مفهوم الدولة في الخليج ودساتير “الورق”
جاء في لفظ “الدولة” في لسان العرب لابن منظور أنها: “الفعل والانتقال من حال إلى حال”، أما في القاموس المحيط للفيروز آبادي فتعني: “انقلاب الزمان من حال إلى حال”.
وينظر إلى الدولة في منطق العرب كمدير شأن الناس في اجتماعهم واختلافهم، ولفظة التدبير عند ابن منظور تقال على معان كثيرة وأشهر دلالاتها “تجري على ترتيب أفعال معينة نحو غاية مقصودة، ولذلك لا يطلقونها على من فعل فعلًا واحدًا يقصد به غاية ما، فإن من اعتقد في ذلك الفعل أنه واحد لم يطلق عليه التدبير، وأما من اعتقد فيه أنه كثير وأخذه من حيث هو ذو ترتيب سمي ذلك الترتيب تدبيرًا، لذلك يطلقون على الإله أنه مدبر العالم”.
ثنائية الدولة والسلطة
تعتبر الدولة من مفاهيم “علم السياسة” وتشكلت حولها نظريات كثيرة، والنظرية السياسية هي “فلسفة سياسية تنطبق على ظروف اجتماعية واقعية”. وينقسم المنظرون في هذا المضمار الفلسفي إلى مدارس رئيسية للفكر الفلسفي:
١. المدرسة العقلية؛
٢. المدرسة التجريبية؛
٣. المدرسة الدينية.
من باب عدم تكرار اللبس الذي وقع فيه الكثير من المفكرين، الذين حاولوا تطوير مفهوم الدولة، فوقعوا في فخ التنظير لقضية من يحكم، وصفاته، وشرعيته ومكانته والسبب في ذلك غالبًا هو التداخل والتماهي بين مفهوم السلطة ومفهوم الدولة.
يرتبط مفهوم الدولة في الوعي العام بوعي قبلي أو ديني وليس سياسيًا، أي أن أهميتها تكمن في حفظها للأفراد المرتبطين بقرابة الدم أو الدين، لا على أساس رابط المواطنة. في هذه النظرة التقليدية للدولة يكون العدل مرتبطًا بمقدار اتسام القيادة بمواصفات أخلاقية مثلى، فإذا أحسن القائد استقر النظام العام ومال الناس إلى الاستقرار والأمان، وإذا أساء تعكر النظام وأصبحت حياة الناس مضطربة. وهو ما يعني سعي الناس لكسب رضا الحاكم بشتى الوسائل، لا لمحاسبته والمشاركة في الحكم.
في النظرية الحديثة للدولة يتمثل العدل في قوة المؤسسات وقدرتها على تقنين قوانين، تحمي الأفراد وتصون حقوقهم وفق نظام معياري للقيم العامة. ويعتبر صاموئيل هانتنغتون أن الدول “لا تتباين في الشكل وإنما تتباين في درجة الحكومة، أي درجة تغلغل الحكومة، أي السلطة السياسية في الشأن العام”. مفهوم الدولة في العالم العربي لا يزال يتسم بالبساطة والتقليدية، وهو ما يعيده المؤرخ جواد علي إلى “الطبيعة القبلية للإنسان العربي، الذي لم يفهم الدولة إلا أنها دولة القبيلة”.
وتسعى الدولة الحديثة لكسب رضا المواطنين وإشراكهم في السلطة وفي القرار، وتجديد السلطة من خلال إتاحتها للتداول. قبالة ذلك، لا يزال المفهوم التقليدي للدولة يعتبر الدولة معصومة، لأنها تعبر عن الحاكم، وعلى المواطن أن يكون خادمًا مطيعًا، وأي محاولة للقفز على السلطة أو انتقادها أو المطالبة بمشاركتها هي بمثابة القفز على ولي الأمر المحرم شرعًا مواجهته ونقده، لأن السلطة ارتبطت تاريخيا وتحالفت مع فقهاء السلطة، الذين قاموا بدورهم في شرعنة وجودها من خلال تشريع فتاوى تحرم الخروج على ولي الأمر وتؤكد على حرمة الخروج عليه، فالخروج عليه هو خروج على الله.
المفهوم الغربي للدولة
الدولة الحديثة وفق المفهوم الغربي، هي التي تعبر عن الكيان السياسي الذي يضم جماعة بشرية، تعيش ضمن إطار جغرافي وتاريخي وتنظيمي ثابت تمارس سيادتها عليها، وتشمل مكونات الدولة السكان، الإقليم، السلطة. وبذلك تكون الدولة ممتدة لتغطي وتخدم جميع مكوناتها، أما السلطة فليست إلا أحد هذه المكونات ومؤسسة من مؤسسات الدولة الخاضعة للرقابة والمحاسبة والنقد.
وهنا نحن أمام عدة إشكاليات:
أولًا: وجود ثقافة اجتماعية قبلية لا تعي حقوقها، ولا تتقن الثقافة الديمقراطية حتى لو كانوا في دولة ديمقراطية، فهذا لن يغير من الواقع شيئاً لأن المعضلة الحقيقية هي في غياب الثقافة الديمقراطية، وبالتالي، غياب القدرة على ممارستها، وهي ما تستغله كثير من الأنظمة الشبه سلطوية التي يحكمها نظام ديمقراطي، لكن بوجود نظام وراثي بالحكم سمح بوجود برلمان وانتخابات ودستور. يسمح غياب الثقافة الديمقراطية لهذه الأنظمة تجييرها وفق ما تريد بل وتحويلها لسلاح وورقة يمكن من خلالها الهيمنة على مسارات الدولة السياسية والاقتصادية وقراراتها وظاهرها ديموقراطي.
ثانياً: الفهم القبلي للجمهور والذي يتعارض مع مفهوم المواطنة، بالتالي يكرس من نظام القبيلة على حساب نظام الدولة، وتغيب بذلك مظاهر العدالة وتحضر مظاهر العصبيات التي تضيع فيها حقوق بعض المكونات الاجتماعية، نتيجة الممارسات العصبوية التي تمارسها السلطة اتجاهها، وتكسب تأييد أغلب الجمهور تحت دعاوى مذهبية أو قبلية لها مرتكزات في الوعي العام.
ثالثً: صعوبة عملية الاندماج والتعايش بين مكونات الوطن، وهو ما يهدم أطر التعاون ويحول الولاء من الولاء للوطن وهو الجغرافيا الجامعة لهم، إلى الولاء للحاكم وقراراته وأهوائه، وهو ما يخالف حقيقة الانتماء والولاء. ويعمق الهوة بين مكونات المجتمع من جهة وبين الفئة المضطهدة والحاكم من جهة أخرى، ويبدل دلالات المفاهيم بالممارسة إلى دلالات أخرى، تصبح معيارا في التصنيف وفي التعامل.
نظرة إلى الخليج
غالبية الأنظمة في منطقتنا بشكل عام، وفي الخليج بشكل خاص، تقوم على مجموعة من الركائز، وهي:
أولًا: الأسرة الحاكمة أو الشخص الحاكم
ثانيًا: السلطة الدينية ودور الفتوى
ثالثًا: القبيلة والثقافة القبائلية
تتشابك هذه الركائز من خلال امتلاك الجهة الحاكمة للسلطة الاقتصادية والأمنية، وبسط نفوذها من خلال القبضة الأمنية من جهة، والرعوية من جهة ثانية. نظام يعتمد على الهِبات المالية من الحاكم لرعيته، فالشعب يفهم هذا النوع من الأنظمة فهمًا قبليًا عشائريًا يقوم على شيخ القبيلة ورعيته، بالتالي يكون مبدأ العطاء في الدولة يماثل مبدأ العطاء في القبيلة، الذي يثبت من خلاله الحاكم كرمه وحبه للرعية وفي ذات الوقت يشتري بشكل غير مباشر ولاء رعيته، كونه الماسك زمام أمورهم، خاصة الاقتصادية من خلال تمركز معاشهم في وظائف حكومية ترعاها السلطة، فالسلطة هنا بيدها المال والأمن.
تمكن هذه الأنظمة وجودها من خلال سلطة الدين على عقول الناس ودور الفتوى في توجيه سلوكهم وولائهم كما أسلفنا، حيث تكرس هذه السلطة من خلال الفتاوى كعدم جواز الخروج على الحاكم ووجوب طاعة ولي الأمر، تكرس السلطة الأبوية والقبلية بشرعنتها دينيا، وهو ما يعني إعطائها بعدا إلهيا بطريقة غير مباشرة.
رغم ذلك أيضا، تتمايز السلطة في الدول العربية والإسلامية، والخليجية منها خاصة، بين شكلين:
أولًا: سلطوية: تتمركز حول الحاكم، ولا يوجد فيها انتخابات وبرلمان.
ثانيًا: شبه سلطوية: نظامها الحاكم وراثي ولكن يوجد فيها انتخابات وبرلمان.
يناول ناثان ج براون في دراساته الأنظمة الشبه سلطوية باعتبارها “تلك التي تسمح للمعارضة ببعض الحيز لتنظيم نفسها والتنافس، لكنها تنكر عليها أي إمكانية لتشكيل حكومة”. أعتقد، أنها مرحلية بينية وسطى في المراحل الانتقالية من السلطوية الكاملة إلى الديموقراطية. في النظام الشبه سلطوي من الممكن أن تحتل المعارضة فيه أكثر من ٥٪ من المقاعد أي ما يكفي وفق براون لطرح اقتراحات رسمية للتصويت عليها، والانخراط في أعمال لجان ذات جدوى، فحينها قد يعتبر النظام أنه عبر من الحالة السلطوية إلى الحالة الشبه سلطوية.
نلاحظ هنا أن المعارضة غير قادرة على تمثيل إرادة الشعب كما يجب أن يكون في تحقيق المطالب التي تتعلق بمصلحة المواطن وتوزيع الثروات بعدالة، لكن المعارضة أيضاً، ليست مغلولة اليد كليًا عن إحداث أي انزياحات مهمة في مسيرة الاصلاح والتحول إلى دولة دستورية، لكن حراكها هنا يبقى تحت إدارة السلطة، ووفق مصلحتها لا مصلحة الوطن والمواطن غالبًا.
حين تتعرض مصلحة النظام الشبه سلطوي للخطر نجده ينقلب على كل معطيات الدستور والقانون، ويمارس سلطته الرعوية والأبوية في مواجهة أي عمل من شأنه الإضرار بالنسق العام للمنهج المتبع في إدارة البلد، أو في سياساتها القائمة على تحالفات المصالح التي توزع فيها الغنائم وثروة الدولة على أساس تشابك المصالح من جهة، وتنازع الأجنحة من جهة أخرى، ويشكل البرلمان في هذه الدولة وسيلة لتكريس نفوذ السلطة من جهة ولتدجين المعارضة من جهة أخرى، وتحويل مسار مطالب المعارضة من تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الفساد والدفع باتجاه التنمية على مستوى الوطن، إلى عملية كمية تعتمد على كسب الأصوات في الانتخابات، وتحقيق مكاسب ضيقة على مستوى الطائفة أو الحزب أو خلافه.
لا يمكننا هنا إغفال دور الشعب كمصدر للسلطات، والذي بيده عملية المراقبة والمحاسبة والرفض القبول، فصراع إرادات السياسيين حول النفوذ والسلطة هو رهين سكوت الشعب على الفساد، وقبوله بالفتات وعدم امتلاكه أدوات التغيير والمواجهة والمحاسبة، بل تدجينه بطريقة يصبح فيها عاجزا عن المواجهة والتغيير، فتراكم الفساد بشكل متقادم دون مواجهة حقيقية له، هو نتاج طبيعي لتهاون الشعب ولسكوته وقبوله بتلك الصراعات على حساب استقرار البلد ومستقبل الأجيال.
لذلك نجد الدول الشبه سلطوية تحت ظروف الضغط الشعبي، تنقلب إلى دولة سلطوية قمعية، للحفاظ على نفوذها وتمكنها من ثروات البلد، بعيدا عن رغبات الشعب في الاصلاح والتوزيع العادل للثروات.
أما حال الدستور في هذه الدول الشبه سلطوية، فهو في الفهم الأممي مظلة لكل القوانين، ولكن في الفهم المرتكز في الدول العربية الشبه سلطوية، هو أداة يتم استخدامها غالبا واللجوء إليها في حال احتاجت الحكومة أو النظام الحاكم إليه كوسيلة لمواجهة الخصوم بطريقة قمعية لكن تحت مظلة الدستور، وما أعنيه بالقمعية، أن بعض هذه الأنظمة الشبه سلطوية ونتيجة تغولها وتوغلها في المؤسسات كافة، ووجود رجالات في مؤسساتها موالين لها، فهي تلجأ لهذه المؤسسات الدستورية التي تقوم بتفسير مواد الدستور بما يصب في صالح السلطة، ويواجه بعض المعارضين أمام المجتمع مواجهة شكلها قانوني دستوري، وحقيقتها تصفية حسابات يستخدم الدستور فيها أداة وليس مظلة للجميع، فتفسير الدستور يخضع غالبا لأهواء الشخصيات المتخصصة في تفسير الدستور وولاءاتها.
في الكويت مثلاً، نجد هذه المعضلة حاضرة وبقوة في تفسير مواد الدستور عندما تقع خصومة بين البرلمان والحكومة، أو الحكومة والمعارضة. وعلى ضوء ممارسات الأنظمة الشبه سلطوية، والدول التي وضعت دستور يعتبر ناثان براون أن “أغلب دساتير الوطن العربي، إن لم يكن كلها، دساتير على ورق”، وألف بهذا الشأن كتابًا يستحق القراءة عنونه بهذا العنوان تحديدًا “دساتير على ورق”.