مكافحة الفساد: موضوع الكويت الكبير

مرت على الكويت العديد من أزمات الفساد منذ بداية عصر النفط أواخر أربعينات القرن الآفل. قد لا تكون تلك الفضائح أو قضايا الفساد المالي والإداري ذات أهمية بمقاييس الوقت الراهن، ومنها ما يتعلق بتخصص الأراضي أو تقييم العقارات إبان عمليات التثمين، وهي قضايا تفاعل معها المجتمع الكويتي وأدين أفراد في عدد من القضايا ذات الصلة، لكن ما جرى منذ الاحتلال العراقي للكويت في أغسطس/آب 1990 وبعد تحرير البلاد هي أمور لا يمكن قبولها أو التستر عليها إذ تمثل نهباً للأموال العامة وتعدياً على حقوق المواطنين وأموالهم الخاصة.

شملت أعمال الفساد التجاوزات والتلاعب بأموال الصندوق السيادي الإستثمار في مشاريع مشبوهة تهدف لإنتفاع القائمين على إدارتها، من أهم تلك القضايا استثمار مكتب الإستثمار الكويتي KIO (لندن) في أصول ومساهمات في إسبانيا وعمليات مشبوهة لشركة ناقلات النفط خلال الفترة ذاتها. تم حينها تشكيل لجان تحقيق (فنية وقضائية) بحثت في تلك الأمور ورفعت تقارير عرضت على المحاكم في الكويت وخارجها وصدرت أحكام إدانة لعدد من المواطنين المسؤولين عن إدارة تلك الإستثمارات، غير أن الأحكام لم تطبق ولم يتم ضبط المدانين أو تنفيذ الأحكام بحقهم في الكويت أو خارجها. ظلت تلك القضايا مثار اهتمام المجتمع السياسي في البلاد دون أن تنجز العدالة أو أن تعاد للخزينة العامة حقوقها.

الفساد المستشري في الدولة

برزت خلال السنوات الأخيرة قضايا تتعلق بعمليات النصب العقاري على المواطنين حيث يتم عرض عقارات، أراض وشقق وبيوت، خارج الكويت من خلال معارض أو بالطرق المباشرة على مواطنين تم دفعهم لدفع مبالغ  مقابل ما يفترض أنه اقتناء لأصول عقارية، تبين فيما بعد أن ما حدث لا يزيد عن عمليات اختلاس وتدليس، رفعت قضايا وصدرت مؤخراً أحكام قضائية بإدانة المختلسين من مواطنين ووافدين.

أهم القضايا التي برزت خلال العقد المنصرم ما يتعلق بإستثمار أموال المؤسسة العامة للتأمينات الإجتماعية (أموال التقاعد) التي إتهم بها المدير العام الأسبق للمؤسسة حيث تبين أن إستثمارات مهمة للمؤسسة قد تمت في مشاريع مشبوهة أو أصول غير مجدية مقابل عمولات مكنت المدير العام الأسبق من جني ثروة طائلة في حين عانت المؤسسة من خسائر كبيرة، صدرت أحكام بالإدانة لكن لم تتمكن الكويت من إعادة المدير العام الأسبق لمواجهة القضاء وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقه.

لا شك أن ثمة خللاً في المنظومة القضائية والترتيبات القانونية مع بلدان عديدة مثل بريطانيا وعدد من دول أمريكا اللاتينية حالت دون رد الحقوق القانونية للبلاد وتنفيذ مقتضيات العدالة بحق من صدرت بحقهم الأحكام. كما يمكن الزعم بأن الأوضاع الإدارية في العديد من المؤسسات ربما سمحت للقائمين عليها بالتربح وجني الثروات دون مواجهة أنظمة رقابية ومحاسبية صارمة تحول دون التجاوز على الأموال التي تدار من قبلهم.

تكشفت أمور مقلقة خلال السنوات الماضية تتعلق بالفساد الإداري والمالي شملت وزارات ومؤسسات حكومية عديدة منها وزارة الدفاع ووزارة الداخلية مثل صندوق الجيش وعمليات الإستضافة في وزارة الداخلية. عدد من القضايا تم تحويلها إلى النيابة العامة وهي مازالت قيد التحقيق والتداول في القضاء. يضاف إلى ذلك ما برز خلال أزمة وباء كورونا المستجد من قضايا تمثلت في التجارة بالبشر واتهام قياديين في وزارة الداخلية وهيئة القوى العاملة بالتورط مع المتاجرين بالبشر وتقاضى أتاوات من العمالة الوافدة الفقيرة وتجاوز قانون الإقامة. برزت أيضًا قضايا تبييض الأموال وأهمها قضية الصندوق السيادي الماليزي والذي يتعلق بممارسات رئيس الوزراء الماليزي الأسبق نجيب عبد الرزاق حيث يشار بالاتهام لعدد من الشخصيات الكويتية في التورط مع المتهمين الماليزيين بتبييض أموال تم اختلاسها من الصندوق الماليزي عن طريق شركات تعود لكويتيين. هذه القضية مثار إهتمام الأنظمة القضائية الماليزية والأمريكية ولا بد أن تطول سمعة الكويت بالأذى في المحافل المصرفية والاستثمارية الدولية. هناك، أيضًا، قضايا تبييض أموال تتجه الاتهامات حولها إلى عدد ممن يطلق عليهم بالفاشينسات، أو المشهورين، والذين يعتمدوا على وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للسلع أو الخدمات حيث يذكر أن ثرواتهم قد تضخمت خلال فترة زمنية قصيرة.

تشكل هذه القضايا أو الفضائح المالية تحدياً للأنظمة القانونية في البلاد وتتطلب المواجهة المستحقة المتمثلة بتعديل القوانين والأنظمة وتمكين القضاء الكويتي من ملاحقة ومعاقبة كافة المتورطين مهما كانت مواقعهم السياسية أو الاجتماعية.

هناك جبهات أخرى للفساد في الكويت اتضحت معالمها خلال السنوات الماضية مثل القضايا المتعلقة بالرعاية الصحية حيث يتم التلاعب بعمليات شراء الأدوية أو إرسال عدد من المرضى إلى الخارج للعلاج في الخارج. رحلات العلاج تتم من خلال أنظمة زبائنية (بالواسطات) تعتمد على توصيات أعضاء في مجلس الأمة. في بعض هذه الحالات، يتم إرسال المرضى مع مرافقين وتستمر رحلات العلاج لمدد طويلة تكلف الدولة مئات الملايين من الدنانير وأصبحت عبئاً ثقيلاً يتحمله المال العام.

خلال السنتين الماضيتين، توسعت قضايا الفساد لتصل إلى قطاع التعليم مع اكتشاف مئات الشهادات الجامعية المزورة والصادرة من جهات مشكوك فيها في بلدان عربية وأجنبية. لا شك أن هذه الممارسات والتي قادها كويتيون وعرب وافدون ستؤدي إلى تدهور مستويات التعليم والتطاول على حقوق أولئك الذين اجتهدوا وانتظموا في جامعات مرموقة من سبيل التحصيل العلمي. كما أن تخريب قطاع التعليم مكن الكثير من المزيفين من إحتلال مواقع مهمة وأساسية في مختلف الجهات الحكومية بما ينعكس سلبيُا على أداء هذه الجهات.

المطلوب: إرادة سياسية حازمة

تتطلب معالجة الفساد في الكويت إرادة سياسية حازمة وتوفير القوانين والأنظمة الرادعة. يمثل الإتجار بالبشر جريمة بعرف المجتمع الدولي ولا يمكن مكافحتها في الكويت دون إلغاء نظام الكفالة وتوفير آليات مشروعة تقرها منظمة العمل الدولية بحيث يكون تواجد الوافد العامل في الكويت بموجب إقامة عمل تعتمد من قبل هيئة القوى العاملة بعد التأكد من تواجد الوافد في وظيفة مشروعة وفي مؤسسة أو شركة حقيقية وذات وجود مشروع. لابد من إلغاء نظام كفالة الأعمال الذي يقوم بها عدد من رجال الأعمال الوافدين، المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث يتطلب شريك كويتي، وهو عادة شريك يتقاضى مبالغ مقطوعة دون شراكة حقيقية في الأعمال أو بذل مخاطرة من أجل تلك الأعمال.

تعتبر أنظمة الكفالة للإقامة أو تأسيس الأعمال من المظاهر المشبوهة والمشوهة للواقع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. عززت برامج الإصلاح الاقتصادي ومحاولات جذب الاستثمارات الأجنبية التوجهات بإتجاه تمكين المستثمر الأجنبي ورجال الأعمال غير الكويتيين  للتملك بنسب مهمة في عدد من القطاعات الاقتصادية، بالتوازي، تظل التطبيقات دون الطموحات المنشودة. في الحقيقة، لن تتمكن  الكويت من إنجار إصلاحات رشيدة دون تجاوز هذه الأنظمة البالية التي كرست مظاهر الفساد.

هناك العديد من المؤسسات التي تم تأسيها خلال السنوات الماضية لمواجهة مظاهر الفساد، منها الهيئة العامة لمكافحة الفساد ” نزاهة ” التي يتم تحويل عدد من القضايا لها وهي، أيضًا، تتطلب من المسؤولين كشف الذمة المالية عند تولي المسؤولية. توجد أيضًا وحدة التحريات بشأن الأموال  التي تودع في الحسابات المصرفية للتأكد من مشروعية مصادرها. يضاف إلى ذلك (ديوان المحاسبة) الذي يتولى كشف عمليات الصرف في الوزارات والمؤسسات الحكومية وإبداء الملاحظات بشأن سلامة تلك العمليات.

ما هو مطلوب هو تفعيل القوانين القائمة وتوفير قوانين جديدة للتعامل مع ممارسات لم تتمكن المحاكم من تجريمها لغياب النصوص القانونية المناسبة. غنيٌ عن البيان أن قيام مجلس الوزراء باتخاذ خطوات حاسمة وتحويل المتهمين إلى القضاء يظل من أهم آليات مكافحة الفساد. كذلك لابد من أن يتولى مجلس الأمة عمليات الرقابة الصارمة على الأداء الحكومي المتعلق بمكافحة الفساد وتوفير التشريعات الملائمة.

لا مفر من ضرورة أن يرتقي المجتمع السياسي الكويتي في مفاهيمه وإدراكه لمخاطر عمليات الفساد مهما صغر شأنها.

السؤال الكبير: هل ستتمكن الكويت من مواجهة الفساد في ظل اقتصاد ريعي يعزز مظاهر الفساد والتربح والعبث بأموال الدولة وأصولها؟

منشورات أخرى للكاتب