لماذا لم تنجح دول الخليج في اختراق نفوذ إيران في سوريا؟
مضى عام على عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية بعد ترحيب من جانب بعض الدول العربية. حضر الرئيس السوري بشار الأسد القمة التي عُقدت في مايو من العام الماضي في الرياض، وقتئذ، اتخذت الجامعة قراراً بإنهاء عزلة النظام السوري بعد 12 عامًا من القطيعة وسط حماس إقليمي محمول بمحاولة التوصل إلى حلول لمساعدة الأسد في حلّ مشكلات بلاده وضمان استقرار نسبي في المنطقة.
بعد عقد من العزلة الإقليمية لسوريا وانخراط غالبية دول الخليج في مشروع ازاحة الأسد عن سدة الحكم، انزاحت دول مجلس التعاون الخليجي إلى الدبلوماسية باعتبارها الحل الأمثل لفتح الطريق مع الرئيس الأسد، وذلك أملاً في المزيد من الاستقرار في المنطقة والبدء في جهود إعادة إعمار سوريا والاستفادة من الفرص الاقتصادية، وقبل ذلك كله، مزاحمة طهران والحد من نفوذها.
كانت الإمارات من تولت زمام المبادرة بين دول الخليج في اعتماد سياسة خارجية تعتمد على مبدأ “صفر مشاكل” مع النظام السوري، وتلتها الرياض. وجاء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في فبراير 2023، فبادرت دول خليجية، وبالتحديد الرياض وأبوظبي، إلى تقديم المساعدات لتجاوز ما خلفه الزلزال من وضع إنساني صعب. وقبل قبول إعادة عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، بدأت المحادثات الدبلوماسية بين سوريا ودول عربية لوضع أسس للتعاون من أجل إعلان تطبيع عربي مع النظام السوري، ولعب الأردن دورًا بارزًا في المحادثات التي سبقت قمة الرياض.
ورغم أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي لعبت دورًا مؤثرًا في الحرب الأهلية السورية وقدمت مساعدات عسكرية ومالية وزانة لقوى المعارضة المسلحة، لكن بمرور الوقت، ومع نجاح الرئيس الأسد في التمسك بسلطته واسترداده أغلب المناطق السورية التي كانت قد سيطرت عليها الجماعات المسلحة المعارضة، حاولت دول مجلس التعاون الخليجي تحقيق اختراق دبلوماسي واقتصادي داخل النظام السوري.
لكن هل تمكنت دول الخليج في الحصول على موطئ قدم في سوريا قبالة النفوذ الإيراني المتصاعد؟
يعود التحالف السوري الإيراني إلى بدء الثورة الإيرانية عام 1979، ورغم تناقض الأيديولوجيات بين حزب البعث الاشتراكي السوري والأيديولوجية الإسلامية لطهران، إلا أن العلاقات كانت تتجه نحو الدفء أكثر وأكثر ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد، بل عملت طهران بجدية على بناء تحالف قوي بين دمشق وحزب الله اللبناني، ما دفع إلى دمج سوريا في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران في المنطقة. ساعد في ذلك تبني سوريا استراتيجية معارضة لهيمنة إسرائيل والولايات المتحدة.
تحولت العلاقات بين طهران ودمشق إلى تحالف وثيق مع بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، وقدمت طهران كل أنواع الدعم المالي والعسكري لبشار الأسد لمساعدته على هزيمة معارضيه ومن يدعمهم من القوى الإقليمية. كما عملت طهران على إيجاد طرق مختلفة لبسط نفوذها العسكري والأمني داخل النظام السوري.
في البداية، دعمت طهران دمشق بفصائل مسلحة لمساعدة الجيش السوري، ونجحت طهران في دمج هذه الفصائل داخل الجيش السوري والمؤسسات الأمنية السورية، كما ونجحت في اختراق هذه المؤسسات وهو ما وفر لها وضعًا قانونيًا لا يمكن من خلاله إزاحتها.
ومع زيادة التواجد الإيراني العسكري في المؤسسات العسكرية السورية، أصبح هذا التواجد مكشوفًا للهجمات الجوية الاسرائيلية والأمريكية. لجأت طهران إلى العمل على تجنيد فصائل سورية محلية، فوطدت علاقتها مع الأقلية الشيعية في سوريا بهدف تجنيد أبنائها في هذه الفصائل لحماية الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا، وعملت أيضًا على العمل مع العشائر السنية السورية، في محافظات حلب ودير الزور.
لم تكتف طهران بتمديد نفوذها العسكري، لكن تغلغلت داخل شركات الأمن السورية الخاصة، وضغطت على الحكومة السورية من أجل إصدار قانون يحمي هذه الشركات الواقعة تحت سيطرتها، والمكلفة بحماية البنوك ومراكز التسوق ومنشآت النفط وحتى الحفلات الموسيقية والرحلات الدينية، ووفر المرسوم التشريعي رقم 55 الحماية الكاملة لهذه الشركات التي يقودها مسؤولون عسكريون إيرانيون، فأصبحت تعمل بحرية كاملة دون الحاجة إلى الحكومة السورية أو الجيش، خاصة في مهمتها الأهم وهي حماية الطرق البرية بين العراق وسوريا، وهو الممر البري الذي عملت طهران على تأسيسه منذ سنوات لتأمين وصول الأسلحة من العراق إلى حزب الله في لبنان عبر سوريا.
تتواجد طهران في أغلب المشاريع الاقتصادية في سوريا، خصوصًا مشاريع الطاقة، وعملت طهران على تفعيل المنتدى الاقتصادي السوري الإيراني المشترك كما وأسست مؤسّسة “جهاد البناء” التي ركزت أعمالها بشكل رئيسي على إعادة إعمار المستشفيات والطرق والمدارس في أغلب المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، كما تقوم “جهاد البناء” بتوزيع المساعدات الانسانية بشكل دوري على السوريين الفقراء، بالتوازي، تنتشر المراكز الثقافية الإيرانية في مختلف المحافظات.
ووقعت الحكومة الإيرانية مع نظيرتها السورية العشرات من اتفاقيات التعاون في مجالات اقتصادية وبيئية وتعليمية وإدارية وقانونية. صحيحٌ أن أغلب هذه الاتفاقيات لم يتم العمل عليها، لكن من حين لآخر، تضغط طهران على الحكومة السورية ببطاقة إيقاف تصدير الوقود لتنفيذ هذه الاتفاقيات.
في الأشهر الأخيرة، عندما حاول الرئيس الأسد الفكاك من الكماشة الإيرانية، تنوعت استراتيجيات طهران في التعامل مع الموقف بين اللين والضغط، لكن من غير المتوقع البتة أن تسمح طهران لدمشق بالانسحاب من موقعها في استراتيجية “الدفاع الأمامي” الإيرانية، وهي الاستراتيجية التي تهدف إلى توسيع النفوذ الإيراني وانشاء قوات بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط لردع أي تهديدات محتملة قبل أن تصل إلى الحدود الإيرانية.
إذن، ما الذي يمكن لدول الخليج أن تفعله من أجل مواجهة هذا النفوذ الإيراني في سوريا؟
في الواقع ليس أمام دول مجلس التعاون الخليجي الكثير لتفعله لمواجهة إيران في سوريا، تبدو الأداة الوحيدة هي في ترغيب النظام السوري في الابتعاد عن إيران من خلال المساهمات والشراكات الاقتصادية الواسعة في إعادة إعمار سوريا ودعم الاقتصاد السوري الذي انهار بسبب سنوات الحرب.
يبحث نظام الأسد اليوم عن مصادر لانعاش اقتصاده، ولا يمكن لطهران – الرازحة تحت عقوبات اقتصادية مماثلة – أن تحقق له هذا الهدف.
بدأت أبوظبي مسار الاستثمار في سوريا رغم قانون قيصر الذي يتضمن حزمة من العقوبات الاقتصادية فرضتها واشنطن على الحكومة السورية. صحيحٌ أن واشنطن فرضت عقوبات على شركة استثمارية إماراتية بدأت العمل في سوريا ضمن جهود الإمارات لإعادة دمج سوريا في محيطها العربي، رغم ذلك، تدرك دول الخليج أن العقوبات على سوريا لا تعتبر قضية مركزية لدى واشنطن، وسواءً وافقت الأخيرة على رفع قانون قيصر أو تجميده، يمكن لدول الخليج العمل الاستثماري بشكل مبدئي في سوريا. فعليًا، ليس أمام دول الخليج من خيارات سوى الضغط على واشنطن في هذا الشأن بدافع أن إعادة دمج سوريا وإصلاح علاقتها بالمحيط الخليجي سيكون مفيدًا في مواجهة النفوذ الإيراني والتركي أيضًا.
لن تتمكن دول الخليج من إعادة سوريا إلى مدار النفوذ الجيوسياسي للعالم العربي إلا من خلال إعادة التعامل الكامل مع دمشق وإبعادها عن طهران، والخطوات الدبلوماسية التي اتخذتها كل من الرياض وأبوظبي تبرهن على ذلك.
إن استمرار سوريا كدولة منبوذة لن يبقى أمام النظام السوري سوى الاعتماد بشكل كبير على إيران. ليس من المتوقع أن توافق واشنطن على رفع العقوبات المفروضة على سوريا بشكل كامل لكن مع الضغط الخليجي، يمكن لواشنطن أن تغض الطرف عن بعض الاستثمارات الخليجية في سوريا.
حتى الآن، يمكن القول أن دول الخليج أخفقت في مزاحمة النفوذ الإيراني في سوريا، إذ أن نجاحها لا يعتمد على فتح السفارات والقنصليات وخطوط الطيران المباشرة بل في تقديم سلة حوافز مقنعة للرئيس السوري، وقتئذ، من الممكن أن ينحو الرئيس السوري نحو تعاون أفضل مع قرارات جامعة الدول العربية وقرارات لجنة الاتصال العربية التي تضمنت إعادة اللاجئين السوريين، ومن الممكن أن يكون هناك تعاون أفضل من جانب الحكومة السورية في مواجهة تهريب المخدرات من حدودها إلى باقي دول المنطقة.
لا يكمن التحدي الأهم في العقوبات الأمريكية، لكن أيضًا في غياب الإجماع بين دول الخليج تجاه التعامل مع سوريا، في حين أن أبوظبي وسلطنة عمان والبحرين والكويت لديهم مسار أسهل للتعامل مع سوريا واستعادة العلاقات، إلا أن وضع الدوحة والرياض أكثر تعقيدًا، وفيما اتخذت الرياض خطوات جيدة تجاه دمشق، تصر الدوحة على عدم التعامل مع دمشق والتغريد بعيدًا عن باقي دول الخليج، وهو ما يجعل المسار الخليجي غير فاعل ومتردد قبالة سياسة إيرانية واضحة وفاعلة.