التصنيف الائتماني في الكويت: فهمٌ مغلوط وسياسات مُعوجة
رغم ما أثـاره إعادة تصنيف الكويت الائتماني مؤخراً من قلق بين الأوساط الإقتصادية في البلاد إلا أن ذلك لا ينفي رواج مفاهيم مغلوطة بين النخب الثقافية والسياسية بشأن مدلولات هذا التصنيف. يعتقد البعض أن هناك كارثة منتظرة وأن الأمور أصبحت خارج السيطرة وأن سعر صرف العملة المحلية لابد أن يكون متجهاً نحو التدهور.
كل هذه المفاهيم مبالغ فيها ولا تمت للحقائق الإقتصادية بصلة. لاشك أن هناك تراجعاً في قيمة الإيرادات السيادية للكويت ودول خليجية أخرى بعد انخفاض أسعار النفط منذ العام 2014 وتحقيق الميزانيات الحكومية لعجوزات واضحة. عندما كانت أسعار النفط مرتفعة وتمكنت البلدان الخليجية المصدرة للنفط من جني إيرادات مهمة وحققت فوائضاً مالية جزيلة لم تكن هناك تساؤلات بشأن التصنيف الإئتماني الذي كان متميزاً، وقتئذ، لم تضطر البلدان المعنية إلى التوجه إلى الأسواق المالية لإصدار سندات دين أو الإقتراض المباشر. بطبيعة الحال لا يعتبر الاقتراض بدعة أو مسألة معيبة بحق الجهات المقترضة حيث أن العديد من البلدان الغنية أو الشركات ذات الملاءة الجيدة تعمل على إصدار السندات والإستفادة من التمويلات عندما تكون الفوائد المصرفية مناسبة، وهي كذلك في الوقت الراهن.
ما يثير القلق في الكويت هو تقاعس الإدارة السياسية عن إنجاز الإصلاحات البنيوية التي أكدت عليها مختلف الدراسات المتخصصة. يضاف إلى ذلك تعطيل إصلاح السياسات المالية والحد من الهدر والإنفاق الجاري المتعاظم على مدى السنوات الطويلة الماضية. أما ما يزيد الأمور تعقيداً فهو معاندة مجلس الأمة للمطالبة بتوفير آليات تشريعية لتمكين الحكومة من إصدار السندات والاقتراض من الأسواق المالية المحلية والعالمية في وقت يتضح فيه تراجع قيمة الاحتياطي العام وارتفاع مستوى العجز في حين تتوفر إمكانيات الاقتراض بأسعار فائدة مقبولة.
بطبيعة الحال، هناك من ينتقد ضبابية فلسفة الاستدانة وغياب برنامج التسديد وكيفية توجيه الأموال المستدانة في قنوات الإنفاق العام. يضاف إلى ذلك أم هناك تحفظات على الإدارة المالية في البلاد وضعف قدراتها الفنية. بيد أن المعضلة الأساسية التي تعطل الإصلاح المالي هي تلك الناتجة عن الإعتماد الهيكلي على الإيرادات النفطية وغياب قوانين الضرائب على الأرباح الرأسمالية وأرباح الشركات والمؤسسات العاملة في مختلف القطاعات وعدم وجود نظام ضريبي على مداخيل الأسر والأفراد بموجب نظام تصاعدي للمداخيل، هذا ناهيك عن عدم تطبيق ضريبة القيمة المضافة على مبيعات السلع والخدمات والتي اعتمدت من منظومة مجلس التعاون الخليجي.
تتوقع المؤسسات المالية بأن دول الخليج قد تزيد من ديونها بمقدار 100 مليار دولار خلال العام الجاري، وهناك إمكانيات لارتفاع عجوزات الموازنات المتراكمة إلى 490 مليار دولار خلال الفترة 2020 إلى 2023. لاشك أن هذه الأوضاع المالية تتطلب معالجات منهجية حتى لا تقع دول الخليج في فخ الديون السيادية وتخصيص الأموال لمواجهة خدمة الديون خلال السنوات القادمة.
يتعين على دول الخليج أن تعمل من أجل إصلاح البنية الإقتصادية وتحجيم دور الدولة في الحياة الإقتصادية والإستفادة من إمكانيات وأموال القطاع الخاص من أجل تمويل مشاريع التنمية بعد تطبيق سيناريو التخصيص المتدرج، بالإضافة إلى ما سبق ذكره من تنويع الإيرادات السيادية عن طريق اعتماد أنظمة ضريبية كفوءة وعادلة. أيضًا، يجب أن تكون هناك سيطرة على الإنفاق الجاري وهو ما لن يتحقق دون معالجة الهدر وإصلاح أنظمة الدعم.
بدأت بلدان خليجية مثل السعودية والإمارات وعمان في تطبيق آليات لمعالجة هذه البنود في الموازنات الحكومية لكن الكويت، وربما قطر، ما زالتا متقاعستين عن إتخاذ التدابير اللازمة لترشيد الإنفاق. الأهم من ذلك، يظل التوظيف في القطاع العام من أهم قنوات الإنفاق الجاري وليس هناك من سبيل سوى العمل على توجيه المواطنين للعمل في القطاع الخاص وتوسيع نطاق الأعمال لمؤسسات هذا القطاع من خلال برامج التخصيص.
هناك أهمية لفهم برامج الإصلاح الإقتصادي من قبل المجتمع السياسي وقادة الرأي والمواطنين في بلدان الخليج حتى يسهل قبولها واستيعاب ضرورتها لمسيرة التنمية المستدامة، والإقتراض سيبقى حاضرًا في الواقع الخليجي على المدى المنظور وستعمد الحكومات للاقتراض من خلال آليات متنوعة من الأسواق المالية، المحلية والدولية.
الواجب مع الاقتراض السيادي هو وضع آليات واضحة للتسديد وتوفير الأموال اللازمة لتؤدي في الآجال المُحددة، هكذا، ستبقى بلدان الخليج قادرة على الاحتفاظ بتصنيفات ائتمانية متميزة. وهو ما يتطلب معالجات كما سبق الإشارة له آنفاً والمتمثلة في الإصلاحات المالية والاقتصادية.
قد يراهن البعض على إرتفاع أسعار النفط وتحسن الإيرادات النفطية، وهو احتمال قائم، لكن لا يجب الارتهان في المستقبل لمثل ذلك الاحتمال بدلاً من ترشيد الإنفاق واتباع سياسات اقتصادية ناجعة.
تظل مسألة التصنيف الإئتماني ذات أهمية وهي مسألة تهم الحكومات والمؤسسات العاملة في بلدان الخليج. هناك العشرات من المؤسسات المملوكة من القطاع الخاص والتي ستواجه التزامات من أجل إنجاز أعمالها بما يدفعها إلى التوجه للأسواق والاقتراض، وحين تتراجع مستويات التصنيف لبلدانها فإنها ستتحمل كلفة عالية مقابل الإستدانة. إذاً، يمثل التصنيف الإئتماني أهمية للحياة الاقتصادية ولا مفر من العمل على تحسين المستويات.
حين نثير مسألة التنمية المستدامة فلابد أن نأخذ بعين الإعتبار أهمية الحصول على التمويلات الملائمة وبالأسعار المقبولة. هناك مشاريع عديدة ذات قيمة استراتيجية في برامج دول الخليج ولابد من إنجازها في الوقت المناسب، وهي مشاريع في قطاعات حيوية مثل القطاع النفطي والبنية التحتية والمرافق الحيوية ومنها الكهرباء والمياه بما يحتم تأمين الأموال اللازمة لإنجازها. هذه التحديات التنموية في بلدان المنطقة تفرض المحافظة على الإستقرار المالي المدعوم بالإصلاحات والتي تعزز ثقة المؤسسات المالية العالمية.
ستبقى بلدان الخليج جزءاً مهمًا من العالم تتأثر بمسارات الإقتصاد العالمي المتغيرة بما يؤكد أهمية التفاعل مع هذه المتغيرات وتأكيد مناعة الإقتصاد الخليجي بالرغم من هيمنة النفط على الحياة في هذه البلدان.