المثقفون ورجال الدين في إيران: الصراع مستمر

شكلت التجاذبات بين المثقف ورجل الدين، أو بعبارة أخرى التفاعل ـ سلبا أو إيجابا ـ بينهما، خلفية لأحداث مصيرية في إيران منذ بداية القرن الماضي. دور هذه الثنائية قد يكون الأهم في الثورة الدستورية التي انطلقت عام 1905 وحركة تأميم صناعة النفط في إيران عام 1951 وأخيرا الثورة الإسلامية عام 1979.

الملفت في هذه الأحداث، اتحاد المثقفين ورجال الدين في بداية الكفاح ثم ابتعادهم، بل الوصول إلى حالة من الصراع المحتدم. أدى الصراع بين هاتين الفئتين في الثورة الدستورية وحركة تأميم صناعة النفط إلى إقصاء رجال الدين عن المشهد السياسي. في الثورة الإسلامية، استُبعد المثقفين من السلطة لتفرض الحوزة الدينية هيمنتها على السلطة في إيران.

اندلعت الثورة الإيرانية في نهاية سبعينات القرن الماضي نتيجة لتحالف المثقفين ورجال الدين على الصعيدين الاجتماعي والسياسي للإطاحة بآخر شاه حكم البلاد محمد رضا شاه بهلوي. كانت المعارضة الإيرانية آنذاك ترتكز على ثلاث أفكار مناوئة لنظام الشاه، فكر ديني غير تقليدي غارق بأفكار علي شريعتي الذي يرى أن “العودة إلى التشيّع الحقيقي والثوري هي السبيل إلى تحقيق العدالة الاجتماعية”، كان شريعتي يلقي كلماته في “حسينية الإرشاد” في طهران، فضلا عن كتبه. واختلف مع شريعتي رجال الدين بسبب نفيه لوجود ظاهرة رجال دين في الإسلام كما اختلفت معه استخبارات الشاه المعروفة بـ “السافاك” بسبب مواقفه المناهضة لنظام الشاه. الفئة الثانية من المعارضة، هم اليساريون الذين يطالبون بالعدالة بعيدًا عن الفكر الديني، منهم من متأثر بالاشتراكية الشرقية ومنهم المتأثرون بالديمقراطية الغربية. أما الفئة الثالثة فهم رجال الدين الذين حظوا باتباع العامة من الإيرانيين حتى أصبحوا الفئة الأكبر، تبنى رجال الدين الخطاب الشعبي والعدالة المأخوذة عن الدين وصنعوا قاعدة اجتماعية كبيرة.

بعد انتصار الثورة، استمر تحالف هذه الفئات حتى قام آية الله الخميني بتكليف مهدي بازرغان، الذي يحسب على التيار المعتدل المقرب من المفكرين بتشكيل حكومة انتقالية. يمكن اعتبار هذه الخطوة بداية لبروز الفجوة بين المثقفين ورجال الدين، حيث تبنى بازرغان والمقربون منه سياسات بعيدة عن الفكر الثوري والديني، بدا بازرغان كأنه يريد تحقيق الأهداف رويدًا رويدًا باعتماده على المثقفين. قبالة ذلك، كان المجتمع الإيراني مشبع بالحماس الثوري المطعّم بالدين إلى درجة كبيرة. لم تستمر حكومة المثقفين كثيرًا، حيث قدمت استقالتها بعد يوم واحد بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران. لم يقر بازرغان بأن استقالة حكومته جاءت احتجاجًا على اقتحام السفارة لكن الأمر بدا كذلك وتُرجم هكذا بالفعل. بعد ذلك، اختير أبو الحسن بني صدر المقرب من تيار المثقفين رئيسًا للجمهورية عبر انتخابات مباشرة. وبعد خلافات شديدة مع الخميني والبرلمان آنذاك، صوّت البرلمان في منتصف عام 1981 على عزل بني صدر، وبهذا بدأ الصدام يتسع ويكبر.

تكرر التاريخ، ولم يستمر تحالف رجال الدين والمثقفون. يقول الدبلوماسي الإيراني السابق ورئيس “حركة الحرية” إبراهيم يزدي “كلما أراد المثقفون مناهضة استبداد داخلي أو استعمار خارجي من خلال حركة وطنية، اضطروا إلى الاتكاء على رجال الدين لاستقطاب عامة الناس”. وتمثل الخلاف الكبير بين المثقفين ورجال الدين حول الدستور الجديد حيث كان المثقفون يعتقدون بأن ولاية الفقيه تأتي بالاستبداد، بينما يرى رجال الدين أن ولاية الفقيه تكليف شرعي والسبيل لتحقيق العدالة.

بعد استقالة الحكومة الانتقالية، وعزل أول رئيس للجمهورية ونهاية دورة أول برلمان تحت عنوان “مجلس الشورى الإسلامي” في عام 1984 الذي كان يضم مهدي بازرغان وعدد من رفاقه، انتهى حضور المثقفين في نظام الجمهورية الإسلامية. وخلال السنوات المعروفة بسنوات تثبيت النظام أي بدءً من 1981 حتى 1989، كانت الحرب تغطي المشهد الإيراني على جميع المستويات. تقلص الانقسام أثناء الحرب الإيرانية ـ العراقية التي اندلعت بداية الثمانينات. بعبارة أخرى، ساعد اندلاع الحرب بعد الثورة بفترة قليلة في تثبيت النظام. اتحد الشعب بكل أطيافه مع النظام السياسي القائم في الحرب، كما اجتمعت أركان النظام بعيدًا عن الخلافات والانقسامات. لم يكن للمثقفين حضور سياسي أو اجتماعي أو ثقافي سوى من خلال بعض الكتب والمقالات. ورغم الحضور المتواضع، أعرب المثقفون عن مواقفهم المناهضة للنظام. على سبيل المثال، وصف إبراهيم يزدي ولاية الفقيه بـ “الاستبداد الفقهي الذي جاء بدلًا من الاستبداد الملكي”.

وفيما يخص الحرب، نظر المثقفون إلى الحرب أنها نتيجة لسياسات آية الله الخميني ومن معه، معتقدين أنها نتيجة لفكرة تصدير الثورة، حيث أعلنت “حركة الحرية” في بيان أن “من الأسباب الداخلية للهجوم الأجنبي على البلاد التي شهدت ثورة منذ مدة زمنية قليلة، اعتقاد الثوار وقادة الثورة بتصدير الثورة”.

ترأس أكبر هاشمي رفسنجاني الحكومة في بداية التسعينات منطلقًا من شعار “الإعمار” حيث تزامنت بداية رئاسته مع انتهاء الحرب. شهدت إيران فترة اختناق آنذاك. وبعد نهاية الحرب، أوقفت السلطات الإيرانية جميع نشاطات “حركة الحرية” ولجأ المثقفون بشكل غير رسمي إلى مجالات الثقافة والفن والفكر. وتمثل نشاطهم بمجالين إثنين، الأول هو السعي في نظرية المعرفة والتنظير ونقد السنن الدينية والمذهبية والأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية الحاكمة. أما المجال الثاني، العمل والحركة في الفضاء السياسي من خلال المساحة التي تتاح لهم في الجامعات والصحافة والمناسبات الفكرية والثقافية والفنية. اعتمد المثقفون آنذاك، أي في تسعينات القرن الماضي، على رهان “التجدد الديني ونقد الوضع الراهن” وآثروا على المواجهة المباشرة خيار المواجهة النظرية والعملية لفكر الحكومة الدينية والإسلامية.

في فترة الرئيس الأسبق محمد خاتمي رُفع شعار “الإصلاحات”. حصل خاتمي على قاعدة شعبية ـ اجتماعية واسعة. كان الشعب الإيراني قد عبر فترة إعادة الإعمار ما بعد الحرب ويطالب بالحريات. أصبح خاتمي رئيسا للجمهورية بأعلى نسبة حصل عليها رئيس إيراني منذ الثورة حتى اليوم. ارتفع سقف الحريات في دورتي رئاسة خاتمي أي منذ 1997 حتى 2005. سياسيًا، عاد المثقفون إلى الواجهة. اجتماعيًا، ازدهرت أروقة وفعاليات المجتمع بحضور الطبقة المثقفة. على الصعيد الثقافي، شهدت إيران نسب غير مسبوقة من طباعة الكتب منذ بداية الثورة وحتى اليوم.

أدى انتصار “الإصلاحيين” إلى تعميق مكانة المثقفين اجتماعيًا وتوسيع حضورهم في المجالات الفكرية والأدبية والثقافية والسياسية. انتشار الكتب والصحف الإصلاحية الناقدة للنظام والقدرة على المشاركة السياسية منحت المثقفين مساحة وازنة. حاول المثقفون في تلك الفترة تفعيل الإصلاحات من خلال الأطر القانونية. يمكن ملاحظة أن أفكار المثقف الإيراني تغيرت عما كان عليه، أصبحت الطبقة المثقفة تطالب بعزل الدين عن السياسة وتقليص حضور الدين في السياسة.

في عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، تراجع حضور المثقفين بشكل ملحوظ. بعد انتهاء الدورة الأولى لأحمدي نجاد عاد المثقفون للشوارع مطالبين بسحب شرعية الرئيس الذي انتخب لدورة ثانية داعمين المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي. اتسعت الفجوة بين المثقفين والنظام الذي يهيمن عليه رجال الدين. حكم المحافظون المجتمع والسياسة معا. لم يسمح للإصلاحيين خوض أي سباق انتخابي بعد ذلك وهو ما قلص من المشاركة السياسية والاجتماعية للمثقفين. كما مُنع الكثير من المثقفين من أي نشاط مدني.

تزداد الفجوة بين المثقف ورجل الدين في إيران. تبني الإصلاحيين للرئيس السابق “المعتدل” حسن روحاني لم ينتج تقاربًا ملحوظًا. شهدت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في إيران أقل نسبة مشاركة منذ بداية الثورة حتى اليوم. يمكن ملاحظة انكماش الفترات الفاصلة بين كل احتجاج وآخر خلال السنوات الأخيرة.

بعد الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها إيران على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق والآداب في طهران، بات من غير المتوقع تقارب الفئات المثقفة ورجال الدين خلال السنوات القليلة المقبلة.

رغم فقدان الحركة الإصلاحية لقاعدتها الشعبية خلال السنوات الأخيرة، قد تعمد السلطة السياسية لمحاولة استقطاب سياسي من خلال التفاوض مع الإصلاحيين وفتح المجال لمشاركة المعتدلين في الاستحقاقات الانتخابية. على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، هناك حالة من الترهل واليأس تهيمن على الطبقة المثقفة، رغم ذلك، لن يتوقف المثقفون عن التركيز على الشؤون السياسية ودعم الاحتجاجات.

منشورات أخرى للكاتب