سؤال الديمقراطية في إيران: بين فشل النخبة وتطلعات الشارع
مع كل موجة احتجاجات أو انتخابات برلمانية أو رئاسية، يتجدد النقاش حول موضوعة “الديمقراطية” في الجمهورية الإسلامية في إيران، ويتبادر إلى الاذهان سؤال ملّح عما إذا كانت إيران قد فشلت في إقامة جمهورية ديمقراطية “إسلامية”، أم أن بصيص أمل لا يزال موجودًا في آخر الطريق.
لابد من الإقرار بأن لا وجود لديمقراطية في بلد يتحكم في جميع مؤسساته وقراراته الداخلية والخارجية رجل واحد غير منتخب، وهو المرشد الأعلى، أي محاولات لإرساء قيم ومبادئ الديمقراطية مع وجود هذا المنصب “شبه الآلهي” محض هراء ولا مجال لمناقشته، لكن ما يحدث في إيران، هي محاولات للإصلاح السياسي، وهي محاولات ليست بالجديدة، بل كانت موجودة منذ السنوات الأولى للثورة الإسلامية 1979، ما الذي حققته؟ وإلى أين وصلت؟ هذا هو ما يمكننا مُناقشته.
قبل الخوض فى النقاش حول الديمقراطية في إيران، لابد من تقسيم الأطياف السياسية التى تشارك في مثل هذا النقاش والمحاولات لتطبيقها؛ هناك من يرى أن إصلاح الثيوقراطية الإيرانية سيجلب رياح الديمقراطية بالتأكيد، آخرون يرون أنه لا غنى عن إصلاح الدستور، وفصل الدين عن الدولة، وتحديد صلاحيات المرشد الأعلى للجمهورية الايرانية.
إصلاح إسلامي
قامت الجمهورية الإسلامية على أساس “الثورة الدائمة” الذي خلف وراءه جمهورية شعبوية ثيوقراطية، كان لدي مؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله روح الله الخميني، تصور خاص عن الحكومة الاسلامية، بعد وفاة الخميني، ضاعت البوصلة من القادة السياسيين، في الوقت ذاته، كانت إيران للتو قد خرجت من حرب دامت ثمان سنوات مع العراق، فوجد القادة ورجال الدين الإيرانيون في السلطة أنهم على شفا فقدان ذلك الزخم الثوري والنبرة الشعبوية لدى الجماهير، أصبح لديهم المزيد من الحاجة إلى تعبئة الجماهير دون النظر إلى أي إصلاحات سياسية.
بعد القليل من التخبط، جاء آية الله هاشمي رفسنجاني ليتولى رئاسة إيران عام 1988، والذي يمكن أن نصفه بأنه “أبو البراغماتية الإيرانية”، أراد رفسنجاني تهدئة الوضع السياسي وإعادة إعمار البلاد بعد الحرب فسعى إلى معالجة المشاكل الاقتصادية والسياسية بما يتناسب مع الشكل الإسلامي للجمهورية، ببساطة؛ إصلاح إسلامي دون المساس بولاية الفقية.
لم ينجح رفسنجاني في تحقيق هذه المعادلة الصعبة، فاكتفى ببعض الإصلاحات الاقتصادية،مع الاستمرار في أخطاء الدولة الثيوقراطية والشعبوية.
محمد خاتمي: أحلام الإصلاح والديمقراطية
بعد فشل آية الله رفسنجاني في تحقيق بعض مشروعه الإصلاحي، زاد الزخم حول ضرورة إصلاح النظام وظهر هذا الأمر بقوة في الانتخابات الرئاسية عام 1997 التي جاءت برجل الدين الإصلاحي، محمد خاتمي، الذي كان يمثل مطلب الجماهير الإيرانية للإصلاح السياسي آنذاك.
انحازت توجهات خاتمي إلى تحقيق الديمقراطية، سيادة القانون، التأكيد على أهمية دور المجتمع المدني بجانب الكثير من الوعود بالمزيد من الحريات الاجتماعية.
كان خاتمي أملاً كبيرًا لتجديد المطالبة بالإصلاح داخل النظام الإيراني، وبفوزه حلم الايرانيون بتحقيق الديمقراطية ومواجهة زخم الثيوقراطية في البلاد، ارتفع سقف الطموحات إلى المزيد من الانفتاح الثقافي والسياسي بقيادة الطبقة الوسطى الإيرانية التي عانت من التهميش جراء الشعبوية السائدة.
تبددت هذه الآمال في ظل وجود المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، وسيطرته على كافة المؤسسات، كلما كان الرئيس خاتمي يحاول اتخاذ خطوات إصلاحية كانت هذه الخطوات تواجه سلطة آية الله خامنئي ومؤيديه، يجب ألا نغفل أن خاتمي لم يكن شجاعًا بما فيه الكفاية للدخول في تحدٍ مباشر مع هذه السلطة أو المطالبة بتعديلات دستورية، كان خاتمي، يدور في فلك أيديولوجية الجمهورية الاسلامية.
بعد ولايتين ما بين 1997 و2003، لم يذهب خاتمي بعيدًا عن الثيوقراطية السياسية في إيران كل ما نجح به هو المزيد من البراغماتية السياسية كما فعل سلفه، آية الله رفسنجاني، لكن فشل خاتمي فتح الباب مجددًا حول صياغة مختلفة للسياسة الايرانية، والإتجاه أكثر نحو العلمانية التي ولدت من رحم الإصلاح.
الديمقراطية الإسلامية
بعد خسارة خاتمي لمعركته الإصلاحية أمام صلاحيات آية الله خامنئي والقوى المحافظة، بدأ الحديث في إيران يدور حول الخروج من مطلب الإصلاح إلى خلق صورة جديدة للديمقراطية أو ما أطلقت عليه النخبة السياسية الاصلاحية “الديمقراطية الاسلامية”.
قاد هذا التيار مجموعة من رجال الدين الاصلاحيين والعلمانيين، هذا التيار لم يكن مستحدثًا بل كان أول ظهور له في أعقاب قيام الثورة الاسلامية عام 1979 مباشرة. وكان أول من تحدث عن الديمقراطية الاسلامية، هو آية الله حسين منتظري، الذي كان من المفترض أن يكون وريث آية الله الخميني بعد وفاته.
أية الله منتظري، ومجموعة من رجال الدين والساسة، بدأوا في مناقشة نظرية “ولاية الفقيه” وكيفية الحد من صلاحياتها، حاولوا التوصل إلى حل لمنصب المرشد الأعلى لجعله يتماشى مع قيم الديمقراطية، فتم طرح فكرة أن يتم انتخاب الزعيم الأعلى للبلاد وأن يتم تعديل صلاحياته في الدستور.
وذهب البعض من منظري هذا المسار إلى حد فصل الدين عن السياسية، وهذا ما تم اعتباره تجاوزًا للخطوط الحمراء لآية الله علي خامنئي، تعرض هذا التيار إلى القمع بشدة، لذلك لم تجرؤ الأجيال التالية على مناقشة هذه الأمور مجددًا وساروا في مسار الإصلاحات دون المساس بنظام الجمهورية الاسلامية، حاولوا خلق شكل جديد للثيوقراطية الإيرانية لكن مصير كل هذه المحاولات كان الفشل.
مطالبات الجماهير بالديمقراطية
مع قدوم محمود أحمدي نجاد، المحافظ المتشدد، إلى منصب الرئاسة وسيطرة التيار المحافظ على البرلمان، لجأ الإيرانيون إلى الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية، فكانت مظاهرات الحركة الخضراء عام 2009 التي كانت احتجاجًا على إعادة انتخاب أحمدي نجاد لفترة ولاية ثانية. وقتئذ؛ أدرك المعسكر الإصلاحي والنخبة السياسية العلمانية أنه لن يحقق أى مكاسب وأن المطالبة بالديمقراطية لن تأتي إلا من خلال احتجاجات الشارع. شهدت إيران تلك الفترة مظاهرات طلابية ضخمة تطالب بالحرية السياسية والاجتماعية والثقافية، واجراء تغييرات جذرية في النظام الإيراني، وكانت المرة الأولى التي يرتفع فيها الهتاف والمطالبة باستقالة المرشد الأعلى.
الأصوات العلمانية ظهرت بقوة مؤكدة على فشل الإصلاح الإسلامي أو الديمقراطية الإسلامية ممؤكدة على ضرورة منح السيادة للقانون والشعب، بدلا من منحها إلى رجلٍ واحد يُسيطر على البلاد بأكملها حتى مع وجود مؤسسات سيادية مثل البرلمان والرئاسة، في النهاية تخضع جميع هذه المؤسسات تخضع لسلطته. وعلى الرغم من قمع الحركة الخضراء، إلا أن النقاش على التعديلات الدستورية مثلما حدث ابان الثورة الدستورية في إيران عام 1906 وضرورة إحداث تغيير أكثر شمولية في النظام، لم يهدأ.
حسن روحاني: الأمل الذي انتهى
بعد خروج الرئيس نجاد من الرئاسة، عاد الأمل مرة أخرى في إحياء المطالبة بالديمقراطية. تجسد هذا الأمل في الرئيس المعتدل حسن روحاني، وبغض النظر عن فترة ولايته الثانية التي كان هدفها الأول والأهم هو إبرام الإتفاق النووي، فإن إعادة انتخابه عام 2017 كانت الملمح الأهم لمحاولات الديمقراطية في إيران.
اقتربت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية لعام 2017 من 73 في المئة وفاز روحاني بأكثر من 40 مليون صوت، لكن ما فعله روحاني من أجل الفوز هو المهم، في الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية كان روحاني وفقا لاستطلاعات الرأي في مأزق كبير، فجميع المؤشرات كانت تفيد بعدم إعادة انتخابه. لكنه استطاع إحياء الأمل من جديد مستخدمًا المناظرات وتجمعات الدعاية الانتخابية، تحدث روحاني عن الفساد المستشري داخل النظام وبما يشمل الحرس الثوري، واتهم منافسه المحافظ إبراهيم رئيسي بتورطه في حملة الإعدام الجماعي 1988 مشيرًا إلى تستر النظام حينها على هذا الأمر، أيضًا، تناول روحاني مطلب الحريات السياسية ووصل الأمر إلى انتقاده لآية الله خامنئي (تلميحًا) باحتكار السلطة.
لكن كما جرت العادة، لن يخرج أحد في النهايات عن الخطوط الحمراء لآية الله علي خامنئي، بعد إعادة انتخاب حسن روحاني لم يستطع الأخير إلا أن يكون جزءأ من النظام الذي يدور حول المرشد الأعلى للثورة.
بعد هذه الدوامة من المحاولات الفاشلة والمتعثرة نحو الديمقراطية، وبعد أن كان الإيرانيون يأملون في تغيير النظام أو إصلاحه دون عنف، يدرك قادة التيار الإسلامي (المتعلمن) بأنهم ابتعدوا عن أهدافهم وعن تطلعات الناس في الديمقراطية وأصبحوا منشغلين في التدليل والتأكيد على أنهم لا يزالون طرفًا في المعادلة السياسية الايرانية.
الأكيد؛ هو أن الإيرانيين مُحبطون من النخبة السياسية، وهو ما ظهر هذا بقوة في الانتخابات البرلمانية فبراير الماضي، ثمة يأس من فكرة التغيير من الداخل، وانتظار لدور الشارع، لعلهُ يملك الحل.