انتخابات إيران: في سطوة الأزمات واختيار مرشد الثورة القادم

منذ ما يقارب نصف قرن، وهذه البلاد على قلق، كأن الريح تحتها لكنها “قوية”، تودع أزمة لتستقبل أخرى. بنظرة سريعة على المشهد الإيراني، تبدو هناك فوضى، وهذا ما يأتي بالقلق، لكنها فوضى منظمة، وهو ما يحافظ على الاستقرار.
انتخابات يصنفها من في الداخل والخارج بأنها الأهم منذ انتصار الثورة مطلع عام 1979، تقبل عليها إيران في أولى أيام شهر مارس/آذار 2024. هي انتخابات “مجلس الشورى الإسلامي” أي البرلمان وانتخابات مجلس خبراء القيادة، وتعود أهميتها لأسباب بإمكانها أن تشكل تحديات للنظام.
في مقدمة هذه الأسباب، يشار إلى أنه قد يضطر مجلس خبراء القيادة، الذي يتوجب عليه اختيار المرشد والرقابة على عمله، القيام بمهمته الأهم واتخاذ قراره الأصعب خلال دورته القادمة التي تمتد لثمان سنوات، حيث أن المرشد السيد علي خامنئي في الرابعة والثمانين من عمره ومن المتوقع أن يرحل خلال الأعوام الثمانية القادمة، وهو ما يفرض على مجلس خبراء القيادة اختيار مرشد جديد للجمهورية الإسلامية في إيران.
ومن هنا، يمكن فهم حساسية وتعقيدات قرارات مجلس صيانة الدستور المتعلقة بهذه الانتخابات، حيث أن صيانة الدستور من مهامه اتخاذ القرار بشأن دراسة ملفات المتقدمين للترشح للانتخابات الأربعة (رئاسة الجمهورية والبرلمان ومجلس خبراء القيادة ومجالس البلدية) وتأييد أهليتهم للترشح أو رفضها. في هذا السياق، قد يكون أهم قرار اتخذه مجلس صيانة الدستور بشأن هذه الانتخابات هو أنه وضع ختم الرفض الأحمر على ملف أهلية الرئيس السابق حسن روحاني للترشح في الجولة السادسة من انتخابات مجلس الخبراء، وهو الختم الأحمر ذاته الذي وُضع سابقًا على ملف الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق للبرلمان علي لاريجاني وحسن الخميني حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني.
لا يمكن فهم هذا الاقصاء إلّا في سياق احتمال اختيار مرشد جديد، حيث أن روحاني ينتمي للتيار المعتدل ويُحسب على التيار الإصلاحي، لا سيما في ظل غياب أسماء إصلاحية في المشهد السياسي الإيراني. والفرع الحاكم من التيار الأصولي لا يريد آراء تضيق عليه أو تُزاحمه في اختيار المرشد الجديد. خاصة أنه في مرحلة حرجة، إذ أنه يفتقر بشدة لأسماء يمكنه التعويل عليها وترشيحها لخلافة المرشد الحالي. وعليه، يحاول التيار الأصولي تصفية الساحة من أي صوت قد يكون مختلفًا، والهدف هو اختيار المرشد دون تذبذبات. لذا، يستبعد المحافظون خصومهم دون مجاملات.
التيار الأصولي له فرعين، فرع في مدينة قم وحوزاتها وهم الأصوليون التقليديون وبين هذا الفرع والفرع الآخر أي أصوليو السلطات في طهران خلافات حول طريقة الحكم وخلافات فقهية، حيث أن بعض المراجع في قم يرفضون ولاية الفقيه المطلقة مثل آية الله محمد رضا نكونام وآية الله السيد صادق الحسيني الشيرازي. باختصار، يمكن القول إن حوزة قم تميل إلى الفقه الأقل بمعنى التدخل الأقل والأدنى في الشؤون السياسية والاجتماعية بينما يحاول الفكر المهيمن في طهران منح أكبر مساحة ممكنة للفقه والولاية المطلقة لولي الفقيه، وهم الفرع الثاني من الأصوليين أي من يهيمنون على مراكز السلطة في إيران والمعروفون بـ “جبهه پایداری” بالفارسية والتي تعني جبهة الاستدامة.
تسعى جبهة الاستدامة في العاصمة طهران – أي في سدة الحكم في إيران – إلى “أسلمة العلوم الإنسانية” في الجامعات، أما في الحوزة فيسعون إلى تشديد “الفقه الحكومي”، وهو فقه له خطة حصرية لإدارة البلاد في جميع المجالات. يمكن القول أنه مع أحداث مدرسة “فيضية” الدينية في قم عام 2018 التي شهدت احتجاجات من قبل طلبة الحوزة ضد السلطات في طهران، دخل الصراع بين جماعة الأكثرية الفقهية والأقلية الفقهية إلى مرحلة الصراع العلني. من الممكن أن يتسبب هذا الصراع في المستقبل، خاصة في ظل الأزمة المحتملة لخلافة المرشد، في اصطفافات أكثر حدة بين طرفي الصراع.
بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران عام 2021 أصبحت السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، إضافة إلى الحرس الثوري والإذاعة والتلفزيون ومجالس البلدية وخبراء القيادة وصيانة الدستور تحت سيطرة التيار الأصولي في طهران أي جبهة الاستدامة، وهو ما يطلق عليه في إيران “تناسق السلطات”. وبعد قرارات مجلس صيانة الدستور بشأن المتقدمين للترشح لانتخابات البرلمان والخبراء، يتضح أن جبهة الاستدامة مصرة على استدامة هيمنتها على النظام. لا سيما أن تعيينات المرشد للسلطة القضائية والإذاعة والتلفزيون والحرس الثوري تنحدر من جبهة الاستدامة بامتياز.
هذا الأمر، يضع الإصلاحيين أمام خِيارات، الأول في تبني ترشيح أسماء وإن كانت بعيدة عنهم والمشاركة في الانتخابات في محاولة للحد من سيطرة المتشددين وللتمسك بمقاعدهم في “قطار الثورة” الذي يحاول الأصوليون إنزالهم منه كل ما اقتربت البلاد من القرار المهم بشأن المرشد القادم، أما الخيار الثاني فهو المقاطعة، اعتراضا على قرارات مجلس صيانة الدستور باستبعاد مرشحيهم. ونظرا لندرة الأسماء التي يمكن للإصلاحيين تبنيها، ومن جانب آخر، تأمين الأرضية لانتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2025، وكذلك في محاولة للحفاظ على دور – وإن كان جزئيا – حتى الوصول إلى موعد اختيار المرشد القادم بصفته منعطف في تاريخ الجمهورية الإسلامية، من المتوقع أن يختار الإصلاحيون خيارا ثالثًا، وهو الدعوة للمشاركة في الانتخابات دون تشكيل قوائم.
على صعيد التحديات للنظام بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2021 التي شهدت أقل نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، يواجه النظام تحدي نسبة المشاركة، لا سيما بعد الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في النصف الثاني من عام 2022 بعد وفاة الفتاة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق والآداب في طهران. كذلك استمرار العقوبات وتفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسبة التضخم، وبالتأكيد العدوان على غزة والتوتر في المنطقة وتزايد الخطاب الحربي تجاه إيران. قد تنعكس على هذه العوامل على نسبة المشاركة في الانتخابات. وإن كان بعض المتطرفين من السلطة في إيران لا يكترثون لنسبة المشاركة، لكنها على أي حال، تعتبر استفتاء للنظام، ومؤشرًا على مدى تماسك الدولة في الداخل.
على الرغم من هذه العوامل التي ذكرت أعلاه، لا يمكن الجزم بأن انتخابات ١ مارس/آذار سوف تشهد أقل نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية كما تتوقع المعارضة الإيرانية، حيث أن السلوك الانتخابي في انتخابات البرلمان في المدن الصغيرة يتأثر بالعلاقات الفردية والعائلية والمناطقية، والنظام في إيران يعلم هذا جيدا، وعليه وافق صيانة الدستور على عدد كبير من الأسماء لانتخابات البرلمان القادمة، لأن كل مرشح له مقربين يصوتون له، بغض النظر عن أن غالبية هذه الأسماء تنتمي إلى التيار المحافظ. هذه القاعدة تكون في المدن الصغيرة التي لا تحكمها الأحزاب. بينما المدن الكبرى تحكم انتخاباتها قوائم الأحزاب والمدن التي فيها قوميات مختلفة تشهد قوائم مبنية على المحاصصة القومية.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الانتخابات تحدد مصير السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية حتى عامين قادمين أي حتى انتخابات الرئاسة المقبلة. وعليه، سوف تستمر سياسة إيران بالنحو التي هي عليه حتى عامين من الآن، حيث من المتوقع أن تستمر سيطرة قوى اليمين وأن يستمر معها نهجها الذي وسع الفجوة بين طهران والغرب – فضلا عن سياسات الغرب في هذا الصدد – كما وسوف يستمر الاقتصاد الإيراني في التراجع. أما علاقات طهران بالمنطقة، فتبقى مساحة مفتوحة للتوقعات وفقًا لتطورات ومستجدات ملف حرب غزة وتطوراته في لبنان واليمن وسوريا والعراق.

منشورات أخرى للكاتب