كيف تنظر إيران لانتخابات الرئاسة في تركيا؟

رغم تاريخ من الحروب المستعرة وفترات متقطعة من التوتر والمنافسات الإقليمية، تجمع طهران وأنقرة اليوم علاقات جيدة ومستقرة منذ حكم مصطفى كمال أتاتورك (1881 – 1938). “النظام الإسلامي” في طهران بعد ثورة عام 1979 حافظ على العلاقات مع نظام أنقرة العلماني، وبعد صعود الإسلاميين وتوليهم مقاليد الحكم بقيادة حزب “العدالة والتنمية” في تركيا عام 2002، تطورت العلاقات بين البلدين حيث وصفت بــ “ربيع العلاقات” بينهما.

لكن التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير جعلت الجارتين في جبهات معادية. وبهذا، أصبحت العلاقات الإيرانية التركية في حالة ثنائية مركبة بين التعاون والمنافسة في الوقت ذاته. ورغم الخلافات وتصادم المصالح في كثير من الأحيان ألا أن البلدين تجنبا، بشكل ناجح، أي مواجهة مباشرة.

إقليميًا، بدأ الخلاف بين تركيا وإيران منذ بدء الأزمة السورية عام 2011، حيث تعد الأخيرة داعمًا رئيسًا للحكومة السورية، بينما تدعم أنقرة قوى المعارضة في الشمال السوري. ثم توسع الخلاف إلى الأراضي العراقية، حيث ترى طهران أن أنقرة لعبت دورًا مهمًا في توحيد صفوف السنة في العراق عبر مصالحة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي والسياسي السني خميس الخنجر، وهي تعتقد أن التدخل التركي يضعف البيت الشيعي المقرب منها في العراق. ومن جانبها، تتهم أنقرة حلفاء طهران في العراق بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني واستهداف قواعدها شمال العراق حيث تقود منها حربًا تعتبرها رادعة ضد حزب العمال الكردستاني.

وباندلاع الحرب الأذربيجانية الأرمينية، دعمت تركيا حليفتها أذربيجان سياسيًا وعسكريًا بينما تمثل الأخيرة لإيران تهديدًا لأمنها القومي إذ تتهمها بدعم المعارضة الإيرانية الآذرية المتمركزة على حدود البلدين. وفيما يخص الحرب الأوكرانية، دعمت إيران روسيا علانية ووصفت الحرب بأنها ردة فعل على تهديدات الناتو، قبالة ذلك، تركيا هي عضو في حلف الناتو وداعمة لأوكرانيا.

تشعر إيران بعدم ارتياح لإعادة العلاقات التركية الخليجية ولاسيما مع السعودية والإمارات بعد المصالحة الخليجية، إذ تخشى من أن يؤدي التقارب التركي السعودي إلى إضعافها. كما تعارض طهران علاقات أنقرة مع تل أبيب التي شهدت تطورًا في الآونة الأخيرة وتعاونًا استخباراتيا أتت أولى ثماره من خلال القبض على خلايا إيرانية كانت بصدد اغتيال إسرائيليين في تركيا، وفق ما أعلنت عنه أنقرة على الرغم من النفي الإيراني.

تعتقد طهران أن أنقرة تمنح إسرائيل مساحة أكبر في التغلغل في المنطقة، ويرى المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيراني أن هذا التحول في العلاقات من تبعاته زيادة الضغط على حكومة الرئيس بشار الأسد في سوريا وتمهيد الطريق للتغيير في وسط وجنوب سوريا حيث الوجود الإيراني الضارب. تتوجس طهران من تسوية العلاقات التركية مع تل أبيب التي سبقها تسوية الخلافات الحادة مع الرياض وأبو ظبي وإلى حد ما القاهرة، ما يشير إلى تشكيل محور جديد في المنطقة.

ورغم تقابل المصالح الإيرانية وسياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ترجح طهران بقاء أردوغان في الحكم، خاصة بعد خطواته الأخيرة لتطبيع العلاقات مع النظام السوري وانضمام إيران إلى الحوار الروسي ـ التركي ـ السوري مؤخرًا. وبهذا، تعمل طهران على إقصاء أي احتمال لخلافات تركية ـ سورية جديدة بعد الانتخابات.

مما لا شك فيه أن تقليص العداءات مع النظام السوري يخدم النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما تسعى له طهران. ولذلك، تتجنب إيران دعم المعارضة التركية، خصوصاً وأن المعارضة الكردية في تركيا هي ذاتها المعارضة في غرب إيران، وتمثل تهديدًا للأمن القومي الإيراني باستمرار. ورغم الاتهامات غير المحكّمة لإيران بدعم المعارضة المسلحة في تركيا (PKK)، تتشارك إيران وتركيا بشكل غير مباشر بالاستهداف العسكري لمعسكرات الأكراد في إقليم كردستان العراق مع اختلاف الأحزاب ربما. وفيما تستهدف إيران حزبي “كوملة” والديمقراطي الكردي “باك”، تستهدف تركيا حزب العمال الكردستاني.

إذا ما ألقينا نظرة تاريخية سنجد أن كلا البلدان لا يدعمان المعارضة في البلد الآخر. كما لا تدعم إيران ائتلاف الأحزاب المعارضة الستة في الانتخابات. قد يكون تجنب استهداف الأمن القومي بشكل مباشر ودعم المعارضة بشكل عام يأتي في مسار الحفاظ على شيء من التعاون الأمني وأيضا الاقتصادي.

على الصعيد الاقتصادي، تسعى تركيا لتصبح مركزًا للطاقة في المنطقة. وهو ما يعد تهديدًا لإيران التي تحاول الاتكاء على اعتماد جيرانها عليها لتقليص آثار العقوبات الغربية. تحاول تركيا أن تكون منطقة ترانزيت الشرق مع أوروبا، ومن جانب آخر، لم تنقطع تركيا عن السوق الإيراني في ظل العقوبات، وأعلنت إيران أن تبادلها التجاري مع تركيا في عام 2022 بلغ 11 مليار دولار. كما كشف مرصد الهجرة في إيران أن الإيرانيين أنفقوا نحو 3 مليارات ونصف المليار دولار في عام 2022 لشراء المنازل في تركيا، إلى جانب 22 مليون دولار لتسجيل شركاتهم هناك في العام ذاته. فضلا عن اعتماد إيران الكبير على تركيا للاستيراد في ظل العقوبات. تشعر كل من إيران وتركيا بأنهما جزيرتين في محيط عربي- أي الشرق الأوسط – وهو ما يكثف من التقارب بينهما. وعليه، يمكن القول أن هناك مصالح اقتصادية وأمنية وثقافية مشتركة لا تتأثر بمن سيفوز بالانتخابات التركية.

من جانب آخر، تسعى الحكومة الإيرانية لحلحلة الأزمات مع الجيران ودول الشرق الأوسط كما بدأت تفعل مع السعودية. لا تبحث حكومة إبراهيم رئيسي عن أزمات جديدة في المنطقة،  ربما لأنها تدرك خطورة ابتعاد الغرب بعد فشل المفاوضات النووية والاتهامات الموجهة لإيران بالمشاركة في حرب أوكرانيا من خلال تزويد روسيا بالمُسيرات.

من هذا المنطلق، يبدو من المهم لإيران أن لا تصبح جزءً من الحملة الانتخابية والصراع بين المرشحين لرئاسة الجمهورية في تركيا. كل ما تريده إيران من الانتخابات التركية هو استمرار العلاقات الاقتصادية معها لتقلل من مأزق العقوبات وتداعياتها. كما أنها تخشى التقارب التركي المكثف مع السعودية قبل حلحلة أزمتها مع الرياض، وهو ما يبدو قريباً مع الإعلان الأخير عن قرب تبادل السفراء بين الرياض وطهران.

من المتوقع أن العلاقات السياسية والاقتصادية بين تركيا وإيران ستستمر بغض النظر عمن سيفوز بالانتخابات. من الممكن أن تشهد ارتفاعًا وهبوطا في فترات زمنية محددة كما هو الحال في السابق، تأثرًا بعوامل أخرى غير الانتخابات. إذا ما استمر أردوغان في الحكم ستحاول طهران التقرب منه أكثر، أولاً لاحتواء دعمه العميق لأذربيجان، وأيضًا لضمان استمرار مواقفه اللينة تجاه سوريا.

منشورات أخرى للكاتب