ما لا تريدهُ طهران من حرب غزة: إنهاء الصراع واتساع الحرب
في خطوة إلى الوراء، إلى ما قبل السؤال عن قراءة إيران لحرب غزة والموقف منها، علينا أن نحاول فهم تداعيات الحرب ومآلاتها من خلال قراءة الموقف الإيراني لأننا نمتلك آليات منطقية لدراسة سياسات الدول، ومن الواضح أننا والعالم بأكمله نفتقر لمحددات كافية لتحليل قرارات جماعات وحركات لا يمكن وضعها في تعريف الدولة. لذلك، حين نعجز عن فهم “حماس” وما جعلها تخوض عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول وهي تعي بالتأكيد حجم الخسائر التي تنتظرها، علينا أن نحاول تحليل سياسات الدول التي يربطها عقلنا الباطن والظاهر بحماس، مثل إيران.
انطلاقًا من القول بأن العلم هو أن أعرف ما لا أريد، وليس ما أريد، يركز هذا المقال على ما لا تريده إيران من هذه الحرب وما لم تكن تريده.
إحدى المحددات التي يمكن تعريف الدور والموقف الإيراني في ظلها، هي التطبيع العربي الإسرائيلي، يرى البعض أن إيران تستفيد من تعطيل عملية التطبيع، لذلك هي شريك في هجوم حماس بشكل أو بآخر. أستبعد هذه القراءة وأرى أن إيران تقبلت التطبيع العربي الإسرائيلي كأمر واقع رغم أنها بذلت قصارى جهدها لاستبعاد هذه القضية وهي الآن تستفيد من تعثر القافلة، بل توقفها مؤقتًا فعملية التطبيع لم تتوقف بشكل نهائي. الفصائل الفلسطينية توصلت إلى نتيجة مفادها أن انضمام السعودية إلى عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيُحسم الأمور، وعليه، ستُنسى القضية الفلسطينية تدريجيًا.
نعم، من المؤكد أن أحد اهتمامات حماس من عملية السابع من أكتوبر هو عرقلة التطبيع. كانت عملية التطبيع مهمة بالنسبة لإيران، لكن إيران لها اعتباراتها الخاصة في علاقاتها مع الدول الأخرى، إضافة إلى ذلك، أعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية لتحرك إيران نحو استئناف العلاقات مع السعودية هو العملية المستمرة لتطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل. ولهذا السبب، اتجهت السعودية نحو تطبيع العلاقات مع إيران. في الحقيقة، كان الطرفان يعتزمان تطوير علاقاتهما على أساس التوازن من خلال التفاهم، وحتى قبل السابع من أكتوبر، لم يكن تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية خاليًا من التحديات. تتعلق التحديات باشتراطات ومطالبات السعودية من الولايات المتحدة، مثل البرنامج النووي والضمانات الأمنية. التحدي الآخر هو النهج الذي اتبعته السعودية لدفع إسرائيل في الاتجاه الذي يتعين عليها فيه تقديم تنازلات للفلسطينيين. أعتقد أن هذه القضية الثانية لم تكن استراتيجية للغاية بالنسبة للسعوديين، بل كانت أكثر ارتباطا بحقيقة أن السعودية، باعتبارها مركز العالم الإسلامي، لا تستطيع الدخول في عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل دون أن يكون لديها ما تقدمه للعالم الإسلامي.
ومن جانب آخر، وفي معزل عن نتائج هذه الحرب، يمكن القول أن مستوى التهديد الإيراني ومحور المقاومة بالنسبة للدول العربية قد ارتفع. ومن الطبيعي أن يفكر العرب أنه عندما تكون إسرائيل عرضة للتهديد بسبب حماس، فما هو الموقف العربي أمام إيران وحزب الله. لذلك، حين يهدأ الوضع، من المتوقع أن تزداد الرغبة لدى الجانبين العربي والإسرائيلي في تعزيز علاقاتهما ضد المحور الإيراني. لذلك، يوضح منطق موازنة القوى أن تطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل لن يتوقف. إضافة إلى ذلك، سيكون من مصلحة السعودية أيضًا أن تشارك في الخطة الأميركية لأنها بذلك تكون قد دخلت وشاركت في حل مشكلة غزة وتنمية غزة، وهو ما يتماشى مع خطتها الإقليمية. وعليه، هذه الحرب لا تخدم إيران في ملف التطبيع.
المحدد الآخر هو حل الدولتين. خلال هذه الحرب، نشهد إصرارًا أكثر جدية على حل الدولتين. حتى الآن، ينصب التركيز التحليلي مرة أخرى على مسألة أنه لا يمكن وضع خطة سلام في الشرق الأوسط دون حل القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين. ونتيجة لذلك، يبدو أن اتفاقيات إبرام وتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية لها الآن معيار آخر، وهو حل الدولتين. بغض النظر عن مدى إمكانية تحقيق ذلك عمليًا.
وبطبيعة الحال، فإن فتح هذه المناقشات حول حل الدولتين ليس جديدًا تمامًا. في السابق، كلما اشتبكت حماس وإسرائيل، كانت هذه المناقشات مفتوحة، لكن عمليًا دون أي نتائج.
هذه المرة، يختلف تصور وفهم مستوى التهديد لدى الدول الأوروبية عن المرات السابقة. قبل ذلك، نوقشت قضية الصراع في الشرق الأوسط في الغرب وفي الولايات المتحدة لأكثر من عشر سنوات، حيث يحاول الأميركيون الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط من أجل تحويل كل تركيزهم نحو الصين. كانت خطة أوباما فيما يتعلق بخطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران المعروفة بالاتفاق النووي، هي توسيع نطاق هذا الاتفاق ليشمل المناقشات الإقليمية حتى يتمكن من خلق نوع من التعايش في الشرق الأوسط. وكانت خطة ترامب تشمل كل شيء باستثناء إيران. أما خطة بايدن فتبدو متوازنة في مواجهة إيران التي ترفض الدخول في بنية الإقليم الجديدة. لكن بشكل عام، أصبح من الواضح أن كل هذه المخططات لا يمكن أن تتم دون حل القضية الفلسطينية. وتدرك حكومة الرئيس بايدن الآن أنه وحتى يتم حل هذه المشكلة، لا تستطيع الولايات المتحدة مغادرة المنطقة.
فيما يتعلق بأوروبا، أصبحت هذه القضية داخلية إلى حد كبير، خلقت موجة الهجرة من الجاليات الإسلامية إلى أوروبا في السنوات الماضية تعاطفًا وتضامنًا مع الفلسطينيين في أوروبا، وأثارت هذه القضية قلق الحكومات الأوروبية التي باتت تعلم أنه ليس من الممكن السيطرة على هذه المشاعر على المدى الطويل. هذه المرة يبدو الإصرار على حل الدولتين أكثر جدية، لكن في الوقت نفسه هناك تناقض. يتمثل هذا التناقض أيضًا في الاعتقاد الأوروبي أنه ولاستعادة نوع من التوازن فيمكن لإسرائيل أن تأخذ السيطرة من حماس ثم التوجه نحو حل الدولتين، وإلا فإن كل شيء سيكون ضد إسرائيل. هذا التناقض يجعل المشكلة أكثر صعوبة، ولهذا السبب، يعتقد البعض إن أميركا لا تبحث عن حل الدولتين حتى وإن اكدت على ذلك.
الواضح أن رؤية إيران في القضية الفلسطينية لا تقوم على حل الدولتين. ويعود جزء من السبب إلى قضية الهوية، إذ أنه وبمجرد حل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، فإن المفهوم برمته الذي شكلته إيران كمحور المقاومة في المنطقة سوف يصبح غير ذي صلة. ولذلك، فإن حل الدولتين وهوية محورها بُعدان متناقضان. حتى لو وافق جميع الفاعلون الفلسطينيون على حل الدولتين، فإن إيران ستستمر في خلق تحديات أمام هذا الحل. وعليه، إيران لم تفتعل الحرب من أجل الوصول إلى هذا الحل.
المحدد الثالث وهو احتمال القضاء على حماس. بافتراض أن إسرائيل قامت بتحييد حماس ولبحث خيارات إيران وسيناريوهاتها، علينا أن نعود إلى سنوات قليلة ماضية حين كانت حماس خارج محور المقاومة لننظر ما فعلت إيران في ذلك الوقت وكيف غيرت الأوضاع. يمكن القول إن إيران غيرت الأوضاع لصالحها على المستوى الاستراتيجي، ويمكن الإشارة إلى سيناريوهين إثنين. الأول هو أنه قد يكون من الممكن تحييد حماس على المدى القصير لكن الفكرة وراء حماس لن يتم تدميرها عسكريًا. ومع ذلك، إذا تم تحييد حماس وبغض النظر عن الوضع في الضفة الغربية، فمن المحتمل أن تحاول إيران إعادة بناء المقاومة في غزة بطريقة مختلفة من خلال حزب الله ومجموعات المقاومة الأخرى، ومن ناحية أخرى، ستركز إيران في الوقت نفسه على استراتيجية المواجهة مع إسرائيل من الضفة الغربية وداخل الأراضي الفلسطينية. إضافة إلى ذلك، في الأشهر القليلة الماضية أكد مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى على الحاجة إلى تسليح الضفة الغربية. السيناريو الثاني هو أنه وعلى المدى القصير، ستركز إيران على تعزيز الجبهة الشمالية لإسرائيل، بما في ذلك لبنان وجنوب سوريا، وستعزز كذلك الجبهة الجنوبية، أي جماعة أنصار الله، دون الجماعات العراقية، لأن وظيفة الجماعات العراقية في الاستراتيجية الإيرانية تتلخص في مواجهة الولايات المتحدة وليس إسرائيل.
العامل الذي قد يسبب توترًا حادًا هو أنه في حال نجحت إسرائيل في تحييد حماس، فلا ضمانات بأن إسرائيل لن تستهدف جذور المحور. يتحدث الإسرائيليون عن هذا الخيار ولديهم سابقة من مثل هذه الإجراءات في الماضي. في مثل هذا الوضع، وبسبب الجبهات النشطة التي تمتلكها إيران، يمكن أن يتجه الوضع نحو توتر شديد للغاية. ولذلك، من مصلحة إيران أن تستمر أزمة غزة الحالية بطريقة أو بأخرى، أي يستمر الوضع الذي لا تختفي فيه حماس مع بقاء الصراع دون حل، في التوقيت نفسه، يجب أن لا تمتد الحرب إلى الحد الذي يضطر حزب الله وإيران إلى دخولها، لأن حرب الاستنزاف والحرب واسعة النطاق ليست في مصلحة إيران وحزب الله لأنها تتطلب الكثير من الموارد ولا يستطيع اقتصاد إيران ولبنان تحمل ذلك.
من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى كلمة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الأولى، حيث كانت كلماته مشابهة إلى حد كبير لكلمات المرشد الإيراني السيد علي خامنئي في الأسابيع الأخيرة. منذ بداية الحرب، تبنى حزب الله سياسة الغموض الاستراتيجي، أي أنه لم يلتزم بأي شيء، ومن ناحية أخرى، لم يؤكد لإسرائيل أن حزب الله لن يفعل شيئًا. وفي الواقع، يبدو أن سياسة الغموض هذه من المفترض أن تستمر والهدف هو إبقاء إسرائيل منشغلة في الجبهة الشمالية والإبقاء على ضغط الرأي العام على إسرائيل، وكلاهما يتماشى مع مصالح إيران وحزب الله.
النقطة الجديدة الوحيدة في خطاب السيد حسن نصر الله، والتي ربما كانت بمثابة حرب نفسية إلى حد ما، كانت حديثه علنا عن أنه إذا استهدفت إسرائيل المدنيين في لبنان فإن حزب الله سوف يستهدف المدنيين داخل إسرائيل أيضًا. يعرف نصر الله البيئة الإسرائيلية جيدًا وحاول اللعب في هذه البيئة. لكن في الوقت نفسه، أظهر كلام نصر الله أن حزب الله الذي نعرفه اليوم يختلف عن حزب الله قبل 10 سنوات أو 20 سنة ماضية. في الماضي، كان العالم أمام حزب الله الثوري الجسور لكنه اليوم حزب الله العملي والذي يدرس المواقف جيدًا. والسبب هو أن حزب الله منخرط بشكل كبير في هيكلية الحكومة وقد حصل على السلطة لدرجة أنه لا يستطيع أن يأخذ في الاعتبار مصالحه الحزبية فحسب، بل عليه أن يأخذ في الاعتبار مصالح لبنان ككل. من الصعب اعتبار حزب الله جهة فاعلة غير حكومية بل هو بالتأكيد ممثل دولة، وهنا يصبح الفرق بين حماس وحزب الله واضحًا لأن عملية صنع القرار ومنطق العمل لدى جهة فاعلة تابعة للدولة يختلف عن تلك التي لدى جهة فاعلة غير تابعة للدولة. يعرف حزب الله ما هي العواقب التي قد يخلفها دخوله الحرب على لبنان وعلى إيران أيضًا.
يؤكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان مرات عدة في خطاباته الأخيرة، أن إيران لا تعطي أوامر لأي من فصائل محور المقاومة في المنطقة، وأن هذه الفصائل هي التي تقرر ما يجب فعله بنفسها. يعود السبب إلى أن إيران لا تريد ذلك ولا تستطيع أيضًا، وهو أمر يختلفُ نسبيًا من بلد إلى آخر. منذ عام 2020، وبعد اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، أصبح هناك فراغ في هيكلية القيادة والسيطرة لمحور المقاومة. لوحظ هذا الفراغ بشكل لافت حين أصرت الجماعات العراقية على أنها تريد الانتقام للمهندس غير مهتمة بما فعلته إيران أو بما تفكر به.
في الجانب الاقتصادي والدعم المادي. حدت سياسة الضغط الأقصى الأمريكية ضد إيران من موارد الأخيرة. لذلك، ذهبت هذه المجموعات للبحث عن مصادر بديلة، وهو ما شجت إيران عليه. كانت هذه إحدى نتائج سياسة الضغط الأقصى حيث كانت الولايات المتحدة تنوي تقليص سيطرة إيران على هذه الجماعات بهذه السياسة، وبالنتيجة أدى تقليص سيطرة إيران ونفوذها إلى استقلال هذه الجماعات إلى حد ما.
هناك توقعات حول تطور آخر، ونفترض هنا أنه حدث بالفعل، وانعكس على تطورات غزة وهو تشكيل غرفة العمليات المشتركة لمحور المقاومة. بناء على أنباء غير رسمية، بعض المجموعات لها ممثلون في هذه الغرفة، وإدارة هذه الغرفة تخضع لسيطرة مشتركة لإيران وحزب الله. ولهذا السبب، هناك نوع من إعادة تنظيم محور المقاومة من الهيكل الهرمي الذي كان يرأسه سليماني إلى الهيكل الحالي. وبالتالي فإن الشبكة التي كان يشار إليها سابقا باسم الحرب بالوكالة تعمل الآن كشبكة من التحالفات. ولذلك، تراجعت سيطرة إيران المباشرة على هذه الجماعات. وبالمناسبة، فإن إيران ترحب أيضا بهذا التطور لأن مسؤولية إيران ستكون أقل والنجاح الذي ستحصل عليه سيكون أكبر.
الاتجاه الآخر الذي تتبعه إيران هو أنها حاولت تحويل حلفائها إلى حلفاء مستقلين إلى حلفاء من داخل الدول. في لبنان، دخل حزب الله إلى الحكومة اللبنانية، وفي العراق تم تطبيق نموذج حزب الله ودمج الحشد الشعبي في القوات المسلحة العراقية. في اليمن، حدث هذا الأمر بطريقة مختلفة حيث يقع الجيش اليمني بشكل أساسي تحت سيطرة أنصار الله. يحدث ذلك أيضًا في سوريا بطريقة مختلفة. تضافر هذه العوامل يجعل إيران في بعض الأحيان غير قادرة، وأحيانًا أخرى غير راغبة في إعطاء أوامر مباشرة لفصائل المقاومة.
رغم كل ما ذُكر، لن تسمح إيران بخسارة غزة، بصفتها مقدمة الجبهة الرادعة لها أي محور المقاومة، لذلك، لا يُستبعد أي إجراء من جانب إيران عند الضرورة للحفاظ على غزة، يعتقد البعض في إيران أنه في حال فقدت غزة فإن طهران ستفقد لبنان ثم سوريا إلى أن تصل إسرائيل إلى طهران.