العراق المطلوب ألا يتغير فيه شيء!
في واحدة من صور السخرية السياسية المرّة، يتداول العراقيون طرفة أن الحكومة العراقية الُمنتظر تشكيلها، لو اجتازت كل الاشتراطات المعلنة والمؤهلات المطلوبة لرئيس الحكومة والوزراء، فستكون حكومة ملائكة!
وبحسب أسس المحاصصة، المذهبية والعرقية التي تتحكم في تأليف أية حكومة عراقية منذ العام ٢٠٠٣، فإن الخروج بتشكيلة وزارية يتطلب خوض مارثون شاق وموازنات غاية في التعقيد، تؤثر في النهاية على شكل ونوع وكفاءة ونزاهة الحكومة ووزرائها.
الأمر لم يعد مقتصراً على مجرد تغريدة على تويتر للسفير البريطاني في بغداد، جون ويلكس، يتحدث فيها عن تفاهمات بريطانية أميركية إيرانية لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة، ولا على لقاءات شبه علنية لقائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني مع مختلف الأطراف العراقية، ولا على ترغيبات وترهيبات المبعوث الامريكي لشؤون العراق بريت ماكغورك، فليس سراً أن الحكومات العراقية اليوم، هي نتاج تلاقي أو تضاد مصالح إقليمية ودولية تتنافس على واحدة من أكثر بقاع الدنيا غنىً في الثروات والتأثير الجيوسياسي.
وكما أن المؤثر الأقليمي والدولي (بمصالحه الاستراتيجية والنفطية) حاضر بقوة في أية ترتيبات لتشكيل الحكومة المقبلة، فإن مؤثرات أخرى تحدد شكل الحكومة ورئيسها وطبيعتها، مثل رأي النجف الذي لم تمرر أية تشكيلة حكومية منذ نحو عقد ونصف من دون (الاستئناس) برأي المرجعية الدينية فيها، لا سيما وقد حددت هذه المرجعية جملة اشتراطات سيكون من الصعب التغاضي عنها مثلما سيكون تنفيذها كالمهمة المستحيلة كأن يكون رئيس الحكومة مستقلاً وقوياً وحازماً ونزيهاً، ومُجرباً لم يجرب!
ومثل النجف، فإن للـ (الحنانة) معقل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في مدينة الكوفة، رأي وثقل كتلته الفائزة عملياً بأعلى عدد من المقاعد والتي لولا سنُة انتخابات العام ٢٠١٠ التي سّنتها المحكمة الاتحادية في ان تكون الكتلة التي تؤلف الحكومة هي الاكبر تشكلاً داخل قاعة البرلمان لا التي تفوز بأعلى المقاعد، لكانت (سائرون) بزعامة الصدر هي التي ستشكل الحكومة، وأياً يكن فإن عدم الاستماع لصوت الحنانة سيكلف شركاء العملية السياسية أثماناً باهظة ليس أقلها تحريك الشارع، أسهل وسائل الصدر وأكثرها خلطاً للأوراق.
ويلعب الكرد بعلاقاتهم الدولية وخبرتهم في إدارة الأزمات، دوراً محورياً في رسم الملامح العامة لأية حكومة عراقية، هم يستطيعون موحدين أو متفرقين تغيير البوصلة بالاتجاه الذي يعتقدون أن فيه مصلحة كردية آنية أو مستقبلية.
الخلافات الشيعية البينية
وفوق كل هذا وذاك، فإن التداخل وعدم الوضوح في واحدة من أكثر عمليات تشكيل الحكومات في العالم تعقيداً، لا يقفان عند حد أطراف داخلية وخارجية مؤثرة أو متفاعلة في المشهد السياسي العراقي، بل إن الأمر يزداد حدة داخل القوى الشيعية المُتفق محاصصياً على أن لها رئاسة الوزراء، فحلفاء الدرب السابقين وبعد أن ذاقوا طعم السلطة وامتيازاتها، أخذت تتباعد الشقة بينهم شيئاً فشيئاً حتى تجاوزات الخلافات الشيعية الشيعية، المستوى البيّني لتنقل إلى داخل هذه الأحزاب والتيارات نفسها، فحزب الدعوة الذي أصبح رئيس الحكومة منه كسياق عُرفي، صار يشهد انقلاباً داخلياً مرة كل أربع سنوات تقريباً، ويستبدل أمينه العام بآخر مثلما حصل مع الجعفري الذي أطاح به المالكي، أو الندية حد الافتراق بين المالكي والعبادي إلى الدرجة التي لم يجد شورى حزب الدعوة سبيلاً لتوحيد شقيّ الحزب (دولة القانون/ المالكي) و (النصر/ العبادي) إلا أن ينشر غسيله على الملأ عندما أصدر الشيخ عبد الحليم الزهيري أحد قيادي الدعوة وعراب تشكيل الحكومات بلا منازع، بياناً علنياً يشرح فيه مآلات الحزب الحاكم وهو يرى رئاسة الوزراء تفلت من بين أصابعه، وهي المحاولة التي لم تثمر سوى عن اجتماع يتيم حضره القياديين اللدودين المالكي والعبادي، وغاب عنه كثيرون وسُربت صوره التي التقطت بالهاتف المحمول!
العبادي الذي وبرغم ما حققه على مستوى محاربة تنظيم داعش، تعرض لمكيدة اللحظات الأخيرة عندما تخلى عنه أقرب حلفائه (سائرون بزعامة الصدر) على خلفية تظاهرات البصرة وما رافقها من احداث، وبالتالي تراجعت فرصه إلى حد كبير في الحصول على ولاية ثانية، لكنها لم تنعدم بعد، رجل أمريكا المفضل كما يحلو لانصاره أن يروجوه، يدفع، على ما يبدو، ثمن تصريحه عن التزام حكومته بالعقوبات الامريكية على إيران.
المالكي الذي لا يريد أن يصدق أنه لم يعد صالحاً لمنصب رئيس الوزراء، ينتظر حتى الرمق الأخير-كعادته-لإعلان انسحابه مترقبا تغييرات دراماتيكية عادة ما تشهدها الساعات الأخيرة لإعلان الحكومة.
ومع احتمالات خسارة حزب الدعوة المنصب الأول في العراق، يبدو واضحاً قلة حيلته أمام استقواء زعاماته بهياكل ظلٍ عميقة، فصلّها كل قيادي لاسيما المالكي والعبادي على مقاساتهما، ما يصعب عليه مهمة اجتراح وجه جديد يفاجىء به الساحة ويقنع خصومه كما كان يفعل، لاسيما وأن الخط الاول لهذا الحزب متورط بنِسَب أو بأخرى في جميع إشكالات الراهن العراقي، يرافقها عجزه عن تقديم خط ثانٍ من القياديين الشباب أمام هيمنة واستحواذ طاغيين للرعيل الأول .
عادل عبد المهدي يطل برأسه مجدداً!
ومجدداً يظهر اسم عادل عبد المهدي القيادي السابق في المجلس الاسلامي الأعلى، الذي يتم تداوله ربما كل أربع سنوات، ليتصدر قائمة المرشحين بشكل أقوى من كل المرات السابقة، فهذه المرة يتم طرح اسمه مستقلاً ليتماهى مع أحد أبرز اشتراطات المرجعية في النجف، وهو الذي لم يترك (عملياً) المجلس الاسلامي الأعلى الذي تأسس في إيران.
عبد المهدي الذي يحمل الجنسية الفرنسية والذي كان والده وزيراً عراقياً في العهد الملكي، لا يخفي تاريخه السياسي الحافل بالانتقال من حزب إلى آخر، فمرة كان بعثياً قومياً وثانية شيوعياً وثالثة إسلامياً، براغماتيته هذه قد تسهل عليه إعادة تقديم نفسه رئيساً غير محسوب على جهة سياسية، فهو ليس إيرانياً محضاً كما هو ليس أميركياً بهذا الشكل أو ذاك، وإن كان قريباً من الطرفين، وبرغم أن مناوئيه سرعان ما أجهزوا عليه بإعادة التذكير وعلى نطاق إعلامي واسع بحادثة سرقة مصرف الزوية التي أودت بحياة عدد من الأشخاص في الكرادة ببغداد، والمتورط فيها قائد فوج حمايته، إلا أن عبد المهدي يظل أكثر الأسماء قرباً لتشكيل الحكومة الجديدة، ما لم تحدث مفاجأة في اللحظات الأخيرة.
المحاصصة أيضاً!
في كل الأحوال، فإن أُس الخلل البنيوي في العملية السياسية التي لَم تأتِ أُكلها (على الأقل على المستوى العراقي الداخلي)، هي المحاصصة، والتي من الواضح أنها لا تزال السمة الأبرز لعراق ما بعد انتخابات مايو/ أيار ٢٠١٨، فالسنة تنافسوا فيما بينهم على منصب رئاسة البرلمان حصتهم المذهبية، والأكراد اختلفوا مع بعضهم البعض على منصب رئيس الجمهورية، الذي أصبح منصباً سيادياً كردياً قوميا بامتياز، والشيعة أيضاً يتصارعون فيما بينهم حول منصب رئيس الحكومة.
إن الخطر الوجودي الذي يواجهه العراق اليوم لا يتعلق فقط بالطريقة التي فشلت أكثر من مرة في تقاسم السلطات، بل وأيضاً في طريقة الحصول على المناصب والحقائب الوزارية، ولعل ما حصل في اختيار رئيس مجلس النواب الحالي وما أثير إعلامياً عن صفقات سبقت ورافقت عملية انتخابه والتي وثُقت بعضها بتسجيلات فيديو، يكشف جانباً من ظاهرة غير مسبوقة تفتقر الى أبسط مقومات النزاهة في تولي المناصب الحكومية وتمثل وجهاً آخر للفوضى التي تضرب أطنابها في مفاصل المشهد العراقي.
ومع أن كل هذه الجَلبة التي تحدث بشأن توزيع المناصب الحكومية، ولا يسمع صداها إلا في مقرات الأحزاب السياسية وسفارات الدول النافذة في بغداد، فإن الشارع العراقي المثقل بالتحديات اليومية والنقص المستعصي في أبسط الخدمات، لا يبدو يأبه كثيراً بمن سيشكل الحكومة أو يكون رئيساً أو وزيراً، اللهم إلا قدر تعلق الأمر بالمتابعة الإعلامية الروتينية، فلم يعد هنالك من ينتظر تغيراً جوهرياً على مستوى العملية السياسية الحالية، ينقذ البلاد مما فيها.
قد جرب العراقيون، وبعد أن نفضوا أيديهم من إمكانية التغيير عبر صناديق الانتخابات، مختلف السبل للتخلص مما هم فيه، لكنهم وفي كل مرة يصطدمون بإرادات إقليمية ودولية تختلف في ما بينها حول أشياء كثيرة وملفات معقدة، لكنها تظهر متفقة على إبقاء الوضع الراهن في العراق على ما هو عليه.
وبعد مضي ١٥ عاماً، يبدو واضحاً أن لا الأساليب تغيرت ولا الوجوه قابلة للتغيير، بل إن المطلوب هو أن لا يتغير شيء في عراق قدره مرهون منذ نشأته بثروته النفطية وتأمين تدفقها بأقل وجع رأس ممكن، كما أن قدره أن يظل رجلاً مريضاً لا يجرؤ أحد على أن يقدم له الدواء!