دول الخليج وتعقيدات الأزمة الاقتصادية في لبنان

في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1920 أعلن الجنرال الفرنسي غورو قيام دولة لبنان الكبير، ويصادف هذا العام مرور مئة عام على ذلك الإعلان. تعود علاقة بلدان الخليج مع لبنان إلى عشرينات القرن الماضي، وقتئذ؛ كانت بلدان الخليج فقيرة ولبنان أكثر تحضراً. الكثير من أثرياء الكويت والبحرين والسعودية كانوا يقصدون لبنان للاستشفاء والسياحة. وبعد ذلك بزمن قصير توافد الطلبة الخليجيون للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، والبعض للدراسة في معاهد ومدارس ثانوية خاصة. يضاف إلى ذلك اقتناء خليجيين أثرياء بيوتًا فارهة ومزارع في مناطق عديدة من لبنان.

منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وربما قبل ذلك بقليل، مثلت لبنان ومناطقها الجبلية مصيفاً ملائماً لأولئك للخليجيين. وبعد أن تحسنت الأوضاع الإقتصادية في بلدان الخليج تسارعت عمليات تملك الشقق والبيوت للخليجيين من أبناء الطبقة المتوسطة في مناطق عديدة.

تسارعت وتيرة العلاقات بين لبنان وبلدان الخليج خلال أكثر من سبعة عقود وانتشر اللبنانيون في السعودية والكويت والإمارات والبحرين كمكون مهم من القوى العاملة. وامتهن اللبنانيون مختلف الوظائف والحرف في القطاعين العام والخاص. ويعتبر الشعب اللبناني من الشعوب المُبادرة والمعتادة على الهجرة حيث بدأ العديد من اللبنانيين الهجرة إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وربما كانت أسباب تلك الهجرات الهروب من الطغيان والاضطهاد العثماني في ذلك الحين. لكن كثيرًا من المهاجرين تمكنوا من بناء حياة جديدة في المهجر وخلق الثروات الخاصة. ساهم اللبنانيون في منطقة الخليج في بناء الحياة الاقتصادية الجديدة بعد بداية عصر النفط ووفروا أيدٍ عاملة محترفة في مجالات عديدة افتقرت لها بلدان المنطقة. تفاوتت أعداد اللبنانيين في منطقة الخليج منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي حتى يومنا هذا لكن هناك تقديرات لأعدادهم الحالية والتي تشير إلى وجود ما يقارب من نصف مليون لبناني في مختلف دول الخليج تتراوح بين 40 إلى 50 ألف في الكويت إلى 150 ألفًا في الإمارات و250 ألف في السعودية. وقد تصل حصيلة تحويلات هؤلاء العاملين إلى لبنان بحدود 2 مليار دولار سنوياً.

لم تقتصر العلاقات على تواجد عمالة لبنانية في بلدان الخليج أو قيام خليجيين بالإستثمار في العقار والفندقة والبنوك أو إقتناء المنازل والقصور في لبنان بل شملت العلاقات الإقتصادية دعمًا مباشرًا وقروضًا ميسرةً لمشاريع وأنشطة عدة. على سبيل المثال قدم الصندوق الكويتي للتنمية الإقتصادية بعد تأسيسه ومنذ عام 1966، حسب بيانات الصندوق، 27 قرضاً بقيمة 268 مليون دينار كويتــي (893 مليون دولار أمريكي) مولت هذه القروض مشاريع حيوية في لبنان منها محطات الكهرباء ومشاريع تعليمية وتحديث الشبكات الهاتفية والصوامع وتطوير المطار الدولي والطرق ومشاريع المياه. هذه التمويلات تعقد بشروط ميسرة من حيث الفوائد وآجال السداد. وغني عن البيان أن السعودية والإمارات وفرتا المزيد من الأموال على شكل منح وقروض ميسرة للعديد من المشاريع في لبنان.

دول الخليج ظلت على تواصل إقتصادي مع لبنان منذ الإستقلال وبعد أن منّ الله عليها بثروة النفط عملت على تقديم الدعم الإقتصادي والقروض الميسرة للمشاريع البنيوية وقام الأفراد وشركات القطاع الخاص في هذه البلدان بالاستثمار في البنوك والشركات السياحية والعقار، وتؤكد السلطات اللبنانية أهمية الأصول المتنوعة المملوكة من الخليجيين.

مر لبنان بفترات عصيبة، خصوصاً الحرب الأهلية العبثية التي استمرت لمدة 15 عاماً نزفت فيها البلاد مادياً وبشرياً. وعملت حكومات لبنان بعد نهاية الحرب وبعد إتفاق الطائف في بداية تسعينات القرن الماضي، وخصوصاً الحكومات التي قادها الرئيس الأسبق رفيق الحريري، على إنجاز مشاريع إعادة البناء المؤسسي وإصلاح الأوضاع المالية وتوفير بيئة إقتصادية جاذبة. وتدفقت أموال طائلة بعد نهاية الحرب وتمكن لبنان من الإستدانة من المؤسسات الدولية لتمويل المشاريع الرئيسية وتم إنجاز شبكة طرق وتعمير وسط بيروت وغير ذلك من مشاريع. رغم ذلك، بقت هناك مشاكل عصية على الحل ومنها تأهيل إقتصاديات المدن والبلدات الأخرى والإرتقاء بمعيشة المواطنين في الشمال والجنوب أو توفير بيئة إقتصادية تمكن من توظيف المتدفقين إلى سوق العمل. لذلك، ظلت البلاد طاردة لعناصر شابة تنشد الحياة المستقرة والحصول على وظائف ملائمة توفر العيش الكريم. وجاءت الحرب الأهلية في سوريا لتزيد من تفاقم الأوضاع وبعد تدفق ما يزيد عن 1.5 مليون من السوريين تزايد العبء المالي والمسؤولية الإجتماعية على الحكومة اللبنانية.

يتزايد الآن الحديث عن سعر صرف الليرة اللبنانية وتعقيدات المشهد السياسي وأعباء وباء كرونا المستجد قد دفع سعر صرف الليرة إلى مستويات متدهورة. بيد أن ما يجب الإشارة إليه أن سعر صرف الليرة حدد بطريقة إعتباطية بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990 حيث حدد سعر صرف الدولار بـ 1500 ليرة لبنانية دون تقدير للإمكانات الحقيقية والطبيعية التي يمكن أن تؤدي إلى إستقرار سعر الصرف المذكور. اعتمد مصرف لبنان المركزي على الإقتراض والإستعانة بودائع من بلدان الخليج وعدد من الدول الغربية الصديقة لتعويم سعر صرف الليرة في تلك الحدود. كما أن تحويلات العاملين اللبنانيين في الخارج ساهمت إلى حد كبير في الدفاع عن ذلك المستوى.

لاشك أن الأمور تبدلت خلال السنوات القليلة الماضية بعد أن تحول النظام السياسي اللبناني إلى نظام  محكوم من قبل قوى تعتمد على النظام الإيراني ومعادية بدرجة كبيرة لبلدان الخليج الأساسية وللغرب بشكل عام. تقلصت الدعومات وتراجعت التمويلات الميسرة وبات الدائنون في حيرة من الأوضاع السياسية والإقتصادية والسياسات النقدية المتحكمة بالإقتصاد اللبناني.

تقدر جمعية المصارف اللبنانية أن الدين العام الخارجي للبنان بلغ 91 مليار دولار في نهاية عام 2019. تمثل السندات الحكومية 94 في المئة من قيمة هذه الديون. تمثل هذه الديون الخارجية 147 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019. في ظل هذا الوضع وتراجع تدفقات النقد الخارجي والإستثمارات الأجنبية لابد للبنان أن يعاني من تراجع أرصدة الإحتياطي المقوم بالعملات الأجنبية. وشهدت البلاد تعقيدات أمام عملاء البنوك للحصول على أموال من إيداعاتهم المصرفية طوال الشهور المنصرمة مما أدى إلى هز الثقة بالنظام المصرفي.

يشعر الكثير من اللبنانيين بأن أموالهم قد تبخرت، وفي ذات الوقت، لم يعد المصرف المركزي يمتلك أرصدة دولارية كافية لمواجهة الطلب من قطاع الأعمال والأفراد ما دفع سعر الدولار لتجاوز سقف العشرة آلاف ليرة. بطبيعة الحال ليس من المتوقع أن يقوم الدائنون والداعمون الرئيسيون بتوفير أموال من أجل تعويم الإقتصاد اللبناني في ظل هذه الظروف. كما هو معلوم أن بلدان الخليج حتى لو تجاوزت عن تحفظاتها على المواقف السياسية فإنها لم تعد تملك إمكانيات توفير فوائض مالية لتقديم الدعم للبنان أو غيره من البلدان العربية. يضاف إلى ذلك أن الأمور قد تزداد تعقيداً بعد أن يضطر الكثير من اللبنانيين المقيمين والعاملين في بلدان الخليج لمغادرة هذه البلدان بعد فقدان وظائفهم نتيجة الركود الإقتصادي المرتقب في منطقة الخليج.

يتعين على اللبنانيين إعادة النظر في أوضاعهم وإصلاح هيكلة الإقتصاد بما يتوافق مع المعايير المعتمدة من المؤسسات المالية الدولية. إذاً لابد من التوافق مع صندوق النقد الدولي لإنجاز الإصلاحات المنشودة وتوفير بيئة إستثمارية جاذبة متحررة من الفساد المالي والسياسي والإداري. أيضا، لا مفر من تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية بما يعكس الحقائق الإقتصادية في البلاد. يضاف إلى ذلك هناك أهمية لإسترداد الأموال المهربة والعمل على تفادي عمليات التهرب الضريبي بما يوفر الأموال اللازمة للإنفاق الحكومي.

قد تكون هذه المتطلبات صعبة المنال في بلد عانى كثيراً من الإضطرابات السياسية والفشل الحكومي وطغيان المحاصصات الطائفية غير السوية. لكن خلاف ذلك، لن تتمكن بلدان الخليج من تقديم العون للبنان دون توفر الثقة في النظامين السياسي والإقتصادي.

منشورات أخرى للكاتب