ما بعد انتخابات لبنان كما كان قبلها: الحلول الكبرى مستحيلة

لم تأتِ نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان يوم 15 مايو/ أيار على قدر آمال اللبنانيين في التغيير. الانتخابات لم تنجح في أن تقود تحولاً في موازين القوى في البرلمان الجديد، إذ لم يحصل أي طرف، سواء ما كان يعرف بتحالف 14 آذار أو 8 آذار، على أكثرية مطلقة تؤهل أياً منهما ليكون قادراً على قيادة البلاد وحسم الملفات الكبرى، ومهما كانت النتائج الَّتي حققتها الأطراف السياسية أو كانت ستحققها، فإنها لن تؤمن لأي طرف القدرة على التفرد في اتخاذ القرار، إذ يبقى الحل خارجياً بالضرورة، ويستوجب توافقاً أميركياً فرنسياً سعودياً إيرانياً يحسم تشكيل الحكومة والتوافق على رئيس جديد بعد انتهاء عهد ميشال عون في تشرين الأول/أكتوبر المقبل.

يعيد الاستحقاق الانتخابي في أي بلد ديمقراطي إنتاج السلطة، من خلال تحديد شكل الحكم وحلّ القضايا الخلافية بتفعيل عمل المؤسسات الدستورية التي تحدد مصير البلاد، لكنَّ الأمر في لبنان مختلف، بسبب التركيبة الطائفية وموازين القوى وارتباطاتها الخارجية. لذا، إنّ المهمات الكبرى مستحيلة في لبنان، ولن يستطيع أحد الأطراف القضاء على الآخر أو إقصاءه أو فرض رؤيته عليه.

ولعل أبرز ما حققته نتائج هذه الانتخابات هو حصول القوى التغييرية التي تشكلت من مجموعات المجتمع المدني بعد ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول على كتلة وازنة قد يكون لها دور فاعل، ولو نسبياً، في تحديد خيارات المجلس الجديد. ومن الممكن أن تتوافق الأطراف المكونة للبرلمان على المشاكل البسيطة، وهذا هو دور التوافقات في المجلس في حل القضايا الحياتية والبحث في تأمين الكهرباء والغذاء والدواء وغيرها. أما القضايا الكبرى، مثل انتخاب رئيس الجمهورية أو سلاح حزب الله، فهي قضايا تخصّ عواصم القرار الدولية الأربع؛ واشنطن والرياض وباريس وطهران.

من المرجح أن يحسم ملفّ الرئاسة ليؤول إلى رئيس ليس لديه أيّ ميل سياسي، وبالخصوص قائد الجيش، كما حصل مع الرئيسين ميشال سليمان وإميل لحود، في ظل تمترس القوى وراء مرشحيها، وإن كانت أي من الكتل لم تعلن مرشحها للرئاسة حتى الآن رسمياً.

ومهما علت نبرة الخطاب في تصريحات زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع لنزع سلاح حزب الله أو فك أسر الدولة من الدويلة، تبقى هذه التصريحات دون أرضية أو حامل حقيقي على الأرض. يلعب سير مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا، ونتائج المحادثات الدورية بين الرياض وطهران دوراً حاسماً أكثر مما هو الحال في داخل لبنان وتتبع يوميات زعماء الطوائف والأحزاب السياسية. في هذا الصدد، يجدر الالتفات إلى تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود التي أكد فيها إحراز بعض التقدم في المحادثات مع إيران، لكنه تقدم ليس كافياً، مضيفاً أن المملكة لا تزال تمدّ يدها لطهران. قبالة ذلك، يمكن رصد عشرات التصريحات السلبية من جانب السفير السعودي في بيروت.

المواقف السعودية المتضاربة تأتي في سياق رهانين؛ يرتبط الأول بمحاولة تعزيز الحضور السعودي في لبنان بالتوازي مع انعقاد جولات الحوار السعودي – الإيراني في العراق، والثاني في ضمان العودة إلى مسار الاشتباك الإقليمي مجدداً. وهو مسار بات محكوماً بمسار دولي أكبر منه.

قوى 8 آذار، ورغم وجود كتل غير متجانسة، استطاعت تمرير انتخاب نبيه بري رئيساً لمجلس النواب للمرة السابعة على التوالي، في أول جلسة عقدها في مقر البرلمان في ساحة النجمة. وكان لافتاً خلال عملية فرز الأصوات عدد الأوراق الملغاة التي حملت تعابير تؤشر إلى اعتراضات واضحة على انتخاب بري؛ حليف حزب الله الثابت. فاز برّي بأصوات 65 نائباً من إجمالي 128 يشكّلون أعضاء البرلمان، في مقابل 23 ورقة بيضاء و40 ورقة ملغاة، فيما حصد 98 صوتاً في العام 2018. ومنذ بداية عمله السياسي، يعتبر هذا الرقم أدنى رقم يحصل عليه. وكان بري هو المرشح الوحيد لرئاسة البرلمان التي تعود في لبنان إلى الطائفة الشيعية، نظراً إلى أن حزب الله وحركة أمل التي يترأسها بري حصدا مجمل المقاعد النيابية الشيعية في المجلس البالغ عددها 27.

اليوم، تتجه الأنظار إلى تشكيل الحكومة الجديدة والاستحقاق الرئاسي المقبل بعد مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا في تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ولكن أياً من هذه الاستحقاقات لن تتم إلا بتوافق بين العواصم المعنية بالملف اللبناني. وفي هذا المجلس المنقسم كما يصفه الدبلوماسي الأميركي الخبير في الشؤون اللبنانية (عمل سفيراً لبلاده في لبنان)، ديفيد هيل، يتجه لبنان إلى شلل تام خاصة أن الأزمة الحكومية ستطول لأشهر. من جانبه، دعا مجلس الأمن الدولي إلى الإسراع في تشكيل حكومة جديدة والبدء بتنفيذ الإصلاحات التي طلبها البنك الدولي، كشرط لتوقيع اتفاق مع لبنان يقضي بتقديم قروض تقدر بـ3 مليارات دولار.

إذا كان استقرار الأوضاع الداخلية في لبنان وإبعاده عن تفاعلات المحاور الإقليمية المتعارضة ضمن اهتمامات كل من الولايات المتحدة وفرنسا، فثمة من يرى أنَّ التأثير الأميركي في الداخل اللبناني بات يتجاوز أوراق اللعبة السياسية إلى أخرى تتمثل بأوراق التأثير ذات الأبعاد الاقتصادية، كالمساعدات المالية، وترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلي، بخلاف حالة التعاون العسكري والأمني، التي يأتي في مقدمتها دعم المؤسسة العسكرية اللبنانية، لكنّ الولايات المتحدة، على أرض الواقع، لا تمتلك رؤية استراتيجية شاملة تجاه الوضع الداخلي في لبنان، وهي في ذلك ليست أفضل حالاً من الرياض وطهران.

أما فرنسا، فهي مهتمة أيضاً باستقرار الأوضاع اللبنانية الداخلية، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات البرلمانية، وإن كانت تظهر اهتماماً ملموساً بإعادة الزخم إلى الدور السياسي للقوى المسيحية. وكانت باريس أنشأت مع السعودية صندوقاً لمساعدة لبنان، وهي تعمل على مؤتمر دولي لتقديم الدعم للحكومة الجديدة إذا ما شكلت بسرعة. لكن تمرير الاستحقاقات بسرعة دونه عقبة التوافق بين عواصم القرار، ولا سيما أن الأنباء الواردة من فيينا لا توحي بإمكانية التوصل إلى اتفاق نووي بين طهران وواشنطن. هذا الأمر سينعكس سلباً على لبنان الواقع على خط الصدع بين مصالح الدول المتصارعة داخل الإقليم وخارجه.

منشورات أخرى للكاتب