الكويت: الدوران داخل حلقة مفرغة

لم تتمكن “وثيقة العهد الجديد” التي أطلقها ولي عهد الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، من الصمود ﻷكثر من ثلاثة أشهر، ليعود الصراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد إلى سالف عهده. لم يفلح عهد الكويت الجديد في تحقيق نقلة نوعية طال انتظارها في العلاقة بين مجلس الأمة والحكومة التي أكدت رفضها عودة المجلس إلى ما دأب عليه من استخدام للأدوات الدستورية للضغط على الحكومة عبر سياسة الاستجوابات، وإحراجها على المستوى الشعبي بتصديرها لمطالب شعبوية يسيل لها لعاب المواطنون، لكنها في المقابل، تحمّل الدولة كلفة عالية لا تستطيع تحملها. اتهاماتٌ يرفضها أعضاء مجلس الأمة الذين يؤكدون أن التعطيل الحكومي متعمد، وأنه تهرب واضح ورفض لحق أعضاء المجلس في مساءلة الحكومة ومحاسبتها.

وتتلخّص الأزمة الجديدة التي نشبت بين الحكومة ومجلس الأمة، بعد الهدنة القصيرة التي أعقبت الانتخابات وتكوين الحكومة الجديدة، في رفض الحكومة ما تقدّم به نواب المجلس من مطالب لعلّ أهمها شراء المديونيات أو ما يتعارف عليه بإسقاط قروض المواطنين وإصرارها على سحب الاستجواب الموجّه ضد وزير المالية عبد الوهاب الرشيد ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء براك الشيتان. رفض أعقبه انسحاب من الجلسة البرلمانية ومن ثمّ استقالة الحكومة، وعودة على بدء إلى حكومة تصريف الأعمال، لتدخل الكويت بذلك مرة أخرى في أزمة سياسية جديدة.

تدور الحياة السياسية في الكويت منذ عقود في حلقة مفرغة، فما بين استقالة الحكومة وحل مجلس الأمة وإجراء انتخابات برلمانية، أفرغت العملية السياسية من مضمونها وأهدافها، التي تتلخّص أساسا في رعاية الشؤون الداخلية والخارجية بما يحقق الارتقاء بالبلاد في مختلف المجالات. تتوزع الاتهامات بأن إفراغ العمل السياسي من أهدافه الأصلية إنما يأتي خدمة للمصالح الفردية والقبلية والطائفية، والنتيجة هو أن الكويت، الدولة ذات الثروات النفطية الهائلة، باتت تتأخر تنمويًا مقارنة بباقي دول الخليج، وهو ما أدّى بها إلى أن تكون “رجل الخليج المريض” بحسب توصيف مجلة “الإيكونيميست” مؤخرًا.

لم تفلح كل الحلول في فضّ الخلاف بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في البلاد. كما يبدو أن مجهودات ولي العهد، الشيخ مشعل الجابر الأحمد الصباح، الذي كان حازما في إدارة الأزمة السابقة بين مجلس الأمة والحكومة، قد باءت بالفشل. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هذه الحكومة المستقيلة هي الحكومة الثالثة التي يشكلها الشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح فيما يقارب الستة أشهر، وهي الحكومة الـ٤٢ خلال ستين سنة من عمر البلاد.

يُنتظر الآن تشكيل حكومة جديدة، ومن المتوقع أنها ستكون جاهزة خلال منتصف الشهر الحالي. وفي الوقت ذاته، سيعمل الشيخ مشعل، على فضّ الخلاف الذي نشب بين مجلس الأمة والحكومة في محاولة للسير قدما بالبلاد، التي تعاني من تأثير هذا التناحر ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على مختلف قطاعات الدولة وخططها التنموية، يحدث ذلك بالتوازي مع تزايد التساؤلات وحملات التشكيك في أن صيغة يمكن أن لها أن تنتج علاقة مستقرة وفاعلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

يمكن القول إن كل هذه المجهودات لا تبعث على الأمل في حياة سياسية مستقرة للكويت والكويتيين، ذلك أن محاولة ترتيب البيت السياسي باعتماد الأدوات ذاتها منذ عقود، لم يعد يؤت أكله، بل إنه أثبت فشله الذريع. حتى مبادرة حسن النية التي تقدّم بها الشيخ مشعل في محاولته تصحيح المسار والتي حملت نفسا حاسما، توقع المراقبون من ورائه امتثال مختلف الأطراف المتدخّلة في الحياة السياسية والتزامهم بتوجّهات رأس السلطة، لم تكن كافية ومجدية في مقابل الأجندات الفردية.

أثبتت تجربة انتخابات مجلس الأمة الأخيرة خصوصًا، عدم رغبة الناخب الكويتي في تغيير خياراته داخل الصندوق، كما وتؤكد مآلات التجربة السياسية في الكويت أن الالتزامات القبلية والطائفية والأجندات الفردية أشدّ فاعلية وقوة من مؤسسات الدولة وهو ما يحيل إلى أن خيار الذهاب إلى انتخابات جديدة لمجلس الأمة لن يأتي بجديد.

تعاني الكويت من ضعف واضح في مشاريع استكمال بنيتها التحتية، كما أن المشروعات الاقتصادية متواضعة وغالبًا ما تتعرض للتعطيل والتأخير وسوء التنفيذ. قبالة ذلك، ينظر الكويتيون لمستويات النمو والتطور في دول الخليج المجاورة باستغراب في ظل أن ثروات وايرادات الكويت المالية تزيد عن مداخيل تلك الدول.

اليوم، السؤال الأكثر واقعية في الحالة الكويتية لن يكون عما إذا كانت الحكومة المقبلة ستنجح فيما أخفقت فيه الحكومات السابقة، بل ما إذا كانت هذا الحكومة المسمار الأخير الذي سيضرب في نعش الديمقراطية الكويتية؟ هل هي الفرصة الأخيرة قبل خيار التغيير الشامل والخيارات الصعبة؟ وهو ما ألمح له ولي العهد بوضوح حين حذّر علانية من فشل مبادرته وتوعّد باتخاذ “إجراءات شديدة الوقع والحدث”، وهو أيضًا ما يذهب له مراقبون داخل الكويت وخارجها بأن الحلول للأزمة السياسية في الكويت باتت مستحيلة، وأن تعطيل مجلس الأمة بات خيارًا قادمًا لا محالة.

منشورات أخرى للكاتب