پزشكيان وسياسة إيران الخارجية: كثير من التحديات وقليل من الفرص
منذ اليوم الأول له في السلطة، تبنى الرئيس الإيراني، مسعود پزشكيان، نهجًا منفتحًا على علاقات إيران الإقليمية والدولية. ونظرًا لما تمثله السياسة الخارجية الإيرانية من أهمية وتأثير، فإن محاولة فهم مجمل التحديات والفرص المطروحة أمام الرئيس الإصلاحي في السياسة الخارجية هي أمرٌ مهمٌ أيضًا، خاصة وأن هذا النهج يأتي بعد سنوات من التشدد في السياستين الداخلية والخارجية للبلاد.
ظهرت ملامح رؤية پزشكيان خلال حملته الانتخابية في يونيو 2024، إذ أكد في مناظراته التلفزيونية قبل الانتخابات الرئاسية تأييده انفتاح إيران على العالم الخارجي من خلال الحوار والاحترام المتبادل بما يتماشى مع المصالح الوطنية. كما أكد على أن رفع العقوبات الاقتصادية سيكون على رأس أولويات إدارته. يرى پزشكيان أن رفع الحصار الاقتصادي المفروض على بلاده سيحقق أهدافا عالية القيمة مثل تحسين الظروف المعيشية والاقتصادية للشعب الايراني وتعزيز النمو الاقتصادي وإعادة بناء الامة واستقرار الأوضاع الداخلية والحد من الاحتجاجات المناهضة للنظام.
يلخص بزشكيان رؤيته للسياسة الخارجية في أنها “تهدف إلى ازدهار الشعب وتشجيعه على البقاء في إيران والبناء والنمو الاقتصادي والتطور.. يجب أن نجلس ونتوصل إلى تسوية لحل مشاكلنا مع العالم”. وفي مقال له بعنوان “رسالتي إلى العالم الجديد”.. يؤكد بزشكيان على أن خططه للسياسة الخارجية الإيرانية سوف تسترشد بالمبادئ الأساسية للمرشد الأعلى الإيراني والحكمة والمصلحة الوطنية.
القضايا الخارجية والتحديات
تبدو أجندة السياسة الخارجية لإدارة پزشكيان مليئة بالقضايا والتحديات، خاصة في هذا الوقت العصيب الذي تمر به إيران وصراعها المتصاعد مع إسرائيل والوضع الحرج لحماس في غزة والخسائر التي تكبدها حزب الله في لبنان، يضاف إلى ذلك الموقف السلبي للحكومة السورية الشريك في محور المقاومة. يضاف إلى ذلك فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو الرئيس الذي تبنى لمدة 4 سنوات “سياسة الضغط القصوى” تجاه إيران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فرض العقوبات على إيران في عام 2018.
قبل وفاته، بدأ الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي سياسة انفتاح إقليمية نحو تعزيز العلاقات الإيرانية مع دول الجوار تم تتويجها باتفاقية إعادة العلاقات بين الرياض وطهران بواسطة بكين في مارس 2023. من المتوقع أن يعمل پزشكيان على استكمال مسار رئيسي في السياسات الإقليمية، وهو الأمر الذي يتماشى مع توجيهات خامنئي الذي أوصى الرئيس الجديد بعد تنصيبه بمواصلة طريق إبراهيم رئيسي.
يرى پزشكيان وفريقه الدبلوماسي أن إنشاء إطار إقليمي يهدف إلى تعزيز الحوار وبناء الثقة وتعزيز التنمية المستدامة سوف يساهم في إنشاء منطقة قوية تحتكم إلى الدبلوماسية بدلاً من التهديدات والتلويح بالقوة، وهو ما يضمن الهدوء والاستقرار في الشرق الاوسط بعيدًا عن التدخلات الأجنبية. يمكن القول أن رؤية پزشكيان تتشابه ونظرة كثير من القادة الإيرانيين لشرق أوسط خالي من تدخلات واشنطن وتل أبيب.
ورغم دخول إيران في صراع مفتوح ومباشر مع إسرائيل، وتبادل الهجمات العسكرية المباشرة لأول مرة في تاريخ العداء بين البلدين، إلا أن هذا الأمر انعكس بشكل ايجابي على علاقة إيران بالرياض وأبوظبي على وجه التحديد، فمن خلال التواصل الدبلوماسي والقنوات الأمنية بين طهران والقوتيين الكبيرتين في الخليج، تفادت طهران استخدام إسرائيل للأجواء الجوية الخليجية وابتعدت دول الخليج عن التورط في هذا الصراع، بالنتيجة، تعززت ثقة الطرفين في أن الحوار يمكن أن يصل إلى مكاسب أمنية واستراتيجية وأن يبعد شبح التورط في صراع إيراني إسرائيلي.
التحدي الأكبر في بناء الثقة بين طهران وباقي دول الخليج والدول العربية يتعلق بالمشروع الإقليمي التوسعي لإيران، وهو المشروع الذي يعتبر من ضمن الخطوط الحمراء للمؤسسة الحاكمة في طهران، فدعم إيران لمجموعة من الفصائل المسلحة في (لبنان، سوريا، العراق، اليمن) واحتمالات استخدام محور المقاومة في زعزعة استقرار هذه البلدان، واستراتيجية الحرس الثوري الإيراني التوسعية و فكرة تصدير الثورة، كلها عوامل تُزيد من شكوك دول الخليج والدول العربية تجاه إيران، وهذه هي العقبة الكبرى أمام پزشكيان لبناء جسور الثقة خاصة وهو يعلم أنه لن يكون في مقدوره معالجة هذه المسألة.
المسألة الثانية والأكثر أهمية في السياسة الخارجية لإدارة پزشكيان هي إحياء المفاوضات النووية والتواصل مع الغرب. يرى الرئيس الإيراني أن العودة إلى المفاوضات النووية أولوية ملحة والسبيل الوحيد لرفع العقوبات عن كاهل الشعب الايراني، وأن خروج إيران من العزلة الاقتصادية سيكون له آثار إيجابية كبيرة على البلاد. من المتوقع أن يسمح خامنئي لبزشكيان بالتواصل مجددًا مع القوى الأوروبية ومن ثم التفاوض مع واشنطن بشكل غير مباشر من أجل التوصل إلى صفقة نووية وتخفيف العقوبات.
الخطوة الاولى أمام پزشكيان هي إعادة التواصل مع عواصم ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، صحيح أن الدول الأوروبية لديها شعور إيجابي إلى حد ما، بوجود رئيس إصلاحي في طهران، ومن الممكن أن تساعده هذه الدول في تجاوز العقبات من أجل ضمان استمرار وجود الاصلاحيين في السلطة لكن هذا لا يمنع أن هناك العديد من العقبات أمام الحوار الإيراني الأوروبي، من أهمها تورط إيران في الحرب الروسية الأوكرانية.
سيواجه پزشكيان جهود مضنية من الدولة العميقة في طهران التي ترفض أي حوار مع الغرب أو العودة إلى المفاوضات النووية، وتتمثل هذه الجهود في قانون الإجراءات النووية الذي سنه البرلمان الإيراني بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي والذي ينص على عدم السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة المواقع النووية الايرانية، وتخصيب اليورانيوم بنسب أعلى من المنصوص عليها في الاتفاق النووي. اليوم، يسيطر المتشددون على البرلمان الإيراني، جدير بالذكر أن إدارة رئيسي كانت قد تواصلت مع الدول الأوروبية وعلى وشك التوصل إلى إتفاق مبدئي لإتمام صفقة نووية جديدة لكن الدولة العميقة الرافضة لهذه المحاولات عرقلت تلك الجهود.
وإذا تخطى پزشكيان عقبة التواصل مع الدول الأوروبية، ستبقى العقبة الأكثر صعوبة وهي التفاوض مع إدارة الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، دونالد ترمب، الذي سيتسلم منصبه في يناير المقبل، خلال ولايته الأولى لم ينسحب ترمب من الاتفاق النووي فحسب بل أمر بقتل جنرال إيران المفضل: قاسم سليماني. وبعودة ترامب إلى السلطة في ظل الأوضاع الحالية، قد نشهد تحولات كبيرة في العلاقات بين البلدين خاصة إذا عادت إدارة ترمب إلى سياسة الضغط القصوى واستمرت إيران في الإصرار على تخصيب اليورانيوم بنسب أعلى.
يراهن پزشكيان أيضًا على مواصلة سياسية “النظر إلى الشرق” التي شهدت تطورًا كبيرًا في عهد رئيسي. يؤمن الإيرانيون بضرورة تعزيز العلاقات مع قوى الشرق بهدف تقليص “الهيمنة الأمريكية”، ومن أبرز القوى في الكتلة الشرقية: روسيا والصين. صحيح أن پزشكيان انتقد عدم وفاء روسيا بوعودها والسعر المخفض للغاية الذي تستورد به بكين النفط الإيراني. لكن في ظل الأوضاع الحالية والصراع الدائر بين طهران وتل أبيب، فإن تعزيز العلاقات الإيرانية مع موسكو وبكين يبدو ضروريًا للغاية.
ورغم أن التعاون العسكري بين إيران وروسيا كان سببًا في تدهور العلاقات الإيرانية الأوروبية، إلا أن طهران الآن تحتاج إلى الأسلحة الروسية أكثر من أي وقت مضى لمواجهة الهجمات الإسرائيلية المحتملة في المستقبل، كما تريد طهران أن تجني ثمار هذا التعاون بالحصول على الدعم الروسي في مجال التكنولوجيا والأسلحة الحديثة الذي تفتقر إليها البلاد، بالإضافة إلى أن المتشددين في إيران سيضغطون على پزشكيان بشتى الطرق لعدم التخلي عن هذه الاستراتيجية مقابل إرضاء الغرب.
القليل من الفرص
في الواقع من الصعب على أي رئيس إيراني من أي معسكر (إصلاحي /أصولي)، تغيير الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الإيرانية والتي يضعها خامنئي، ولا يمكن لأي رئيس أن يتفاوض علي دعم طهران لمحور المقاومة أو البرنامج النووي والصاروخي وتجاوز الخطوط الحمراء بدون أمر مباشر من المرشد، فصلاحيات پزشكيان ستكون محدودة للغاية أمام سلطات المرشد وأمام تدخلات الحرس الثوري أيضًا.
لكن هذا لا يمنع أن هناك بعض الفرص السانحة والممكنة إذا تم استغلالها بشكل جيد من قبل فريقه الدبلوماسي وهو ما قد يٌمكن الرئيس من الوفاء ببعض وعوده الانتخابية. أول هذه الفرص هي “مرونة خامنئي” نفسه، فالسماح لبزشكيان الإصلاحي بالفوز في الانتخابات الرئاسية يعني اقتناع خامنئي به، وهو يعني أيضًا، اقتناعه بخطورة المشاكل الاقتصادية لإيران وموافقته على وجود رئيس إصلاحي يستطيع التفاوض مع الغرب وواشنطن مرة أخرى. بالتوازي، يُمكن لبزشكيان تقوية علاقته بالحرس الثوري لضمان تناغم المصالح بين الدبلوماسية والميدان، وبحسب شخصية الرئيس فإنه قد يتمكن من تحقيق هذا الهدف إلى حد ما.
من الممكن لبزشكيان تقديم بعض التنازلات الداخلية للمتشددين مقابل الحصول على مساحات أوسع في السياسة الخارجية، وهي مسألة يمكن تحقيقها في ظل تحالفه مع رئيس البرلمان الأصولي المعتدل باقر قاليباف.
مع صعوبة وضع إيران وصراعها مع إسرائيل وعودة ترامب إلى البيت الأبيض هناك قدرة على الوصول إلى اختراق دبلوماسي محدود مع الغرب وتغليب استراتيجية “القليل مقابل القليل”. على الأقل لتجنب إعادة فرض العقوبات الاوروبية أكتوبر المقبل وتأمين أي تسويات مؤقتة.