الرعاية الصحية في دول الخليج: معادلة الإنفاق والمردود

منذ بداية تمتعها بالثروة النفطية، أولت دول الخليج العربية الرعاية الصحية إهتماماً ملحوظًا بعد أن كانت بلدانًا محدودة السكان تعاني من أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة ومنهكة. ومع بدء تدفق مداخيل النفط، عملت السلطات على توفير الرعاية الصحية للمواطنين والمقيمين وتخصيص الأموال لبناء المستشفيات وتوفير كوادر طبية وتمريضية غالبًا ما يتم جلبها من الخارج.  

أدت هذه التحولات التي بدأت في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين إلى السيطرة على أوبئة متنوعة. كما واستفادت دول، مثل الكويت والبحرين، من تواجد عيادات طبية أمريكية أو بريطانية ذات صلة بالجهات التبشيرية والتي ساهمت في توفير اللقاحات أوعملت على استيرادها من دول قريبة.

التقدم أو التطور في الرعاية الصحية كان ضرورياً لتأكيد التنمية في بلدان المنطقة والاستفادة من دخل النفط لتحسين الأوضاع الحياتية والارتقاء بها. لاشك أن أموراً عديدة قد جرت خلال السنوات السبعين الماضية مذ تكرس دور النفط وإيراداته في مسيرة الحياة الاقتصادية في هذه الدول. 

بطبيعة الحال، ليس هناك ارتياح كامل من مستوى الخدمات الصحية أو نوعيتها أو فعاليتها، ولا تزال دول الخليج تُرسل عددًا من مواطنيها إلى بريطانيا والمانيا وفرنسا والولايات المتحدة لتلقي العلاج من أمراض مزمنة مثل القلب أو السرطان أو أمراض أخرى. رغم ذلك، يبدو حجم الإنفاق على بناء المستشفيات والمراكز الطبية وكذلك على الكوادر الطبية والتمريضية والأدوية واللقاحات وإرسال المرضى لتلقي العلاج في الخارج، قياسياً وربما تتجاوز نسبته العشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المتعارف عليه في البلدان المتقدمة. 

ورغم ما تنفقه دول الخليج إلا أن النجاحات لا تقاس بمستوى الإنفاق أو حجمه فقط، بل تقاس بالنتائج المباشرة على حياة الناس في هذه الدول، ومنها متوسط الأعمار وتدني الوفيات بين الأطفال وتفادي أمراض العصر المزمنة والأمراض المستعصية الأخرى والوقاية من السمنة أو غيرها من الأمراض الناتجة عن مظاهر الترف المؤذي بفعل إرتفاع مستويات المعيشة والرخاء. وعليه، لابد أن تأخذ السلطات الصحية الملاحظات المجتمعية بعين الإعتبار عند قياس الأداء ومدى تحسن صحة المواطنين والمقيمين في هذه البلدان.

قُدرت نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية في دول مجلس التعاون الخليجية بنحو 12 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي  لهذه الدول في عام 2020. وبعد أن كانت الرعاية الصحية  من مسؤوليات الحكومات، أصبح هناك دور هام للقطاع الخاص بعد أن انتشرت المستشفيات والعيادات الخاصة. لذلك فقد توسع الإنفاق الخاص على التأمين الصحي، كما أن بلدان المنطقة فرضت  إلزامية تأمين الوافدين العاملين في شركات ومؤسسات القطاع الخاص قبل الحصول على الإقامة وتجديدها. أيضًا، يقوم العديد من المواطنين والوافدين الذين ينتمون لشريحة الطبقة الوسطى العليا بالتأمين على الحياة والتأمين الصحي من أجل الحصول على رعاية صحية في المستشفيات الخاصة وتفادي الانتظار في المستشفيات الحكومية. وبالرغم من هذا الإنفاق الكبيرعلى التأمين والعلاج في المراكز الطبية الخاصة، إلا أن المستشفيات الحكومية ما زالت توفر علاجات هامة لا يمكن للمستشفيات الخاصة في عديد من دول الخليج القيام بها مثل علاجات أمراض القلب أو السرطان وغيرها. كما أقدمت بنوك وشركات بموجب إلتزامات المسؤولية المجتمعية على بناء أو تمويل مراكز علاج متخصصة مثل علاج أمراض السكر أو القلب أو العيون أو أمراض الحساسية وغيرها. لابد أن تحسب الأموال التي تصرف من شركات القطاع الخاص لتوفير الرعاية الصحية لسكان بلدان الخليج ضمن التكاليف الإجمالية للقطاع الصحي.

قام مجلس الأمة الكويتي في عام 2014 بإصدار قانون ينظم التأمين الصحي للمتقاعدين المسجلين في أنظمة المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية. قدر المسؤولون أن ما يقارب 10 في المئة من المواطنين في الكويت يحظون برعاية  نظام تأمين المتقاعدين ” عافية “. تقوم الدولة بتأدية أقساط التأمين الخاصة بهذا النظام والتي تتجاوز 153 مليون دينار، أو أكثر من 500 مليون دولار، سنوياً،  تشمل ما يزيد عن 135 ألف متقاعد. ويرى إقتصاديون أن هذا النظام مكلف وليس هناك مبررات له في الوقت الذي توفر الدولة الرعاية الصحية مجاناً ” Universal Coverage  ” وهي أفضل مما تقدمه المستشفيات والمراكز الخاصة. قد يكون هذا القانون من القوانين الشعبوية التي أراد أعضاء مجلس الأمة من خلالها كسب  شريحة كبيرة من الناخبين، وربما كان من الأجدى تطوير المستشفيات الحكومية وتعزيز قدراتها بالكوادر الطبية المتميزة ودعم التعليم في كليات الطب من أجل  زيادة أعضاء الهيئات الطبية من المواطنين في مختلف التخصصات. كذلك هناك أهمية لدعم معاهد التمريض في بلدان المنطقة وتحفيز المواطنين للإنخراط  بها حيث أن الغالبية العظمى من الممرضين والممرضات ينتمون للجنسيات العربية أو الهندية والفلبينية أو السيرالانكية. ثمة تحد للأنظمة الصحية لتطوير قدراتها ودعم مساهمة المواطنين في أعمال التمريض أو في أعمال المختبرات الصحية وتجاوز المعطلات الإجتماعية والقيمية.

وبالعودة إلى الحديث عن إرسال الدول الخليجية عددًا من مواطنيها المرضى لتلقي العلاج في المستشفيات والمراكز الطبية المرموقة في البلدان المتقدمة، فلا شك أنها حاجة ضرورية يستحقها المرضى لتعذر توفر العلاجات المناسبة في بلادهم، لكن هناك من يستغل هذا الجانب من النظام بشكل غير مناسب بما بات يشكل زيادة في التكاليف على الخزينة العامة. 

قُدرت تكاليف العلاج في الخارج بما يزيد عن 5.5 مليار دولار أمريكي في عام 2018، ما يفتح الباب على سؤال مهم، ألم يكن من الأجدى توظيف هذه الأموال في دول الخليج في مجال الرعاية الصحية وفي تعزيز قدرات القطاع الصحي ودعمه بالكوادر والأجهزة اللازمة؟ 

في الكويت مثلًا، أصبح موضوع العلاج في الخارج من المسائل المثيرة للقلق وثمة إدعاءات بإرتباط هذه الظاهرة بالفساد السياسي والإداري، كما تسبب هذا الملف في مشكلات خارجية مع عدد من الدول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا بعد أن شكت المستشفيات من عدم استلامها لمستحقاتها نظير علاج المرضى من الكويتيين. يشير تقرير لديوان المحاسبة أن الكويت أنفقت مبلغاً قدره 1.37 مليار دينار أو 4.5 مليار دولار  بين 2013 و 2017 متجاوزة ما حدد في الميزانيات السنوية لثلاث سنوات. وثمة اتهامات لعدد من أعضاء مجلس الأمة بأنهم يساهمون في زيادة  تكاليف العلاج في الخارج من خلال التوسط وإرسال المرضى والمرافقين لهم والإقامة في الخارج لمدة طويلة  ومتجددة.

زادت جائحة كورونا من تكاليف الرعاية الصحية  في مختلف دول المنطقة بعد إرتفاع أعداد المصابين وقيام المصحات بتوفير الرعاية بالإضافة إلى مهمة توفير اللقاحات للمواطنين والوافدين، وفرضت تخصيص ما يقارب ال 7.5 مليار دولار للإنفاق على الرعاية الصحية، وفتحت الأعين على مدى جهوزية السلطات في هذه الدول لمكافحة الأوبئة والتصدي لها مبكرًا، وقدرتها على نشر الوعي حول أهمية الوقاية، وتوفير بنية صحية تحتية تمكنها من استقراء الأوضاع الصحية بشكل صحيح.

ينتظر دول الخليج شوطٌ طويل لتحسين أنظمة الرعاية الصحية لديها والتأكد من قدرتها على مواجهة المتطلبات المتسارعة لشعوب المنطقة عبر تخصيص موارد مالية أكبر للقطاع الصحي، حتى في ظل الأوضاع الإقتصادية الصعبة وتدني المداخيل السيادية، فتحسين نوعية الحياة بالإعتماد على رعاية صحية متميزة ونظام تعليم نوعي أمر مهم للغاية لا يمكن التهاون به.

منشورات أخرى للكاتب