قرن على التأسيس: ما هو مستقبل حوزة قُم وعلاقتها مع السلطة والمرجعية الدينية في إيران؟
يُمثل “مرجع التقليد” القيادة المذهبية في المجتمعات الشيعية إذ يشكل “المرجع” أعلى سلطة دينية. وتعد المرجعية ثاني أهم سلطة دينية في العالم بعد “البابا”. هناك أكثر من مئتي مليون شخص في العالم من الشيعة الذين يعتبرون أنفسهم تحت “هداية” المرجع الشيعي المعنوية والفقهية ويقدمون له الواجبات المالية ذات الصبغة الدينية، وتتمتع “المرجعية” وحدها بحق إصدار الفتوى.
وفق بعض المصادر الشيعية، تأسست المرجعية في عام 1830 في مدينة النجف العراقية، حيث أصبح محمد حسن النجفي أول مرجع شيعي فاق انتشار مقلديه الحدود العراقية. وفي القرن السادس عشر ألّف المجتهدون الشيعة نظرية جديدة تشرح العلاقة بين المرشد المذهبي الشيعي مع أتباعه. وفقًا لهذه النظرية، “يستوجب على كل مؤمن إما أن يصل إلى أعلى مراتب الاجتهاد أو أن يقلد شخصًا على قيد الحياة قد بلغ أعلى مراتب الاجتهاد”. اتصلت نظرية “التقليد” بنظرية مهمة أخرى في المذهب الشيعي تجيز للفقهاء الشيعة أن يتسلموا الالتزامات المالية ذات الصبغة الدينية بالنيابة عن الإمام الثاني عشر الغائب والمعصوم لدى الشيعة. ويعتقد الشيعة الإثناعشرية أن هذا الإمام الغائب سوف يظهر في آخر الزمان ويقيم حكومة عادلة في العالم.
يقول الباحث والمفكر الإيراني مهدي خَلَجي إن السلطة الدينية الشيعية أخذت شكلا جديدًا بعد ظهور المرجعية وباتت تمنح الشرعية للسلطة السياسية، وفي المقابل تلتزم السلطة السياسية بالمحافظة عليها، لكن مع ضمان تمتع المرجعية بالاستقلال المالي عن السلطة السياسية. منذ ذلك الحين، أصبحت المراجع أعلى سلطة دينية يتبعهم جمع غفير من الشيعة في المسائل الفقهية. ويعتقد خلجي الذي درس في حوزة قم ثم تركها وغادر إيران أنه لا يوجد أي توجيه لاهوتي في الإسلام الكلاسيكي لوجود طبقة من رجال الدين، بينما يُعد رجال الدين اليوم الركن الرئيس في المؤسسة الدينية الإسلامية، ولاسيما لدى الشيعة. كما يقول المفكر والباحث والمؤرخ الجزائري محمد أركون أن الإسلام بروتستاني من وجهة نظر لاهوتية وكاثوليكي من وجهة نظر سياسية.
ومن الناحية النظرية، يؤطر الفقه الشيعي دور الفقيه بصدور الفتوى، وعلى المقلدين أن يسألوا أسئلة عامة من مراجع التقليد، وتحديد المصاديق وتشخيصها يبقى على عاتق المقلدين، لكنّ السلطة الدينية لمرجع التقليد اتسعت من الصعيد الفقهي إلى الصعيد السياسي والاجتماعي، وذلك ربما لأن على أرض الواقع، يطلب المقلدون التوصية من مراجعهم في المسائل الخاصة أيضًا. في هذا السياق، نستذكر فتوى تحريم التبغ من قبل ميرزا محمد حسن شيرازي في عام 1891 في إيران، حيث كانت نقطة تحول في مجال عبور المراجع الحدود الفقهية وبداية تأثيرهم على المستويين السياسي والاجتماعي. وكانت هذه الفتوى ردا على ناصر الدين القاجاري الذي منح حق إنتاج وبيع التبغ في إيران إلى شركة التبغ الملَكية البريطانية مقابل دفع مبلغ سنوي له تحت مسمى “حق الامتياز”.
ومن جانب آخر، شهد القرن الحادي والعشرين هيكلًا جديدًا للقيادة الدينية في المجتمعات الشيعية، حيث يعد ظهور “الجمهورية الإسلامية” في إيران منذ أواخر القرن الماضي وأيضا تداخل السلطة الدينية مع السياسية في هذه البلاد نقطة تحول في القيادة الدينية الشيعية. لكن هذا ليس كل التغيير في القرن الجديد، سوف يكون رحيل كل من آية الله علي السيستاني (من مواليد 4 أغسطس 1930) وآية الله علي خامنئي (من مواليد 16 يوليو 1939) عن المشهد بداية مرحلة جديدة في المؤسسة الدينية الشيعية.
منذ انتصار “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979، بدأ عصر جديد من السلطة الدينية. تتميز هذه المرحلة بتفكيك الولاية الدينية عن الولاية السياسية. أي أن رجال الدين الذين يتقلدون المناصب ولهم دور سياسي لا يجب أن يكونوا بالضرورة مراجع تقليد أو مجتهدين، على سبيل المثال، السيد حسن نصر الله في لبنان والسيد مقتدى الصدر في العراق، هم رجال دين ولهم دور سياسي وتطلعات سياسية واسعة رغم أنهم لم يدرسوا الفقه الشيعي حتى بلوغ درجة الاجتهاد.
من هنا، تضاءلت أهمية آراء المراجع في الشؤون السياسية، واستمرارًا لهذا الأمر شهد المجتمع ظاهرة الانتقاء، حيث بدأ المقلدون بانتقاء ما يروق لهم من آراء مراجعهم. وأصبحت المراجع الشيعة في كل من النجف وقم محافظين وستستمر هذه الحالة في العقود القادمة. وبسبب الطبيعة المتغيرة دائمًا في السياسات الاجتماعية في المجتمع الشيعي، تتغير أنماط حضور وغياب وهيمنة المرجعية الدينية. في السنوات الأخيرة بدأت المرجعية تفقد جاذبيتها لدى الطبقة المتوسطة والأغنياء والمثقفين والنساء من حملة الشهادات وفئة الشباب. وأصبح هؤلاء ينتهجون تدينهم الخاص. لذا، يحظى الخطاب الإصلاحي الذي تحدث به لأول مرة “المفكرين المتدينين” الذين يؤكدون على المعايير المعنوية والأخلاقية أكثر من الفقه واللاهوت، بإقبال متزايد في المجتمع الشيعي. رغم ذلك، هناك ملايين من الشيعة يقلدون مراجعهم، وسيستمرون في ذلك.
من المتوقع أن تبقى السلطات السياسية أكثر حضورًا وتأثيرًا من المؤسسة الدينية. وسوف يختار المراجع الصمت في كثير من الأحيان. في المستقبل البعيد، في نهايات القرن الحادي والعشرين، من المتوقع أن تتخذ المرجعية الشيعية شكلًا يشبه دور بابا الفاتيكان. سوف تزداد طاعتها للسلطة السياسية، بل قد تأخذ مشروعيتها من السياسيين أنفسهم. إذا ما نظرنا إلى تاريخ حوزة قم في إيران، يجدر الانتباه إلى أنها اعتادت على كثرة المراجع منذ تأسيسها في عام 1922 على يد آية الله حائري يزدي، على النقيض مما هي الحال في حوزة النجف في العراق التي عادة ما تقدم عددًا محدودًا من مراجع التقليد. من المتوقع أن يستمر هذا التعدد والكثرة في السنوات والعقود المقبلة. تتيح العولمة والفضاء الإلكتروني للمرجعية الناشئة في الأوساط الشيعية فرصًا أوسع للانتشار، إذ يتمكن اليوم عدد أكبر من المراجع الجدد من تسويق أنفسهم وجذب المقلدين