اقتصاديات الخليج: تحديات ما بعد الكورونا

تواجه دول الخليج أوضاعاً اقتصادية مختلفة بعد انتهاء أزمة تفشي وباء “كورونا”. الأسواق النفطية أصبحت، معظم الوقت، أسواق “مشترين” بعد تراجع الطلب واضطرار منظمة أوبك ومصدرين أساسيين تخفيض الإنتاج بنسب كبيرة. 

تواجه الإقتصادات الرئيسية ركودًا طويلًا بعد أن تعطلت الأعمال لشهور وأصبحت الكثير من منشآت الأعمال تواجه خيارات الإفلاس والتصفية. 

هل يمكن لدول الخليج أن تواجه العجوزات القياسية في موازناتها السنوية بعد تراجع أسعار النفط وإنخفاض الإيرادات النفطية؟ وما هي مصادر الإيرادات الأخرى التي يمكن أن تعوض تراجع الإيرادات النفطية؟ ثم هل يمكن لإقتصادات بلدان الخليج التي اعتمدت على فلسفة الإقتصاد الريعي لعقود طويلة أن تفعل النشاط الإقتصادي الكلي عندما تضطر لتخفيض، أو ترشيد، الإنفاق الحكومي أو العام؟ ماذا عن سوق العمل بعد أن تبين لدولنا مضار الإعتماد على عمالة وافدة متدنية المهارات وفقيرة ومتدنية الإجور وتعيش في هذه البلدان، بلدان الخليج، في ظل أوضاع معيشية وبيئة صحية غير ملائمة؟

لا شك أنها أسئلة صعبة وليس من اليسير الإجابة عليها بسلاسة. دفعت أزمة وباء الكرونا بتحولات معيشية وسلوكية في مختلف بلدان العالم، وسوف يكون لها بصمات واضحة على الإستهلاك الشخصي والعائلي والمؤسسي والحكومي بما قد يؤثر على معدلات النمو الإقتصادي. 

هناك الكثير  من الوحدات الإقتصادية في العديد من الأنشطة الرئيسية التي سوف تغيب لأسباب عديدة. هناك، مثلًا، قطاع الطيران والنقل، الذي يعاني من تراجع حركة السفر والإنتقال وتطور الإجراءات الصحية والأمنية بما لا يحفز الكثيرين على الإنتقال أو الرحلات، ناهيك عن إجراءات التباعد الإجتماعي والتي تؤكد أهمية تقليل المقاعد في الطائرات والقطارات ووسائل النقل العام بما يدفع إلى رفع التكاليف على الزبائن. هذا القطاع سوف يتراجع وينخفض طلبه على النفط، وربما الغاز الطبيعي. أما قطاع الفنادق والمنتجعات فلن يكون أفضل حالاً عندما تتراجع أعداد الوفود السياحية وتنخفض رحلات رجال الأعمال حيث سيتم الإعتماد على اللقاءات والمؤتمرات عبر الإتصالات الإلكترونية وربما تحاول المنشآت السياحية الترويج لأعمالها من خلال أليات متنوعة ولكن الضرر سيظل قياسيًا. 

يجب أن لا ننسى قطاعات المطاعم والمقاهي التي ستُفرض عليها إجراءات مثل تقليل المقاعد والطاولات وأعداد الزبائن. مثل هذه التحولات والإجراءات المستجدة سوف تنال من أوضاع القطاع العقاري أيضًا.

ما نحن بصدده، هي متغيرات في الطلب الإستهلاكي والخدمي في معظم الأنشطة الإقتصادية وترشيد “قسري” للسلوكيات الإستهلاكية لدى البشر. لاشك أن هذه الأوضاع سوف تؤثر على الطلب المتعلق بالطاقة وما يخص مشتقات النفط وستخلق إهتمامًا أكبر بالطاقة النظيفة وتحسين ظروف البيئة من أجل الوقاية من الأمراض والأوبئة. كيف يمكن لدول الخليج أن تضمن إستمرار الطلب على النفط؟ وهل يمكن أن تتكيف مع التحولات الإقتصادية المتوقعة، والتي ربما كانت متوقعة قبل هذا الوباء ولكنها تتسارع بخطى حثيثة بعده؟ 

غنيٌ عن البيان أن تراجع  أسعار النفط منذ عام 2014 بات أمراً هاماً بعد أن تبين أن ذلك التراجع أصبح طويل الأجل Secular وليس موسمياً Cyclical أو دورياً. ويتعين على الإدارات الإقتصادية في بلدان الخليج أن تستوعب الحقائق الموضوعية وتتعامل معها من خلال إنجاز تعديلات هيكلية على السياسات المالية وإحداث تحولات بنيوية في الحياة الإقتصادية.

بدأت بلدان خليجية منذ سنوات قليلة بإتخاذ إجراءات من أجل زيادة مستويات الإيرادات غير النفطية مثل تحصيل ضريبة القيمة المضافة على مبيعات السلع والخدمات، خصوصاً الكمالية وغير الأساسية منها، وكذلك رفع رسوم الخدمات الحكومية وخدمات المرافق مثل الكهرباء والمياه، ومن هذه البلدان عمان والسعودية والإمارات والبحرين، ولا بد للكويت وقطر أن تفعٌل ذات الأليات في المستقبل القريب وتعديل أو ترشيد مخصصات الدعم في الميزانيات القادمة.

تتطلب هذه السياسات الجديدة وعيا من الناس، المواطن بشكل خاص، ورفع جرعة المسؤولية المجتمعية بما يعزز نجاح الإصلاح الإقتصادي. يمكن الزعم بأن تخفيف دور الدولة في ملكية وإدارة أنشطة إقتصادية عديدة، سواء في القطاع النفطي وفي القطاعات الأخرى غير النفطية، من خلال برامج التخصيص يمكن أن يُمكِّن من إخضاع القطاع الخاص لنظام ضريبي متوازن يساهم في تحصيل إيرادات غير نفطية للخزينة العامة. 

بطبيعة الحال تتطلب أنظمة الضرائب معرفة وخبرة وإدارة حكومية ذات كفاءة بما يساهم على تحصيل الضرائب دون تجاوزات. ربما تساعد التقنيات والبرمجيات الحديثة على تطوير أنظمة ضريبية متقنة وغير معقدة، وغير مكلفة أيضًا. بيد أن ما  يمكن التأكيد عليه هو أن قوانين الضرائب وألياتها أصبحت ضرورية ومهمة من أجل إصلاح السياسات المالية والإقتصادية.

لا يعني ترشيد الإنفاق تخفيضاً في كافة النفقات، لابد أن الإنفاق على قطاعي الصحة والتعليم بات ملحاً من أجل الإرتقاء بالمستويات والجودة وتعزيز عمليات الوقاية في قطاع الرعاية الصحية وكذلك توفير مخرجات من النظام التعليمي تتوافق مع إحتياجات سوق العمل. 

وإذا كان ترشيد السياسات المالية من الأهمية بمكان فإن إصلاح سوق العمل ومن ثم التركيبة السكانية يمثلان أهمية حيوية بعد الإنكشاف غير المقبول أثناء أزمة وباء كورونا. لا تزال الإقتصادات الخليجية تعتمد على عمالة وافدة، خصوصاً في أعمال القطاع الخاص، كما أن القطاع المنزلي يحوي عمالة وافدة كبيرة. الأهم من ذلك أن الغالبية العظمى من العمالة الوافدة تضم عمالة هامشية متدنية التأهيل التعليمي والمهني وقد تبلغ نسبة هذه العمالة الهامشية ما يربو على السبعين في المئة من إجمالي العمالة الوافدة في عدد من بلدان الخليج. كما أن أنظمة الكفيل المتبعة في هذه البلدان عززت من التحايل وتجاوزات تجار البشر من الكفلاء. ولذلك، أصبح من الأهمية إلغاء نظام الكفيل وتطوير أنظمة مشروعة تمكن العامل الوافد من العمل دون الخضوع للأتاوات والإبتزاز وبحيث يكون تواجده في البلاد مرهوناً بمتطلبات سوق  العمل الحقيقية.

الأهم من ذلك، هو إن إصلاح أوضاع سوق العمل يستوجب تعزيز مساهمة العمالة الوطنية في أعمال القطاع الخاص بدلاً من تكديسها في دوائر الحكومة ومؤسسات القطاع العام بما يكرس البطالة المقنعة ويرفع من تكاليف الرواتب والإجور في الموازنات الحكومية. إصلاح التعليم يظل المرتكز الأساسي لإصلاح سوق العمل ورفع مساهمة العمالة الوطنية. 

التعليم في عدد من بلدان الخليج ظل لعقود طويلة يعتمد على فلسفة نيل الشهادات الجامعية والعليا من أجل الإرتقاء في السلم الوظيفي في حين إن المطلوب هو توفير مهارات مهنية بين المواطنين في مختلف الوظائف والحرف وتوفير عمالة الياقات الزرقاء المتمكنة من أداء مختلف المهمات العملية في القطاعات الإقتصادية المتنوعة. وعندما يكون عدد سكان الخليج ما يزيد عن 55 مليون نسمة يمثل الوافدون، من غير المواطنين، أكثر من 51  في المئة من إجمالي السكان فإن ثمة خللاً في هذا الواقع الديمغرافي. وتتراوح نسبة المواطنين 11 في المئة في دولة الإمارات إلى 63 في المئة في السعودية. لا شك أن هذا الخلل الكبير ناتج عن طبيعة أوضاع سوق العمل حيث لاتزال نسبة العمالة الوطنية متدنية وهي تتراوح بين 5 في المئة في قطر و 43 في المئة في السعودية. يتضح إذاً، أهمية إصلاح سوق العمل والأنظمة التعليمية في أي مخططات للإصلاح الإقتصادي.

منشورات أخرى للكاتب