيث الثروة النفطية واعتمادها على توريد المحروقات التي تُنهك ميزانية الدولة.

ما يخشاه كثيرون الآن أن يتسبب إضعاف إيران ومحور المقاومة في ضغط غربي على تونس للتطبيع مع إسرائيل، وهو أمر مرفوض شعبياً، لكن إلى أي مدى يمكن للنظام التونسي أن يصمد في وجه هذه الضغوط في خضم هذا الزلزال الكبير الذي يهز كامل منطقة الشرق الأوسط؟

منشورات أخرى للكاتب