عمليات إيران في باكستان والعراق وسوريا: متّفَقٌ عليها

يعتقد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن العاطفة هي التي توحد الشعب وليس المصالح المشتركة. انطلاقا من هذه النظرية، يمكن القول إن العمليات الإيرانية الثلاثة في سوريا والعراق وباكستان جاءت في ظل ضغط شعبي، فعندما يصل التهديد والخطر العمق الإيراني ويتجاوز طهران ويصل إلى مدن داخلية غير العاصمة ويستهدف الشعب، تواجه السلطات في طهران مطالب شعبية بالرد السريع لاحتواء الانفعال الشعبي فالعاطفة تكون هي الغالبة. في هذه الحالة، الشعب لا يتقبل عبارات مثل “الرد في الوقت المناسب” و”الانتقام في الزمان والمكان المناسبين”، أي العبارات التي يقولها القادة في إيران بعد اغتيالات تطال علماء صاروخيين أو نوويين أو قادة عسكريين. هذه المرة، وصل عدد الضحايا إلى حوالي ١٠٠ قتيل و٣٠٠ جريح من المواطنين في مدينة كرمان أثناء تجمع شعبي لإحياء الذكرى الرابعة لاغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.

بناء على هذا، لم يكن بوسع طهران أن تؤجّل عملياتها. بل كان عليها أن تخطط بذكاء، وأن تستغل هذه العمليات – التي لا بد منها – لتحقيق أهداف متعددة، لذلك، أوصلت إيران رسالة أخرى، أنها قادرة ولا تتردد باستهداف أي خطر يهددها، حتى وإن كان في بلد ليس ضمن جغرافيا البلدان التي تعد حليفة لها – أو وكيلة وفي ظل التوتر الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط و”محور المقاومة” منذ بدء الحرب على غزة، ولهذا ضمت بالفعل هدفا في باكستان، ولم تكتف بضرب أهداف في سوريا والعراق.

من جانب آخر، كانت إيران تريد فرصة لاستعراض قدراتها الصاروخية، وتحديدا في هذا التوقيت في ظل تصاعد الخطاب الحربي تجاهها وتجاه حلفاءها – “المحور”. استخدمت في هذه العمليات صواريخها الباليستية المحلية الصنع وأطلقت الصواريخ باتجاه الأهداف في إدلب السورية من محافظة خوزستان جنوب غربي إيران وهي منطقة حدودية ليست هي الأقرب لإدلب السورية، لكن اختارتها إيران لتستعرض مدى صواريخها الباليستية أمام أعين الاحتلال الإسرائيلي والغرب والعرب. بينما كان بإمكانها أن تضرب أهدافها في إدلب من خلال قواعدها في سوريا وباستخدام صواريخ كروز.

ما يجب الالتفات إليه، أن إيران لم تصعد من خلال كل عملياتها الثلاث. فهي تتمتع بنفوذ قوي وكبير في كلّ من سوريا وبغداد، وهي لا تقوم بهكذا عمليات بدون تنسيق أمنيّ مسبق معهم حتى وإن كانت حريصة على السرية فيها. أما العملية في باكستان، فمن المؤكد أنها لم تأت خارجة عن إطار اتفاق مع إسلام آباد.وعلى صعيد الاستياء الذي أظهرته أربيل فهو ليس مهما بالنسبة لطهران، لكن ذلك الذي أظهرته بغداد والخطوات العملية التي قامت بها من خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن ضد إيران، فهذا يخدم المصالح الإيرانية، في هذا التوقيت تحديدًا، حيث أن إيران متهمة اليوم أكثر من ذي قبل بدعم “محور المقاومة” أي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة وحزب الله” في لبنان و”أنصار الله” في اليمن والفصائل العراقية التي تستهدف القواعد الأمريكية. وعليه، إيران بحاجة إلى تقليص مسؤوليتها تجاه ما تقوم به هذه الأطراف وتحديدا الفصائل العراقية، ولو قليلا.

أما الاستياء الباكستاني فيخدم المصلحة الإيرانية أيضاً، حيث تظهر إيران بجرأة أكثر بضرب كل خطر يهددها وبطولية أكثر أمام شعبها في الوقت الذي تقترب من الانتخابات وتواجه تحدي داخلي كبير باستقطاب فئات الشعب للمشاركة في الانتخابات التي تعلو أصوات المقاطعة تجاهها.

تثار التساؤلات بشأن باكستان أكثر من العراق – لكونه قدم شكوى ورفع مستوى الخطاب المندد. باختصار، إيران لا تتجاسر على باكستان، فهي بلد ذو سيادة، فضلا عن قدرات باكستان الصاروخية والنووية. لذلك فإن استهداف صواريخ الحرس الثوري لأهداف قال أنها لـ “جيش العدل” لم يأت من غير اتفاق بين طهران وإسلام آباد. وعليه، فإن استدعاء إسلام آباد لسفيرها في طهران وإبلاغ السفير الإيراني أن يبقى في طهران حتى إشعار آخر، ليس سوى مناورات إعلامية للداخل والخارج. والمضي بالمناورات البحرية المشتركة بينهما، يوما واحدا بعد العملية، وكذلك الاتصال الهاتفي بين وزيري الخارجية الذي سبق عمليات باكستان بساعات قليلة والذي أكد الجانبان فيه على احترام سيادة بعضهما البعض ومكافحة الإرهاب، يثبت ذلك. وما قامت به باكستان من عمليات استهداف بالصواريخ والمسيرات لقرية شمسير الحدودية التابعة لقضاء سراوان الإيراني بذريعة مكافحة جماعات انفصالية تهدد الأمن القومي الباكستاني ومقارها في هذه القرية، ليس إلا رد مماثل في سياق الاتفاق بين طهران وإسلام آباد. وحتى أن الردود الدبلوماسية للجانبين بعد كلا العمليتين كانت مشابهة تقريباً، حيث قاما باستدعاء السفيرين وبعض التصريحات المنددة بانتهاك السيادة.

إنّ تأكيد الخطاب الإيراني الرسمي على أن ضحايا الهجوم الباكستاني على الأراضي الإيرانية ليسوا إيرانيين – بغض النظر عن الأنباء غير الرسمية التي تقول إن هناك إيرانيين من بين الضحايا بالإضافة إلى ناس لا يحملون أي جنسية – جاء في سياق محاولة إيران إضفاء طابع باكستاني داخلي على القضية، ومنع أي انفعال شعبي إيراني، كما وإخلاء المسؤولية أمام المطالب الشعبية بالقيام بأي خطوات ردع. ومن جانب آخر، فإن الجارتين بغنى عن التوتر فيما بينهما، وبهذا التوقيت تحديداً، حتى وإن كانت باكستان مستاءة بعض الشيء من سياسة إيران تجاه طالبان في أفغانستان وإيران أيضا غير محبذة لعلاقة باكستان مع الغرب، لكنهما آثرا الاستقرار بالعلاقة وتجنبا التوتر بشكل ملحوظ. إذن، لا توتر بين طهران وإسلام آباد ولا تصعيد قادم. لكن على المستوى الداخلي، قد يواجه البلدان ضغط وانفعال شعبي عاطفي وأصوات حزبية متشددة تطالب بـ “الانتقام” عليهما احتواءها.

منشورات أخرى للكاتب