مقتدى الصدر وإيران: حليفٌ متمرّد
أدت نتائج الانتخابات البرلمانية الخامسة (أكتوبر 2021) في العراق إلى تغيير دراماتيكي في الخارطة السياسية داخل البلاد، ورغم أن فوز التيار الصدري كان متوقعًا إلا أن تبعات انتصار رجل الدين الشيعي والسياسي المثير للجدل، مقتدى الصدر، شكلت مفاجئة بالنسبة لموازين القوى وهيمنة مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية داخل البلاد.
مهّد انتصار الكتلة الصدرية (تحالف سائرون)، بـ73 مقعدًا في البرلمان المكون من 329 مقعداً، الطريق أمام التيار لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر وتسمية رئيس الوزراء القادم والحكومة، كما أثار ردود فعل متباينة داخل الجمهورية الإسلامية في إيران، بين من يرى هذا الانتصار بداية لنهاية نفوذ طهران الواسع في العراق، وبين من يرى أن مقتدى الصدر، رغم علاقته المتقلبة مع طهران، هو حليف قديم يمكن الثقة به. بالنسبة لهؤلاء؛ كل ما تحتاجه طهران هو أن تتعوّد على القبول والتعايش مع خطابات مقتدى الصدر المتفلتة والتي لن تمثل على الأرض أيّ تهديد حقيقي لها.
مخاوف طهران من انتصار الصدر
بالعودة إلى الانتخابات البرلمانية العراقية في مايو 2018، وبعد صعود الصدر في الانتخابات وحصول تحالفه على نحو 54 مقعدًا في طليعة نتائج استطلاعات الرأي، عبّرت مختلف الأطياف السياسية في طهران عن مخاوفها من أنّ الصدر سيسعى لتقويض نفوذ الجمهورية الإسلامية في العراق وإقامة علاقات أعمق مع المحيط العربي السني للعراق.
وقتئذٍ، خاض التيار الصدري الانتخابات البرلمانية على أساس أجندة قومية داعية إلى فك الارتباط الوثيق بين إيران والعراق، وقد عبر المرشحون الصدريون في حملاتهم الانتخابية عن رفضهم للنفوذ الايراني في العراق. بعد إعلان النتائج الانتخابية، سافر الجنرال، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إلى العراق في محاولة للسيطرة على طموحات مقتدى الصدر، والتأكد من دخوله في تحالف أكبر مع القوى الشيعية الأخرى المقربة من إيران.
النبرة القومية التي تبناها الصدر حينها، عززتها زيارته إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو ما أثار شكوك طهران بأن الصدر يسعى إلى تقارب العراق مع دول الخليج على حساب مصالح طهران.
ما حدث في نهاية المطاف، جاء عكس كل هذه المخاوف والتوقعات، حيث استطاع قاسم سليماني حينها، أن يقرب بين الصدر وخصومه من الأحزاب الشيعية الأخرى، بالتحديد تحالف فتح بقيادة هادي العامري، وهو تحالف يضم كافة الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة الشيعية المدعومة من إيران، والتى لا تتمتع بعلاقات جيدة مع مقتدى الصدر.
نجح سليماني فى مهمته، وتحالف الصدر مع هادي العامري، واستطاع الحزبان (التيار الصدري وفتح) تكوين الكتلة البرلمانية الأكبر، في برلمان 2018، وتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة.
ما بعد سليماني، الصدر يحاول من جديد
تحالف مقتدى الصدر مع تحالف فتح في عام 2018 نتج عنه حكومة عادل عبدالمهدي، رئيس الوزراء السابق الذي جاء بمباركة إيرانية وموافقة جميع الأحزاب الشيعية المقربة من طهران. بعد أن أكمل عبدالمهدي عامه الأول في المنصب، خرج مئات الآلاف من المحتجين العراقيين الساخطين على الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة بأكلمها. حينها، استغل مقتدى الصدر الموقف لصالحه، دعم الاحتجاجات ودعا أنصاره إلى النزول إلى الشوارع للمشاركة في المظاهرات، كما طالب باسقاط حكومة عادل عبدالمهدي.
نجح الصدر في مساعيه وتمت الإطاحة بحكومة عادل عبد المهدي الذي استقال في نوفمبر 2019. وفي يناير 2020، اغتالت الولايات المتحدة بطائرة بدون طيار، الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ورفيقه نائب رئيس وحدات الحشد العراقي، أبو مهدي المهندس. حينها، كان الصدر من أوائل الحاضرين لتقديم العزاء في القائد العسكري الإيراني في طهران، وكان من أوائل الداعمين لمطلب المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، بإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق، وفور عودته إلى بغداد، إنقلب على الاحتجاجات الشعبية ودعا أنصاره إلى الإنسحاب بل واشتبك أنصاره في بعض الأحيان مع المتظاهرين المعتصمين في الميادين والشوارع العراقية.
من الممكن القول أن موت سليماني، والمطالبة الإيرانية بطرد القوات الأمريكية من العراق، كانا بمثابة بداية لتوسيع نفوذ الصدر في الحياة السياسية العراقية. كان الصدر يتوقع أن يحلّ مكان سليماني في العراق بدعم طهران. فعلى طول تاريخ الصدر مع الجمهورية الإسلامية كانت العلاقة بينهما متوترة ومعقدة بسبب عدم ثقة طهران في مزاج الصدر المتغير من جهة، ومن جهة اخرى، شعور مقتدى الصدر بأن القادة الإيرانيين لا يضعونه في حجمه السياسي الذي يستحقه.
وبحسب أحد المقربين من مقتدى الصدر، فإن في السنوات التي اعتزل فيها الصدر الحياة السياسية وسافر إلى إيران، حيث مكث لسنوات في عزلة، كان يشعر بالغضب الشديد من القادة الإيرانيين لعدم إعطائه حقه والتعامل معه بصفته قائد سياسي وعسكري هام حارب الولايات المتحدة في العراق لسنوات.
بعد حرب العراق في عام 2003، أسس مقتدى الصدر فصيله المسلح “جيش المهدي” بدعم مادي ومعنوي إيراني، وحارب القوات الأمريكية بشكل مكثف، وفي الأعوام ما بين 2006 الى 2008 تورّط جيش المهدي في الحرب الطائفية التي شهدها العراق حينها، ومن بعدها قرّر الصدر اعتزال العمل السياسي والعسكري والذهاب في رحلة انعزالية إلى إيران، بالتحديد في مدينة قم لمواصلة دراسته الدينية التي عاد منها في عام 2014.
بالعودة إلى اغتيال قاسم سليماني، وعلى الرغم من أن الجمهورية الاسلامية حتى بعد اغتيال قائدها الأبرز في العراق، لم ترغب في منح الثقة لمقتدى الصدر، إلا أن الأخير استغلّ موت سليماني بشكل جيد. حينها كانت الأحزاب الشيعية العراقية المدعومة من إيران مشغولة بمسألة الثأر لمقتل سليماني والمهندس، بالتزامن مع إرباك الاحتجاجات الشعبية واستقالة رئيس الوزراء وتشتتها في اختيار خليفة له. استغل مقتدى الصدر هذا الزحام، لتوطيد مكانه في السلطة وتثبيت أقدامه كلاعب سياسي بارز يمكنه مواجهة نفوذ طهران في العراق. وطرح نفسه كرجل الإصلاح الأوحد في البلاد.
نجح الصدر في الإتيان برئيس وزراء (مصطفى الكاظمي) يشاركه بعض التوجهات، بالإضافة إلى نجاح تياره الصدري في السيطرة على أهم المناصب في الدولة العراقية، انعكس كل هذا على تواجده القوي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بفوزه الساحق على باقي منافسيه الذين كانوا يعانون من انهيار شعبيتهم الجماهيرية والتشتت والخلافات الداخلية.
الموقف الايراني الحالي من فوز الصدر
للصدر علاقة طويلة ومعقدة مع إيران، في كثير من الأحيان يصعب فهمها. كلما يشعر مقتدى الصدر بالتهديد في العراق، يسافر ليحتمي في إيران. قبالة ذلك، وفي أوقات كثيرة، يناهض الصدر التواجد الإيراني في العراق ويعلن رفضه للسيطرة الإيرانية على بلاده، وتجلى ذلك في موقفه الصارم الأخير من تشكيل حكومة أغلبية من حزبه فقط، في محاولة لإقصاء الأحزاب الاخرى المدعومة من إيران.
يرفض الصدر انضمام العراق إلى محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، ومنع فصيله المسلح “سرايا السلام” من محاربة تنظيم الدولة الإسلامية خارج الحدود العراقية، كما ويؤكد على ضرورة عودة العراق إلى محيطه العربي وتحسين علاقته بدول الخليج السنية، لكنه في نفس الوقت يشترك مع طهران في رفض التواجد الأمريكي في العراق، وهذا ما يطمئن طهران إلى حد كبير.
دعوات الصدر (اليوم) لتحسين علاقات العراق مع السعودية لا تزعج طهران كما حدث في عام 2018، خاصة وأن إيران تخوض محادثات مع السعودية، بدعم رئيس الوزراء العراقي الحالي، مصطفى الكاظمي، كما أنّ إدارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي تبدو حريصة على تحسين علاقات طهران بدول الخليج وبالأخص السعودية والإمارات.
ورغم أن رحيل قاسم سليماني، الذي كان قادرًا على احكام سيطرة طهران على بغداد سيكون سبباً من ضمن الأسباب التي تدفع بالصدر إلى زيادة مناهضة الدور الإيراني في العراق، لكن إيران تمتلك بعض الأوراق الإضافية التي تستطيع من خلالها السيطرة على الصدر.
تمتلك إيران علاقة استراتيجية مع أكرم الكعبي، قائد حركة النجباء، إحدى الفصائل المسلحة التي تعمل تحت لواء الحشد الشعبي العراقي. الكعبي هو جزء من أنصار التيار الصدري، لكن في نفس الوقت مقرب من طهران بشكل عام، ومن آية الله علي خامنئي، بشكل خاص. لا يشترك الكعبي مع الصدر في تأييد رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، بالإضافة إلى معارضته لحديث الصدر عن سحب سلاح بعض الفصائل المسلحة العراقية، كما يؤمن الكعبي بضرورة محاربة القوات الأمريكية المتبقية في العراق. هذه المسائل الاستراتيجية التي يشترك ويختلف فيها الكعبي والصدر، مهمة لطهران، للمحافظة على التوازن الإيراني في العراق في ظل صعود مقتدى الصدر.
هناك بطاقة أخرى تمتلكها طهران لكبح جماح الصدر، وهو الارتباط الوثيق بين مقتدى الصدر والأمين العام لحزب الله اللبناني، السيد حسن نصر الله، فالرجلان يتمتعان بعلاقة طيبة وقوية، ويرى الصدر أنه يمكنه تكرار تجربة حزب الله في العراق، وتعتمد طهران على نصرالله في السيطرة على مقتدى الصدر في كثير من المواقف.
في النهاية، يعلم مقتدى الصدر جيدًا، أنه ليس من السهل كسر الترابط الوثيق بين إيران والمكون الشيعي في العراق، فهو بشكل شخصي، كلما شعر بالخطر أو التهديد داخل العراق، غادر إلى إيران. لكن هذا لن يمنعه من معارضة النفوذ الإيراني في العراق، لكن في نفس الوقت، ستبقى هذه المعارضة أداة شعبوية لدعم جماهيريته ولن تتخطى خطوط طهران الحمراء التي يعرفها مقتدى الصدر جيداً.