الانتِقالات المُشوّهة في الخليج: من “القَبِيلة” إلى “القَبَليّة”

تاريخياً، وبعد التحول الجوهري في نظام الدولة بين الخلافة الراشدة والنظام الملكي في عهد الدولة الأموية، كانت الأسس التي انبنت عليها الدولة، بعد هذا التّحول، تتوزع على محورين إثنين: الأول هو محور “الدعوة” أو “الشريعة” التي هي المبرر الشرعي لقيام الدولة، وهو المحور الذي أكد عليه الفقهاء المسلمون. أما الثاني، فهو محور “العصبية” التي هي وسيلة التغلب للوصول إلى الملك، وهو المحور الذي أكد عليه ابن خلدون وجعله أساسًا لقيام الدولة ونشوئها.

وبالرغم من أن الوطن العربي أعلن بعد اتفاقية سايس بيكو عن قيام دول قطرية بحدود جغرافية، ونظام سياسي أقر فيه بعضها النظم الديموقراطية في الحكم، القائمة على تفتيت بنية القبيلة القائمة على الانتماءات العصبية والولاءات المتعددة للقبائل إلا أن هذا الإقرار يتلاشى عند أول كرنفال انتخابي أو أزمة سياسية قد تهدّد وجود النظام القائم. حينها، تتكوّن تموجات عمودية من أعلى قمة في السلطة إلى القاعدة الشعبية يتم توظيفها في استعادة القبلية كنمط إنتاج اجتماعي في صيغ السلوك والتفاعل، حتى أنّ الحكومات في هذه الحالات تعمل على تسخير كل مقومات الدولة وتعلن انتصارها لقوانين القبيلة غير القابلة للتجاوز. 

ورغم كل ادعاءات الانتماء للدولة العصرية تجد البرلمان يتحول إلى منصة قبلية على مستوى الخطاب والتشريع، بل إنّه يستخدم وسائل المراقبة والمحاسبة، وهي الأدوات الي تخوّل له ممارسة دوره في تكريس قيم المواطنة، في دعم أسس الترابط القبلي لا الوطني.

لا تزال الممارسات السياسية في دول الخليج خاصة، محكومة بقيود القبيلة، بل إنها تستند في تدبيرها السياسي إلى التقليد والشخصنة. وهو ما يؤكد استحالة محو القبيلة من عمق التمثلات، مما يعزز فكرة الانتقال السياسي وليس التحول السياسي، الانتقال من القبيلة إلى القبلية، حيث تتلاشى القبيلة كمؤسسة تنظيمية، ولكنها تبقى حاضرة كمنظومة فكرية رمزية تحدد القيم والتصورات وترسم السلوك والانتماءات بل وحتى الممارسات. وليس تحولًا سياسيا في بنية الفكر السياسي والاجتماعي، حيث نلحظ  قيام دولة أفقية تحكمها مؤسسات دستورية تعزز قيم المواطنة، وينشط فيها البرلمان في المراقبة والتشريع وفق برامج سياسية بعيدة عن الترويج الانتخابي وتكسّباته، بل على العكس من ذلك تعمل على تعزيز بنية الدولة والمجتمع، وتعميق قيم الانتماء القائمة على أسس المواطنة، وتفعيل منظومة الحقوق والواجبات على أسس عادلة تحقق مبدأ الرفاه للجميع.

الدولة والقبيلة: مَنْ يحتوي مَنْ؟

تبدأ الدولة حينما تنتهي سلطة القبيلة، وتبدأ القبيلة حينما تنتهي سلطة الدولة. الدولة نظام ما فوق قبلي والوجود المزدوج والمتنافي بين القبيلة والدولة ماهو إلا حركة تأرجح وصراع وتذبذب، فعلاقة الدولة مع القبيلة علاقة احتواء تعمد فيها إلى تبديل النظام الثقافي للقبيلة القائم على العصبيات شديدة التطرف إلى نظام المواطنة القائم على تطوير مفهوم الولاء الضيق، إلى مفهوم أكثر شساعة وهو الولاء للوطن الذي تحكمه أطر قانونية ودستورية تنظم المجتمع بكل تنوعاته وانتماءاته. تحاول الدولة أن تدمج القبيلة في المجتمع وتهذب انتماءها لمحيط أكبر وتوسع من أطرها القانونية لتشمل كل قاطن تحت مظلة المواطنة.

والمتابع لسلوك بعض الدول البرلمانية في الوطن العربي وخاصة في الخليج، يمكنهُ ملاحظة الحضور القبائلي القوي في المنهج السياسي الذي يعتمد على الخطابات المذهبية والطائفية والعشائرية، التي ترمي إلى التكسب الانتخابي أو الولاء المأجور للسلطة وإن كان بعضهم معارضين لها، إلا أن استفادة بعض النواب وعشائرهم من السلطة يقضي على  معارضتهم أو يعطلها وإن مؤقتا، فإن تضررت مصالحهم وظفوا هذه المعارضة وأعادوا تفعيلها ليس من أجل مصلحة المواطن وتدعيم بنية الدولة بل لضمان المنفعة الشخصية أو المحافظة على مصالح القبيلة من خلال ممثّل لها في البرلمان.

ورغم اختيار بعض دول الخليج للنظام الدستوري البرلماني وحضور نصوص الدستور كمرجعية تحكم الدولة وبنيتها، إلا أن هذا الحضور لا يتعدى الحضور الصوري الذي لا فاعلية تطبيقية له في المنهج الحكومي ولا في المسلك الانتخابي ولا حتى على مستوى طريقة تقسيم الدوائر الانتخابية.

وعلى اعتبار أن الحكومة هي السلطة التنفيذية فإنه يقع ضمن واجباتها كل ما من شأنه تذليل العقبات الحياتية للمواطن وتطوير الخدمات المقدمة وخاصة منها الخدمات الصحية والتعليمية، والاستثمار النافع في الإنسان وفق مبدأ المساواة، إلا أن تجليات هذه المهمة تتلاشى عند التطبيق فالتوظيف في الوزارات السيادية كالدفاع والداخلية والخارجية غالبًا ما يتم على أساس عائلي ومذهبي، ولهذا السلوك منشأ يعود لغياب الرقابة الحقيقية من قبل البرلمان الذي تهيمن عليه مناخات قبلية تتوزع ولاءاتها بين الحكومة والقبيلة والرمزّ.

حينما يتم توزيع الدوائر الانتخابية بطريقة لا تكرس مبدأ المواطنة ولا تذيب الفوارق الاجتماعية والانتمائية وفي ظلّ وجود المال السياسي، تكون النتيجة انتخابات تكرس الولاءات للقبيلة والطائفة. لا يُنتخَبُ المترشحون وفقًا لما يقدمونهُ من برامج بل بما يرفعونه من شعارات شعبوية، وبالتالي يُقسم المجتمعُ انتخابيا وفق مبدأ قبلي ومذهبي وطائفي وعائلي ويصبح البرلمان مفتقدًا للانسجام الوطني، وغير متفق على مشروع وبرنامج وطني متناغم. 

فيما يتعلق ومستوى الأداء السياسي داخل البرلمان، والذين يفترض أن يكون فيه الأعضاء المنتخبون ممثلين للمواطن دون اعتبار أي تصورات أخرى خارج دائرة المواطنة، فإن أداءهم لوظائهم في المراقبة والمحاسبة والتشريع تحكمها إما نكايات سياسية أو ولاءات ومشاريع مذهبية وقبلية إقصائية لشركاء الوطن. التحالفات داخل البرلمان لا يحكمها برنامج سياسي وطني بل يحكمها تقاطع مصالح أشخاص أو قبائل، أو مذهب بذاته، أو تحالفات تقودها السلطة في البرلمان تدفع كلفتها في شراء ولاءات القبيلة وممثليها أو المذهب وممثليه، لتقوّي حضورها الفاعل الذي يعزز من برنامجها الخاص ويعطل أدوات البرلمان في تقويض الفساد ومحاصرة المفسدين.

سياسات التدجين 

وفي حال كان هناك متضررون من هذا النظام، يتم – تحت ضغط فوبيا الانتماء المذهبي والقبلي الذي تستخدمه السلطة – تذويب المعارضة وتدجينها تحت عباءة السلطة، وهو سلوك قبلي وروح بدوية وإن كانت بشكل عصري وأداة دستورية. يصبح القانون والدستور وهي أدوات عصرية في الحكم في هذا السياق إلى وسائل لتكريس الروح القبائلية التي تقوض مفهوم الدولة الحديث.

لا نغفل هنا طبيعة تركيبة المجتمعات في الدول العربية وخاصة الخليجية والتي تشكل القبيلة نواتها، ورغم التحولات التي حصلت في بنية القبيلة، إلا أن هناك عناصر راسخة في بنية هذه المجتمعات الفكرية وهو عنصر الولاء للقبيلة والتعصب لها لما تشكله من ثقل في الهيكل الاجتماعي، وما تشكله من سلطة قد تضاهي أحيانا سلطة الدولة، أو توازيها.

 ورغم محاولات الأنظمة وخاصة في الخليج دمج القبيلة في الدولة، إلا أن نظام الدمج كرّس مبدأ تقاطع المصالح والولاءات الخاصة وعزز نظام الهِبات القائم على أساس التوظيف وتوزيع المناصب لا على أساس الكفاءة، بل على أساس انتمائه وقوة قبيلته وثقلها الاجتماعي ومدى تأثيرها في توجيه المنتمين لها، وتأثيرها على القبائل الأخرى.

باتت القبيلة تمارس دورا سلطويا داخل الدولة، تستخدم من خلاله الأدوات المتاحة كالانتخابات والبرلمان في تكريس وجودها. وتقع المسؤولية على السلطة من جهة، فهي من تستخدم القبيلة لتكريس وجودها، وتعزّز البعد القبلي فيها، وعلى القبيلة من جهة أخرى فهي التي لم تستجب لمشروع الدولة والانتماء لها ولم تندمج داخل مجتمع يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات ومبدأ الكفاءة. 

في المحصلة، رغم التحولات الشكلية في الأطر التي تحكم المجتمعات من الشكل القبلي إلى شكل الدولة ومؤسساتها الهرمية، إلا أن روح هذه الدول وأدواتها ما زالت تهيمن عليها القبائلية بنسقها البدوي في السلوك والممارسة السياسية. وهو ما يقوض بنية الدولة الحديثة ومفهوم الرفاه للجميع، ويكرّس مفهوم المواطنة الطبقي الذي يقوم لا على أساس طبقية اقتصادية بل طبقية متعددة الولاءات، بعضها مذهبي وآخر قبلي. حاكمية هذا المعيار غالباً ما تكون في منظومة الحقوق لا الواجبات، فالواجب واحد على الجميع ضمن هذا الفهم لكن الحق يعطى وفق معايير قبلية أو طائفية أو حتى عرقية.

تبقى المجتمعات الخليجية رغم حداثة ظاهرها وبنيتها تدور في دوامة العصبيّات التي تعطّل نموّها ورشدها السياسي، وتعيق نهضتها وقدرتها على تطوير نظمها وممارساتها السياسية، ويظلّ النظام السياسي يعيد إنتاج نفسه وفق منظومة قيم ومعايير مستوحاة من روح قبائلية يحكمها الإنتماء التاريخي للقبيلة وترسّخها في عقلية الحكام، رغم أن لباسها الخارجي لباس ديمقراطي.

منشورات أخرى للكاتب