الثابت والمتحول في العراق: انتخابات جديدة ومشهد يتكرر

الثابت والمتحول في العراق: انتخابات جد

على غير عادتهم، بدا معظم الساسة العراقيين على عجلة من أمرهم، وهم يُحدثّون بياناتهم الانتخابية، استعداداً لأكثر انتخابات برلمانية ومحلية، مفصلية في العراق منذ العام 2003.

وعلى الرغم من كل اللغط الذي أثارته تصريحات داخلية وخارجية عن احتمالية تأجيل الانتخابات، والتمديد للحكومة والبرلمان الحاليين، إلا أن فريقاً عريضاً من زعماء الكتل السياسية يرفض بإصرار أي تأجيل. وتختلف الدوافع وراء كلا الطرحين، سواء المُطالب بالتأجيل أو المصر على إجراء الانتخابات في موعدها الذي حدده مجلس الوزراء في ١٥ مايو/ أيار ٢٠١٨.

لا العبادي ولا المالكي يريدان التأجيل، لماذا؟!

وداخل كل فريق، هنالك أيضاً تباين واضح في المبررات، إذ وعلى الرغم من اتفاق رئيس الوزراء حيدر العبادي، مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على المضي في إجراء الانتخابات في موعدها (ويبدو أنه موقف حزب الدعوة)، إلا أن لكلا الرجلين دوافع تختلف عن الآخر، فالعبادي اليوم في أحسن حالاته داخلياً، لا سيما بعد إعلانه إنهاء تنظيم “داعش” عسكرياً، وكذلك لجمه للمغامرة الكردية في إجراء استفتاء للانفصال، ومن ثم المضي نحو ما أسماه بسط سيطرة الحكومة الاتحادية على المناطق المتنازع عليها وفي المقدمة منها كركوك، وخارجياً أيضاً، هو يحظى بتفاعل إقليمي، وتشجيع دولي، ما منحه أفضلية لم يحصل عليها من قبل رئيس وزراء في العراق منذ تأسيس العملية السياسية الحالية.

العبادي هنا يريد انتخابات تمنحه لا تجديداً فقط لولاية ثانية (أصبح الحديث عنها تحصيلاً حاصلاً هذه الأيام) بل تفويضاً للمضي في سياساته التي يريد أن يتحول معها إلى الرقم الأصعب في المشهد السياسي العراقي، وخصوصاً ما بدأ يتحدث عنه بصوت عالٍ هذه الأيام، الملف الأكثر شعبوية لدى العراقيين، وهو محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، والمفارقة أنها ذات النقطة التي تدفع غريمه المالكي إلى رفض تأجيل الانتخابات، ولكن من منظور معكوس تماماً، فهو (المالكي) يعتقد أنه كلما طال الزمن والعبادي في كرسي الحكم، كلما اقتربت أكثر لحظة الحقيقة بالنسبة له، لجهة احتمالية أن تُفتح ضده ملفات هدر طائل في المال العام، أو مسؤوليته عن سيطرة “داعش” على مساحات واسعة من الأراضي خلال فترة توليه رئاسة الوزراء.

إذاً، المالكي الذي لا تريحه تلميحات العبادي بشأن إعادة فتح ملف سقوط الموصل، يخشى أن يفعلها رئيس الحكومة الحالي، المأخوذ بجذوة الانتصار، ويزجه في معمعة قضائية لا يُعرف بعد كيف ستبدأ وأين ستتوقف.

المالكي المصدوم من جرأة العبادي غير المتوقعة، يريدها انتخابات توقف، أو على الأقل تفرمل، انطلاقة منافسه نحو التمكن من كل عناصر القرار العراقي.

لكن المشهد السياسي في العراق ليس كله، بطبيعة الحال، حزب الدعوة وأجنحته التي أعلنت صراحة أنها ستدخل الانتخابات بأكثر من قائمة، اثنتين أو أكثر، (العبادي والمالكي يتزعمان اثنتين منها على الأقل)، إذ أيضاً هنالك السُنة والأكراد، وكلاهما يبدوان أضعف بكثير من الفترات السابقة.

السُنة الخارجون من حكم “داعش”، نازحون، مُشَتتون، مُحبَطون، مناطقهم مدمرة أو شبه مدمرة، مُهمَلون إقليمياً (خصوصاً من دول الخليج المنشغلة بالأزمة الخليجية)، غير قادرين على مماحكة الشيعة، والأمر ذاته ينسحب على الأكراد، الذين أعادتهم مغامرة الاستفتاء على الانفصال عن العراق، سنوات إلى الخلف، وتحولوا في غضون أيّام فقط من لاعبين أساسيين في تشكيل الحكومات المتعاقبة، إلى كتل متناحرة جلّ طموحها إعادة افتتاح مطارات هنا أو المشاركة في إدارة معابر حدودية هناك.

انتخابات أم انشطارات؟!

وبعيداً عن إجراء الانتخابات في الموعد المعلن، أو دفعها بضعة أشهر حتى لا تتزامن مع شهر رمضان، فإن التوجه العام لدى معظم الكتل السياسية هو تشكيل تحالفات انتخابية بقدر كبير من المناورة السياسية تحت مسمى (عابرة للمحاصصة المذهبية والعرقية) في محاولة لجذب جمهور واسع من المتململين من الأسس المحاصصية للعملية السياسية، ما ينبئ بما أسماه النائب عن محافظة نينوى، عبد الرحمن اللويزي، بـ”انشطارات أفقية” تنتج تحالفات انتخابية مدعومة إما (أمريكياً – سعودياً) أو (إيرانياً).

ولعل مشاركة الحشد الشعبي في الانتخابات، هي واحدة من سمات الاستقطاب الحاد في العملية الانتخابية المقبلة، حيث يدفع رئيس الوزراء العبادي نحو تحجيم هذه المشاركة قدر ما يستطيع توظيفاً للمادة (٨) البند (أولاً) من التصويت الخاص، الذي يمنع منتسبي القوى الأمنية من الترشح. لكن أمراً كهذا سرعان ما التف عليه الناطق باسم الحشد كريم النوري عندما تحدث عن (متطوعين لبوا نداء المرجعية للدفاع عن الوطن، ولا يمكن معاقبتهم بمنعهم من الترشح).

غالبية الكتل السياسية لديها أذرع مسلحة تمثلت في الحشدين الشعبي والعشائري، وتريد استثمار دحر “داعش”، انتخابياً، عبر ائتلاف أو أكثر يقدم نفسه ممثلاً لجبهة المنتصرين، ما قد يأكل من جرف العبادي، لمصلحة المالكي الذي لا ورقة أهم لديه من أن يطرح نفسه أباً للحشد ومبتكراً لفكرته.

أما المجموعات المدنية الصغيرة، فستستفيد من رغبة الكتل الإسلاموية الكبيرة، في التعمية على صورتها المغضوب عليها شعبياً بعد نحو عقد ونصف من احتكار الحكم والاستئثار به، ليجد المدنيون أنفسهم موزعين بين ائتلافات انتخابية تسعى للإيحاء بوسطيتها، وهم الذين يعلمون جيداً أن نتيجة دخولهم الانتخابات بقائمة خاصة بهم، لن تكون أحسن حظاً من بضعة مقاعد حصلوا عليها في مجلس النواب الحالي.

سنة وأكراد العبادي قادمون!

واضح أن الصدر والعبادي حسما أمرهما في ائتلاف انتخابي واحد، معهم كثير من السنة وبعض الأكراد، وواضحة أيضاً حيرة المالكي في استقطاب أسماء جديدة تساعده على أن ينفض الغبار عن اسمه وصورته، هذا شيعياً، أما على الضفة السُنيّة، فإن الجيل الثاني من زعماء السُنّة في العملية السياسية، (وهم الأوفر حظاً مقارنة بمن سبقهم)، مضطرون للتعاطي بواقعية من لا خيارات كثيرة أمامه، حدّ أن يذوبوا في الكتل الشيعية الكبرى، بحثاً عن مظلة ما، لا سيما بعد تراجع الدعم الخليجي، والنقمة المتنامية عليهم من جمهور يحمل من الشعور بالخذلان والأسى في خيم النزوح، ما يجعل العزوف عن المشاركة في الانتخابات أفضل خيار لمعاقبة سياسييه.

الأكراد، وبرغم كل ما يقومون به من محاولات لتخفيف الآثار السلبية لمغامرة الاستفتاء، وبرغم خلافاتهم البينية، سيحاولون ما يمكن تسميته بالجيل الثالث للزعامات الكردية العراقية، (بعد جيل البرزاني الأب، ثم جيل البرزاني مسعود والطالباني جلال)؛ جيل يحاول أن يجد له موطأ قدم في الانتخابات المقبلة، حتى وإن وصل الأمر إلى أن يدخل بعضهم كممثلي حركتي التغيير والجماعة الإسلامية في قائمة انتخابية مع العبادي القوي القادر على أن يعيد لهم بعض المكتسبات، كإعادة فتح المطارات أو المشاركة في إدارة المنافذ الحدودية والمناطق المتنازع عليها وأهمها كركوك، أو إطلاق رواتب موظفي الإقليم.

في العموم، لن يكون بإمكان أسماء تقليدية في المشهد العراقي منذ العام ٢٠٠٣، كإياد علاوي وأسامة النجيفي وصالح المطلك، أو حتى المجلس الإسلامي الأعلى بشقيه، عمار الحكيم أو همام حمودي، أن تحقق اختراقاً كبيراً إن لم يكن خروجاً من المشهد برمته.

تحالفٌ انتخابيٌ بزعامة العبادي ودعم الصدر ومشاركة بعض الأسماء التي ستقدم على هيئة شخصيات توكنوقراط وعناصر محسوبة على الحشد الشعبي القريب من المرجعية، وأسماء عديدة من ممثلي محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك والأنبار، وممثلين عن أكراد التغيير والجماعة الإسلامية، هو التحالف الأقرب إلى تحقيق فوز عريض في الانتخابات المنتظرة وإدارة الدولة للسنوات الأربع المقبلة.

في المقابل، سيراهن المالكي على تحالفاته التقليدية مع المجلس الأعلى أصله وفرعه، ومنظمة بدر بزعامة هادي العامري وغيره من صقور الحشد الشعبي القريبين من إيران، وهو ما سيكون بمثابة المنافس الجدي لتحالفات العبادي الانتخابية.

الثابت والمتحول عراقياً!

إجمالاً، ومع استمرار اللعبة الانتخابية في العراق على حالها، بقوانينها وإجراءاتها، لاسيما بعد إعادة تشكيل مفوضية الانتخابات بالشكل والمضمون المحاصصي، وفي ظل التوازنات الإقليمية الحالية، فإن لا تغيير دراماتيكي سيظهر على السطح، وسيكون في غاية الصعوبة تشكّل جيل سياسي جديد قادر على تلبية طموحات الناس الخدمية والأمنية والاقتصادية، وإدارة البلاد وفق منظور وطني ومهني وكفء، عابر للأسس المذهبية والعرقية التي قامت عليها العملية السياسية، وهي التي أقرب ما تكون غلى عملية تبادل أدوار بين أشخاص وأحزاب تغانموا الحكم والنفوذ والثروة منذ العام ٢٠٠٣ أكثر من كونها عملية سياسية ديمقراطية لتداول السلطة.

التغيير المنشود شعبياً في العراق بعيد المنال، أو على الأقل لن تحققه انتخابات أيار/ مايو 2018، هي لا أكثر ولا أقل من انتخابات جديدة قد تحقق (تحولاً) نسبياً في مشهد (ثابت) يتكرر كل أربع سنوات.

منشورات أخرى للكاتب