مالية السعودية في أحسن حالاتها: أين سيذهب فائض الميزانية؟
سجلت الميزانية السعودية في 2022 فائضاً قدره تسعين مليار ريال. ترى كيف تحقق هذا الفائض؟ وما هي تداعياته المالية؟ وكيف سيتم استخدامه؟
قبل عام 2015 ، كانت ميزانية الدولة تحقق فائضًا، ومنذ ذلك التاريخ ولغاية العام المنصرم 2021، سجلت عجزًا. وفي 2022 قياساً بالعام السابق ارتفعت الإيرادات من 930 مليار ريال إلى 1045 مليار ريال، وانخفضت النفقات من 1015 مليار ريال إلى 955 مليار ريال. أي انتقلت حالة الميزانية من عجز قدره 85 مليار ريال إلى فائض بمبلغ 90 مليار ريال.
ارتفاع الإيرادات النفطية
تحسن الأداء الاقتصادي العالمي بسبب تخفيف القيود الصحية المتعلقة بكورونا. ما أدى إلى ازدياد الطلب النفطي فارتفعت أسعار الخام وبالتالي الإيرادات العامة. لكنّ تقديرات الإيرادات في الميزانية الحالية أخذت بعين الاعتبار حالة عدم التخلص نهائياً من هذا الوباء. كما أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى ارتفاع آخر لأسعار النفط بحوالي عشرة دولارات للبرميل. ولما كانت صادرات السعودية 7.2 مليون ب/ي فإن زيادة الإيرادات النفطية بسبب هذه الحرب فقط تبلغ 8.1 مليار ريال شهرياً (7.2 مليون برميل في اليوم × 10 دولارات للبرميل الواحد × 30 يوماً × 3.75 ريالاً للدولار). علماً بأن تقديرات الإيرادات النفطية للسنة الجارية 2022 لم تأخذ بالحسبان تداعيات هذه الحرب. لأن هذه التقديرات وُضعت في الربع الأخير من عام 2021. في حين بدأت الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022.
وعلى هذا الأساس، ستكون عوائد النفط في العام الحالي أعلى بكثير من التقديرات، وسيكون مبلغ الفائض أعلى من المبلغ المقدر بنحو 90 مليار ريال.
من زاوية أخرى استطاعت أوبك وعلى رأسها السعودية تطبيق سياستها الرامية إلى الدفاع عن مستوى الأسعار، ولم تقرر زيادة الإنتاج البالغة 432 ألف ب/ي إلّا في مايو 2022 بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والضغوط الخارجية خاصة الأمريكية. ولم تتخذ المنظمة هذا الإجراء لتخفيض الأسعار بل للحد من تصاعدها. وبالتالي فإن زيادة الإنتاج على هذا النحو تقابلها زيادة الإيرادات. علماً بأن الأسعار كادت ترتفع بصورة أكبر لولا قرار الولايات المتحدة بالسحب من مخزونها النفطي لمدة ستة أشهر اعتباراً من أبريل 2022.
بتفاعل هذه العوامل ارتفعت الإيرادات النفطية من 116 مليار ريال في الربع الأول من عام 2021 إلى 183 مليار ريال في الربع الأول من عام 2022 أي بزيادة هائلة قدرها 57%.
حصيلة الضرائب
سجلت هبوطاً طفيفاً من 295 مليار ريال في 2021 إلى 283 مليار ريال في 2022. وقد انخفضت حصيلة الضرائب على الدخل والأرباح والمكاسب نتيجة قرار إداري يقضي بإعفاء الأشخاص من الغرامات. كما هبطت إيرادات الزكاة لكنها حافظت على معدلها السنوي وارتفعت الرسوم الجمركية قليلاً بسبب تزايد الواردات.
لكن هذه الضرائب لا تمثل سوى 60 مليار ريال أي 21.2% من الحصيلة الكلية للضرائب، أما النسبة المتبقية فتنصرف إلى الضرائب على السلع والخدمات لا سيما ضريبة القيمة المضافة.
ومن زاوية أخرى إذا قارنا الحصيلة بين الربع الأول من العام الجاري والربع الأول من العام الماضي، فسوف نصل إلى نتيجة مختلفة وهي ارتفاع جميع الضرائب دون استثناء.
وهكذا استطاعت الرياض تحقيق رغبتها في الاعتماد على الإيرادات غير النفطية، فقد انتقلت حصيلة الضرائب من 63.9 مليار ريال في الربع الأول من العام المنصرم، إلى 72.7 مليار ريال في الربع الأول من العام الجاري. وأصبح دور الضرائب بارزاً في تحسين الوضع المالي للدولة بانتقاله من عجز إلى فائض. لكن هذا الدور يكاد يقتصر على ضريبة القيمة المضافة.
ضريبة القيمة المضافة
بسبب تراجع أسعار النفط وبالتالي هبوط إيرادات دول مجلس التعاون الخليجي قرر رؤساء هذه الدول في عام 2015 إنشاء ضريبة على القيمة المضافة، واتفقوا على أمرين: سعرها الموحد والوحيد البالغ 5% ، وسنة التطبيق وهي بداية 2018.
ورغم تحسن أسعار النفط لاحقاً، ونظراً للحرب في اليمن، ظهر عجز في الميزانية، فقررت الرياض تطبيق هذه الضريبة في موعدها المحدد وبالسعر المتفق عليه.
بعدها هبطت أسعار الخام بفعل تداعيات كورونا، مما أدى إلى زيادة سعر هذه الضريبة من 5% إلى 15% اعتباراً من يوليو 2020، وهكذا أصبحت هذه الضريبة من حيث حصيلتها تحتل المرتبة الأولى في النظام الضريبي السعودي. فقد انتقلت حصيلة الضرائب على السلع والخدمات (التي تشمل ضريبة القيمة المضافة والضريبة الانتقائية والمقابل المالي على الوافدين) من 132 مليار ريال في 2019 إلى 223 مليار ريال في 2022، أي بزيادة قدرها 91 مليار ريال. وهذا المبلغ يعادل الفائض المالي المقدر لعام 2022.
لكنّ ثمن هذه الزيادة باهظ. إذ كلما تصاعد سعر الضريبة انخفض مستوى المعيشة بسبب ارتفاع أسعار السلع والخدمات. لذلك صرح المسؤولون بأن زيادة السعر مؤقتة ومرتبطة بأسعار النفط. ووعدوا بالعودة إلى السعر السابق عندما ينتهي السبب الذي أثر على إيرادات النفط وهو وباء كورونا.
في الوقت الحاضر أصبحت أسعار النفط أعلى بكثير حتى من تلك التي كانت سائدة قبل ظهور هذا الوباء. فقد قاد اللقاح ضد كورونا إلى عودة شبه كلية للأنشطة الاقتصادية المختلفة. كما أدى الاحتلال الروسي لأوكرانيا إلى فرض حصار على النفط الروسي من قبل الولايات المتحدة وأوروبا. أضف إلى ذلك سياسة أوبك الخاصة بالدفاع عن الأسعار.
بتفاعل هذه الأسباب بلغ سعر برنت 107 دولاراً في منتصف يوليو 2022. أي ضعف السعر الذي كان سائداً في منتصف يوليو 2019. ومع ذلك لا توجد أية نية لتخفيض سعر الضريبة على القيمة المضافة، ولا توجد إشارة إلى تخفيض أية ضريبة من الضرائب الأخرى المباشرة وغير المباشرة.
وفي الوقت الحاضر تبلغ الحصيلة السنوية للضريبة على القيمة المباشرة حوالي 150 مليار ريال. بمعنى أن العودة إلى سعر 5% ستقود إلى خسارة قدرها 100 مليار ريال، وهذا يعني عودة العجز إلى الميزانية. لذلك سيتعذر الوفاء بتلك الوعود.
ارتفاع النفقات
يتّضح من الأرقام التقديرية للميزانية أن الفائض في عام 2022 نجم عن ارتفاع الإيرادات وهبوط النفقات. فقد انخفضت النفقات التشغيلية من 903 مليار ريال في 2021 إلى 863 مليار ريال في 2022 أي بنسبة 4.4%. كما هبطت المصاريف الاستثمارية. ولم يطرأ تغيير على حجم المرتبات (58% من اعتمادات الميزانية تذهب إلى الرواتب).
في حين تبيّن المقارنة بين الأرقام الفعلية للربع الأول من عام 2021 والأرقام الفعلية للربع الأول من عام 2022 بأن الارتفاع شمل الإيرادات والنفقات، لكن الإيرادات ارتفعت بمبلغ يفوق ارتفاع النفقات.
نلاحظ إذن أن حجم الفائض خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري بلغ 57.4 مليار ريال. وعلى افتراض استمرار النفقات والإيرادات على هذا النحو فأن حجم الفائض السنوي للعام الحالي سيصل إلى 229.6 مليار ريال أي أكثر من ضعف الفائض السنوي المقدر في الميزانية.
للفائض تداعيات مالية
يؤثر الفائض تأثيراً مباشراً على الاستثمارات الحكومية والديون العامة وبرامج الخصخصة.
صندوق الاستثمارات العامة
تبلغ أصول هذا الصندوق السيادي 620 مليار دولار. وبذلك يحتل المرتبة العربية الثالثة والعالمية السادسة. ولما كانت الرياض تعتمد على أرباحه في تمويل النفقات فسوف تسعى إلى زيادة أصوله عن طريق الفائض المالي. عندئذ ترتفع استثماراته وتتحسن أرباحه.
لكن زيادة أصول الصندوق إلى سبعة ترليونات ريال (أي 1866 مليار دولار) حسب الرؤية السعودية 2030 لا تزال بعيدة المنال.
الديون العامة
تتجه نحو الارتفاع المستمر بفعل العجز المالي المزمن. فقد انتقل حجمها من 135 مليار ريال في 2012 إلى 938 مليار ريال في 2021 أي بزيادة سنوية معدلها 66%. لاشك أن هذه الديون لا تشكل خطراً على الاقتصاد بخلاف الحال في البحرين وعُمان. فهي لا تمثل سوى 29.2% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن خطورتها تكمن في سرعة تزايدها.
قررت الحكومة تخصيص جزء من الفائض لسداد الديون. ولكن حسب التقديرات الأولية للميزانية الحالية لن يقود هذا الإجراء إلى تراجع حجم الديون بل إلى الحفاظ على حجمها البالغ 938 مليار ريال. كما تشير التوقعات الحكومية إلى أن عام 2023 سيسجل فائضاً مالياً قدره 27 مليار ريال، لكن حجم الديون سيبقى على ما هو عليه.
يبدو أن هذه التوقعات غير دقيقة. سوف تنخفض الديون اعتباراً من العام الجاري لأن الفوائض المالية التي ستتحقق فعلاً أعلى من تلك التي تم تقديرها في الميزانية السنوية كما ذكرنا. علماً بأن السياسة الاقتصادية للبلد تفضل دعم الصندوق السيادي بدلاً من تقليص الديون.
الخصخصة
تسعى إلى هدف أساسي وهو توفير الأموال لسد العجز المالي. خصخصة نسبة من شركة آرامكو استندت إلى هذا الهدف. لذلك سيقود الفائض إلى إلغاء الحاجة للخصخصة، لكن هذا الوضع يعتمد على استمرار الفائض وعلى حجمه.
استخدامات الفائض
قبل عشر سنوات كانت الفوائض المالية موجهة لتحسين الحالة الاقتصادية للمواطنين بصورة مباشرة. في حين تستخدم الفوائض حالياً لتقوية الوضع المالي للدولة. ففي عام 2012 وبموجب أوامر ملكية خُصص الفائض (306 مليار ريال) لتمويل ما يلي:
- بناء 500 ألف وحدة سكنية. القسط الأكبر من الفائض صرف لتمويل هذا المشروع.
- صرف راتب شهرين للموظفين العاملين والمتقاعدين المدنيين والعسكريين.
- رفع الحد الأدنى للرواتب.
- صرف منحة شهرين لطلبة التعليم العالي.
- تعويض صندوق الاستثمارات العامة عن المبالغ التي دفعها لتنفيذ مشروع قطار الحرمين السريع الذي يربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ولهذا النمط من التمويل تأييد شعبي لأنه يسعى إلى تحسين الوضع المالي للمواطنين. علماً بأن هذا الوضع كان جيداً أساسا.
أما في السنة الجارية 2022 فقد تقرر رصد الفائض لثلاثة أبواب:
- سداد قسط من الدين العام.
- تنفيذ بعض المشاريع الاستراتيجية.
- دعم صندوق الاستثمارات العامة.
مقارنة بالوضع السابق لم يعد استخدام الفائض يهتم بالحالة اليومية للمواطنين التي شهدت تراجعاً في السنوات الأخيرة لعدة أسباب منها:
السبب الأول: الحرب في اليمن منذ 2015 التي تمتص قسطاً كبيراً من الأموال العامة.
السبب الثاني: ارتفاع الضغط الضريبي بسبب ضريبة القيمة المضافة خاصة بعد تعديل سعرها.
السبب الثالث: تصاعد الديون العامة. حيث أصبحت الدولة تدفع الفوائد للدائنين بدلاً من أن يستفيد المواطنون من هذه الأموال.
السبب الرابع: تزايد عدد العاطلين عن العمل وتقليص مخصصات الدعم الموجهة للسلع والخدمات.
تستوجب إذن السياسة الرشيدة رصد الفائض الحالي لتحسين الحالة الاقتصادية للمواطنين. ينبغي حالياً تطبيق السياسة الانفاقية لعام 2012 بدلاً من السياسة المعتمدة، بل كان من اللازم على الأقل تنفيذ الوعود المتعلقة بتخفيض سعر الضريبة على القيمة المضافة.
وفق رؤية السعودية 2030 سيتحقق التوازن المالي بحلول عام 2023، في حين سجلت ميزانية 2022 فائضاً مهما. لا شك أن برنامج التوازن المالي الذي تعتمد عليه هذه الرؤية لعب دوراً في الانتقال من العجز إلى الفائض. فقد تصاعدت حصيلة الضرائب غير المباشرة. لكن الدور الأبرز يعود إلى عوامل لا تمت للرؤية بأية صلة وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية التي أسهمت بقوة في ارتفاع أسعار النفط وبالتالي في تزايد الإيرادات.