الويلسونية الواقعية كنهج جديد للتعامل مع إيران

الويلسونية الواقعية مفهوم ابتدعه المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما سنة 2005م في سياق نقده لحرب العراق ولفكر المحافظين الجدد الذين هيمنوا على إدارة الرئيس بوش الابن، وشرح فوكوياما مضامين أطروحته الجديدة في كتابه “أمريكا على مفترق الطرق: ما بعد المحافظين الجدد”، وهو الكتاب الذي أعلن من خلاله فوكوياما طلاقه مع تيار المحافظين الجدد الذي كان يمثل أحد أقطابه.

تقوم الويلسونية الواقعية التي دعا إليها فوكوياما كنهج جديد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية على مجموعة من الأسس، فهي تختلف وتتقاطع مع المدارس الفكرية المتسيدة في الولايات المتحدة في مجموعة من المبادئ والأفكار المؤطرة لاشتغالها. وهي السياسة التي يمكن للولايات المتحدة نهجها في التعامل مع إيران في خضم الصراع الإقليمي الذي يمر منه الشرق الأوسط، والتهديدات المتتالية بإمكانية قيام نزاع مسلح بين إيران والولايات المتحدة أو أحد حلفائها الإقليميين، وعلى رأسهم السعودية.

وأهمية الويلسونية الواقعية كنهج في التعامل مع إيران يرجع للأفكار التي تدافع عنها هذه الأطروحة التي جاء بها فوكوياما.1. الاهتمام بالواقع الداخلي للدول: 

إن أول شيء تهتم به الويلسونية الواقعية هو الواقع الداخلي للدول، ومن هذا المنطلق فالولايات المتحدة مطالبة بأن تدرج ضمن سياساتها الخارجية العناية القصوى بواقع الدول الداخلي، ذلك أن أكبر مصدر للتهديد الدولي هي الدول الضعيفة أو الفاشلة، وهي الدول التي تتحول لمركز جذب لمختلف القوى الإجرامية والإرهابية التي تجعلها مقرًا ومنطلقًا لأعمالها الإجرامية.

ومن خلال تجربة العراق بعد إسقاط صدام حسين وفشل الولايات المتحدة في إقامة نظام ديمقراطي كما كانت تدعي إدارة الرئيس بوش، ترى الويلسونية الواقعية أن الهندسة الاجتماعية الطموحة صعبة جدا، ذلك أن التجربة العراقية الفاشلة أسقطت كل الأوهام التي ساقتها إدارة بوش الإبن حول سهولة إقامة مؤسسات ديمقراطية بعد إسقاط صدام حسين، بحيث كان أقطابالمحافظين الجدد يروجون بأن نظام حسين يشكل العقبة الرئيسة أمام تحول العراق لدولة ديمقراطية. فترويج التنمية السياسية والاقتصادية يقتضي صبرًا هائلًا بالنظر لما يتطلبه الانتقال الديمقراطي من مؤسسات صلبة، وتأهيل المجتمع المدني لتوفير الظروف الممكنة من أجل انتقال ديمقراطي ناجح.

وفي نظرة إدارة الرئيس ترمب للواقع الإيراني يبدو أنها لا تلقي بالًا لقضايا الديمقراطية وتطلعات الشعب الإيراني نحو الحرية، بقدر ما تهتم بإبرام صفقة جديدة مع النظام الإيراني يتم من خلالها الاستجابة لطلبات الرئيس ترمب الذي يريد تحويل إيران لجزء من الدول التي تدور في الفلك الأمريكي بغض النظر عن طبيعة نظامها السياسي. وفي هذا الباب تبدو إدارة ترمب متأثرة بأفكار الواقعيين التقليديين الذين لا يلقون بالًا للواقع الداخلي للدول. 

وقد عبر ترمب بشكل علني عدة مرات عن عدم مبالاته بالديمقراطية وحقوق الإنسان بقدر اهتمامه بتحقيق المصالح الاقتصادية الأمريكية، وهو النهج الذي يتبعه في مقاربته للشأن الإيراني؛ غير أن الويلسونية الواقعية تدعو للاهتمام بالواقع الداخلي للدول، وفي التجربة التاريخية الإيرانية فقد أدت الولايات المتحدة ثمن دعمها لشاه إيران وعدم اهتمامها بدعم الديمقراطية في عهده، مما أدى في الأخير لفقدانها لحليف استراتيجي في المنطقة، وتحول إيران لخصم للولايات المتحدة في المنطقة.2. عدم الرهان على الحرب الوقائية:

كان من نتائج اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2011 تبني الولايات المتحدة لعقيدة الحرب الوقائية، والتي على أساسها تم إسقاط نظام صدام حسين، والفرق بين الحرب الإستباقية والحرب الوقائية وفقا لفوكوياما هي أن الأولى “جهد يبذل لقطع هجوم عسكري وشيك” أم الثانية فهي “عمليات عسكرية مصممة لتسد الطريق على تهديد يبعد شهورًا أو سنوات من التجسد ماديًا”.

وبالرغم من أن الويلسونية الواقعية تؤكد على أن الحرب الوقائية لا يمكن استبعادها من الطاولة بوصفها “إجراء متطرفا جدا”، إلا أنها في المقابل تعتبر أن هذا النوع من الحرب ليست بالخيار الصائب لعدة اعتبارات:- إن تدمير أي برنامج لأسلحة الدمار الشامل وتكرار تجربة القصف الإسرائيلي لمفاعل “أوزيراك” العراقي أصبح من الناحية العملية صعبا للغاية.- قد تؤدي الحرب الوقائية إلى نتائج عكسية، وعوض أن تردع الدول عن امتلاك أسلحة الدمار الشامل، قد تشكل حافزا لها لامتلاك ذلك النوع من الأسلحة (نموذج كوريا الشمالية)، “فالاستباق يبطئ انتشار أسلحة الدمار الشامل، لكنه لا يوقفه”.- إن أي عمل استباقي لوقف امتلاك سلاح نووي يجب أن يسبقه النظر في نتائجه السياسية، وقد أعطى فوكوياما مثالا بحالة إيران وإمكانية أن يؤدي أي عمل استباقي إلى نتائج سياسية عكسية، ذلك أن “قسما مهما من سكان إيران يعارض نظام الحكم، وهو ميال بشكل جيد إلى اتخاذ موقف ودي من الولايات المتحدة، ولكن قسما من هذه المعارضة قومي تمامًا، وقد يفضل بالفعل إيران أكثر ليبرالية تمتلك أسلحة نووية، وأن ضربة عسكرية على المنشآت الإيرانية ربما قد تخفض هذه المعارضة وتصيب آمال الإصلاح الداخلي بالنكسة”.

واليوم يبدو أن جزءًا مؤثرًا من إدارة الرئيس ترمب يقوده وزير الخارجية مايك بومبيو يميل بشدة لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، كما أن ترمب نهج منهجًا متشددًا تجاه إيران بفرضه عقوبات اقتصادية قاسية، كانت لها تبعات فادحة على الاقتصاد الإيراني، وتسببت في احتجاجات واسعة في إيران، وهو ما من شأنه أن يدفع بالنظام في سياق تجاوزه لتناقضاته الداخلية للإقدام على عمل عسكري ضد أهداف أمريكية بالمنطقة، يقابله رد أمريكي، الأمر الذي سيتم تسويقه لتقوية شرعية النظام المأزوم في طهران، خصوصا مع التجربة التاريخية الإيرانية في علاقتها مع الولايات المتحدة زمن الشاه.

بعد أن تخلت إدارة بوش الابن في ولايتها الثانية عن خيار الحرب الوقائية لتغيير أنظمة الحكم تحت تأثير التجربة المريرة في العراق، فإن أي تكرار للأمر من قبل إدارة ترمب في إيران قد تنتج عنه نتائج أسوأ من تلك التي خلفها إسقاط صدام حسين، بالنظر لطبيعة النظام الإيديولوجية وقوته العسكرية وحلفائه في المنطقة.      3. عدم تجاهل المؤسسات الدولية:

تبرز أهمية الويلسونية الواقعية كنهج للتعامل مع الموضوع الإيراني في كونها تدعو لعدم تجاهل المؤسسات الدولية وضرورة العمل معها لحل المشاكل والأزمات الدولية. فبالرغم من إقرارها بأن الدول ستبقى الفاعل الرئيس على الصعيد الدولي إلا أنها في المقابل تدعو الولايات المتحدة للعمل من خلال المؤسسات الدولية. 

لقد تبين من خلال غزو العراق عدم اكتراث من قبل إدارة بوش الابن وازدرائها للمؤسسات الدولية التي تمثل الشرعية الدولية، وعدم اكتراثها للرأي العام الدولي الذي كان ساخطًا ورافضًا لغزو العراق، وهو الغزو الذي أسهم في عزلة دولية للولايات المتحدة باعتبارها دولة متمردة على المجتمع الدولي ومؤسسات الشرعية.

كما أن الويلسونية الواقعية بالرغم من إيمانها بأهمية القوة لمجابهة التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها الولايات المتحدة، إلا أنها تؤمن بضرورة احترام الشرعية الدولية والعمل من خلال المؤسسات الدولية، وهي العملية التي تعتمد على الدبلوماسية والإقناع وليس على القوة العسكرية.

والملاحظ أن الإدارة الأمريكية تكرر أخطاء إدارة بوش الإبن بل وبشكل أسوأ، فهي إدارة بلغت مرحلة متقدمة في ازدرائها للمؤسسات الدولية، عبر الانسحاب من بعضها كمنظمة اليونيسكو والمجلس الدولي لحقوق الإنسان، وتهديد بعضها الآخر، كما فعل جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق حين هدد باعتقال قضاة ومدعي عام المحكمة الجنائية الدولية في حال لاحقت المحكمة مواطنين أمريكيين أو حلفائها وفي مقدمتهم إسرائيل، بل إن الازدراء الأمريكي وصل لمنظمة مثل حلف شمال الأطلسي.

وفي الموضوع الإيراني تم إلغاء الاتفاق النووي من قبل ترمب بالرغم من المشروعية الدولية التي حازها الاتفاق، وبالرغم من ما خلفه قرار ترمب من رفض وتذمر دولي حتى من أقرب حلفاء الولايات المتحدة.

لذلك فالمطلوب اليوم وفقا للويلسونية الواقعية هو حفاظ الولايات المتحدة على الاتفاقيات الدولية وفي مقدمتها الاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي حظي بقبول واعتراف دوليين، لأن ما أقدم عليه ترمب من شأنه تقويض أي اتفاق توقعه الولايات المتحدة مستقبلا، فالرسالة السلبية التي تم التقاطها من قضية إلغاء الاتفاق النووي هي أن احترام الاتفاقيات الدولية في نهاية المطاف خاضع لأهواء وتوجهات ساكن البيت الأبيض.

خاتمة:

أمام الأزمة التي تشكلها إيران اليوم، وتبعاتها الخطيرة على منطقة الشرق الأوسط والعالم، وهي الأزمة المقبلة على كل الاحتمالات بما فيها خيار المواجهة العسكرية، تعتبر الويلسونية الواقعية كما سطرها فوكوياما مدخلا جديدا للتعامل مع هذه الأزمة وتجاوز أي احتمالات كارثية قد يخلفها أي تعاطي متهور معها.

منشورات أخرى للكاتب