الكويت وكورونا: الخسائر كارثية والدرس أمامكم

ونحن نعيش تداعيات آفة كورونا، أو حتى بعد تجاوزها، تبرز تبعات اقتصادية عدة تواجه مختلف بلدان العالم، المتطورة أو النامية، على حد سواء. في الكويت، نواجه تبعات هامة ومؤلمة بما يؤكد ضرورة الإستعداد لها ووضع خطط لمواجهتها والاستفادة من دروسها.

ثمة شكوك في أن الكويت ستستفيد من هذا الدرس الذي نمر به وأننا سنتناسى هذه الدروس بعد أن تعود الأمور إلى طبيعتها، وهو ما حدث بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي الغاشم قبل نحو 30 عاماً. هناك حقائق لا يمكن تجاوزها، أدى وباء كورونا المستجد إلى تراجع أسعار النفط وأصبحت الإمدادات تفوق حجم الطلب وعجزت الخزانات الإستراتيجية في الولايات المتحدة وأوروبا عن استيعاب كميات النفط وأصبحت الناقلات تدور في البحار باحثة عن موانىء تستقبل حمولاتها. ورغم أن دول الأوبك والدول الأخرى، ومنها روسيا، قد قررت خفض الإنتاج اليومي بمقدار 9.6 مليون برميل إعتباراً من الأول من مايو/أيار الجاري، لا تشير أوضاع سوق النفط بأنها ستدفع الأسعار إلى الارتفاع في وقت قريب.

وبناءًا على ما سبق، تبدو أحوال “المالية العامة” مضطربة و”الميزانية العامة” للدولة مُعرضة لتحقيق عجز كبير يفوق العجز المقدر لميزانية 2021/2020. يمثل التراجع في إيرادات النفط أهمية كبيرة للإقتصاد الكويتي، يضاف إلى ذلك التراجع الذي يشمل كافة الأنشطة الإقتصادية الأساسية مما أدى إلى تدهور أوضاعها وتدني إيراداتها بل وبما يمكن أن يؤدي إلى إفلاس العديد من الوحدات الاقتصادية في قطاعات عديدة.

سيد المحاور: الإنفاق العام

يعتمد الاقتصاد الكلي على الإنفاق العام من خلال بنود الميزانية العامة للدولة. وتعتمد مختلف القطاعات الاقتصادية على ذلك الإنفاق حتى تتمكن من تحقيق نتائج إيجابية من أعمالها. يمثل بند الرواتب والأجور أهم ممول للاستهلاك الخاص حيث تعتمد الأنشطة الخدمية والتوزيع السلعي على مشتريات المواطنين الكويتيين بالدرجة الأولى. ويعتمد هؤلاء على رواتبهم التي تدفعها الدولة إن كانوا موظفين في دوائر الحكومة أو مؤسسات القطاع العام أو دعم العمالة التي تقدمه الدولة للكويتيين العاملين في القطاع الخاص. قد لا تتأثر هذه الرواتب والأجور كثيراً حيث أن الحكومة عازمة على حماية حقوق المواطنين العاملين وقد تقوم بتوفير الأموال لمواجهة هذه الإستحقاقات من خلال آليات وأدوات ومنها الاقتراض وتحمل دين عام كبير في ظل تراجع الإيرادات النفطية. أيضًا، هناك الإنفاق الرأسمالي والذي يدعم أعمال مؤسسات القطاع الخاص من خلال التعاقد لإنجاز أعمال ومشاريع حكومية أو مشتريات تتطلبها أعمال الحكومة.

قد نفترض أن الحكومة ستعمد إلى ترشيد مخصصات المشاريع وإعادة النظر في مشاريع لم يتم التعاقد عليها بعد. وبذلك، يتم تخصيص أموال أقل للإنفاق الرأسمالي. قد يتأثر الجانب الإستهلاكي بالمتغيرات الإجتماعية والسيكولوجية التي نتجت عن تجربة الحياة في ظل “حظر الكورونا” وربما تتغير عادات وأنماط حياتية متنوعة مثل إقتناء سلع وبضائع كمالية أو القيام بسفرات خلال إجازات الأعياد والعطل التقليدية أو حتى زيارة المطاعم والمقاهي.

من المهم الإقتناع بأن الأوضاع الإقتصادية في مختلف بلدان العالم سوف تتبدل بأشكال عديدة. وعندما يكون إقتصادنا مكشوفاً على العالم فلا بد أن نتأثر بدرجة لا يستهان بها. الإقتصاد الكويتي يعتمد على تصدير النفط الخام ويخضع لمتطلبات أوضاع العرض والطلب في أسواق النفط وما تقرره “أوبك” والمصدرون الرئيسيون. كذلك ونظراً لكون الكويت تمتلك صندوق ثروة سيادي يستثمر في الأسواق المالية الدولية وفي إستثمارات متنوعة أخرى في بلدان متطورة ونامية، فإن ما يحدث في تلك الأسواق والإقتصادات لا بد وأن يؤثر على قيم استثمارات الصندوق السيادي، وكذلك على الأرباح المتوقعة من تلك الإستثمارات. إذاً يتعين على الإدارة الإقتصادية أن تأخذ بنظر الإعتبار تلك المتغيرات المحتملة والتي يمكن إفتراض بإنها متغيرات غير مواتية ويمكن أن تحد من الإيرادات النفطية والإيرادات من الإستثمارات الخارجية. 

ماذا يعني ذلك؟ هناك أهمية لتأكيد قناعة سياسية ومجتمعية بأن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل أن يجتاح وباء كـورونا عالمنا. لن يكون يسيراً أن نستأنف الحياة الإقتصادية بموجب القيم والمفاهيم التي سادت في البلاد قبل هذا الوباء. 

نعلم الآن بأن أسعار النفط تراجعت إلى ما دون العشرين دولاراً للبرميل، ومن الصعب التكهن بإرتفاع الأسعار إلى ما يفوق الأربعين دولاراً للبرميل خلال مدى قصير. لقد كانت الميزانية تعاني من العجز خلال السنوات القليلة الماضية، وعندما تم الإعداد للميزانية الحالية 2021/2020 تم افتراض أن سعر النفط الكويتي سيكون في حدود 55 دولاراً للبرميل ولذلك كان التوقع أن يكون العجز 9.6 مليار دينار، فما هو العجز في ظل الأسعار الراهنة؟ لا شك أنه كبير!

التركيبة السكانية: أزمة متجددة

منذ بداية التعامل مع أزمة كورونا انكشفت الأوضاع غير السوية في التركيبة السكانية. وبموجب بيانات الهيئة العامة للمعلومات المدنية في نهاية العام الماضي 2019، هناك 4.8 مليون نسمة في الكويت بينهم 1.4 مليون كويتيًا و3.4 مليون من غير الكويتيين. أما المسكوت عنه ولأمد طويل، هو أن الكويتيين في سوق العمل لا يمثلون سوى 16 في المئة من إجمالي العمالة في البلاد، العمالة الوافدة تشمل ما نسبته 70 في المئة العمالة الهاشمية غير المؤهلة مهنياً وتعليمياً. الأفدح من ذلك، تزيد العمالة المنزلية عن 700 ألف وهناك عمالة هامشية تم جلبها إلى الكويت من قبل تجار الإقامات الذين يتقاضون أتاوات باهظة من فقراء العمال من خلال شركات وهمية لا توجد أعمال وأنشطة حقيقية تمارسها. يضاف إلى ذلك أن الأوضاع المعيشية لعدد كبير من العمالة الوافدة التي تعمل لدى مؤسسات القطاع الخاص تعتبر أقل من الحدود الدنيا الضرورية الملائمة لحياة الآدميين. 

هل يمكن الإستمرار مع هذه الأوضاع التي لا يمكن القبول بها؟ لا تؤثر هذه الأوضاع في حياة ومعيشة هؤلاء التعساء فقط، بل هي تضر بحياة الكويتيين أنفسهم.

هذه الحقائق يجب أن تكون أساساً لفلسفة التغيير. لا يمكن الاستمرار بذات السياسات المالية التي تعتمدها الحكومة منذ أمد طويل. حان الوقت لمواجهة الأمور وترشيد الإنفاق أو العمل على خفض الإنفاق من مستواه الحالي الذي يتجاوز 22 مليار دينار. أما الإيرادات فلا يمكن التعويل عليها لتمويل الإنفاق دون تحقيق عجز كبير.

إذا كان هناك من ضرورة لرفع مستوى الدين العام، وهو لاشك بات ضروريًا لمواجهة العجز خلال الأمد القصير، فلابد من إبتكار آليات لمواجهة استحقاقات ذلك الدين خلال أمد معقول. لا بد أيضًا من ابتداع أدوات لتمويل الخزانة العامة مثل اعتماد ضريبة القيمة المضافة وتعديل رسوم الكهرباء والمياه بموجب نظام الشرائح الاستهلاكية وإعادة النظر في الرسوم على استخدام الأراضي بموجب نظام حقوق الانتفاع وتعديل سياسات الدعم المتنوعة. أما ما هو مطلوب بشكل هام هو دراسة إمكانية فرض ضرائب على الدخول المرتفعة والضرائب على الأرباح الرأسمالية، هناك مقترحات قديمة يمكن بث الروح فيها، قد لا تجد هذه المقترحات قبولاً في المجتمع السياسي لكن ليس هناك بدائل متنوعة لمعالجة أوضاع المالية العامة سوى تلك الآليات والأدوات.

هناك أهمية للاستفادة من دروس هذه المحنة والتأكيد على أهمية تطوير التعليم والرعاية الصحية وتطوير التعليم وتوفير مخرجات التعليم المناسبة لسوق العمل وتعزيز التعليم المهني وتحفيز المواطنين للانخراط في نظام التعليم المهني ومعالجة فلسفة القبول في الجامعات وأنظمة البعثات المحلية والأجنبية بما يعزز توجيه الطلبة إلى التعليم المهني. أصبح ضروريًا أن يفهم الكويتيون بأن البلاد تحتاج إلى عمالة وطنية متمكنة في مختلف المجالات المهنية ولم يعد بالإمكان الإتكال على عمالة وافدة كبيرة.

وبموازاة هذه التطوير للنظام التعليمي يجب أن تسخر التقنيات الحديثة من أجل تقليص الإعتماد على العمالة الهامشية الوافدة، سواء في مؤسسات القطاع الخاص أو في مساكن المواطنين.

نحن أمام إمتحان تاريخي وعلينا أن ننجح فيه. أمضينا سنوات طويلة نطالب بالإصلاحات الإقتصادية الهيكلية وتعديل التركيبة السكانية دون أن ننجز شيئاً. اليوم، نواجه أمورًا مُستعصية في ظل وباء عالمي. هل يمكن أن نوظف الأزمة الراهنة من أجل إنجاز تلك الإصلاحات المُعطلة؟ هذا ما يجب علينا أن نحققه معتمدين على أن الإمور لا يجب أن تعود إلى ما كانت عليه قبل هذا الوباء.

 قد لا تكون الأمور يسيرة لتحقيق ذلك في ظل الذهنية السياسية السائدة في البلاد إلا أن الاستمرار في الفلسفة الإقتصادية والسياسية الراهنة سوف يكون مُكلفاً على البلاد بعد المتغيرات التي حدثت وسوف تحدث في الفضاء العالمي وإقتصاديات مختلف البلدان. 

قد يتطلب الأمر عقد مؤتمر وطني يضم مختلف منظمات المجتمع المدني والفئات السياسية والمسؤولين في الدولة من أجل بلورة مفاهيم وطنية جديدة تحدد المسار الاقتصادي الجديد والذي لابد أن يكون بعيداً عن الممارسات الريعية التي انتُهجت على مدى عقود سبعة مضت. هذه المفاهيم الجديدة بعد بلورتها يجب أن تكون النبراس الذي نعتمد عليه في صياغة السياسات والبرامج الاقتصادية في المستقبل القريب.

منشورات أخرى للكاتب