العراق: يمكنك أن تنتخب لكن لا يمكنك أن تشكل حكومة!

لا يبدو الشارع العراقي، معنياً كثيراً بالضجيج والجلبة التي تزداد في أوساط السياسيين والأحزاب والكتل السياسية كلما اقترب اكثر الثاني عشر من مايو/ أيار ٢٠١٨، موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة. 

وكما يبدو، فإن قطاعات عريضة ممن يحق لهم الإدلاء باصواتهم (نحو ٢٤ مليون عراقي) قد استسلمت لقدرها، وهي ترى ذات الوجوه والأسماء التي هيمنت على المشهد السياسي منذ عقد ونصف (١٤٣ حزباً سياسياً في ٢٧ تحالفاً ستخوض الانتخابات المقبلة) في طريقها للوصول مجدداً الى مواقع النفوذ والقرار، بيد أن التنافس السياسي البينيّ الأحزاب والأقطاب السياسية ذاتها تنافس بعضها البعض هو السمة الغالبة للمشهد في عراق ما قبل انتخابات ٢٠١٨.

ولعل ابرز سمات انتخابات هذا العام، أنها مضت بعيداً في تجزئة المجزأ، بل ودفعت بأحزاب الإسلام السياسي صاحبة الباع البراغماتي الطويل، (كحزب الدعوة ومعادله المذهبي الحزب الاسلامي)، الى التخلي عن أسمائها ودخول الانتخابات تحت عناوين كتل وتيارات اخرى، في محاولة واضحة للتنصل عن قائمة طويلة من الاتهامات التي تسوقها جهات داخلية وخارجية عن الفشل في ادارة الدولة والفساد المستشري في مفاصلها وتردي الخدمات، والهشاشة الأمنية وغيرها الكثير.

ومع ذلك فإن ذات الأسماء المهيمنة على المشهد السياسي، دخلت بالفعل المعترك الانتخابي غير آبهة بكل ما يُساق ضدها، والملفت أنها تُمارس عملية الترشيح والترشح من دون برامج سياسية واضحة، قدر الاعتماد على ذات المضامين السياسية العمومية، التي كانت تروج لها منذ الأيام الأولى للعملية السياسية، بل تخندق الكثير منها خلف نفس (المصدات) المذهبية والعرقية التي طالما عبر الشارع العراقي عن رفضه لها.

ولم يُكتب النجاح للمحاولة الخجولة التي أقدم عليها رئيس الوزراء حيدر العبادي في تقديم كتلة تضم أسماء شيعية وسنية وكردية، إذ سرعان ما تشظت قائمته (النصر) بعد بضع ساعات من انضمام قائمة (الفتح) اليها، بزعامة هادي العامري وتضم غالبية اجنحة الحشد الشعبي، كما انسحبت منها لاحقاً اسماء كردية.

المحاصصة باقية وتتمدد

وبرغم ذلك تظل قائمة (النصر) التي يتزعمها العبادي، وتضم شيعة وسنة، الوحيدة (على تواضعها وتكرارها للعديد من الاسماء) التي طرحت نفسها تحت شعار (العابرة للطائفية)، ما يؤشر بالفعل الى استمرار النهج المحاصصي الذي قامت عليه العملية السياسية أصلاً، للسنوات الأربع المقبلة، والذي يعّد بحسب الكثيرين أساس البلاء في عراق ما بعد العام ٢٠٠٣.

والسمة الاخرى الطاغية على مشهد التحضير للانتخابات، هو حجم المال السياسي الموظف، والذي يثير تساؤلات لا اجابات لها في الشارع العراقي، عن مصادر التمويل والشفافية ومديات التدخلات الخارجية.

لا مشكلة كبيرة ظهرت خلال فترة تشكيل وتسجيل التحالفات الانتخابية، ومرت العملية بسلاسة أنها تتمة لعقد ونصف من التناغم السياسي بين أحزاب بعينها وأسماء بذاتها، ولربما هي أكثر الفترات في تاريخ العملية السياسية هدوءً بعد أن استمكنت هذه الأحزاب من مفاصل الدولة ومقدراتها، وقد تموضع كل منها في الموضع الذي يمكنه من ادارة مصالحه وتسويق نفوذه، لكن الخوف الذي يسيطر على الفاعلين السياسيين هو في مرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة، وتحديداً في صعوبة تشكيل حكومة جديدة.

صحيح أن معظم التيارات والقوائم الانتخابية ستعود مجدداً للتحالف مع بعضها البعض على ذات الأسس المذهبية والعرقية، فالشيعة سيعودون الى (التحالف الوطني) ولو بمسمى آخر، والسنة سيعودون الى (تحالف القوى) أو باسم جديد، وكذلك الأكراد الذين لا مفر لهم من (تحالف كردستاني) آخر، وصحيح ان ايران تضبط بوضوح إيقاع العملية السياسية عموماً واليات تشكيل الحكومات خصوصاً، لكن متغيرات داخلية وخارجية، قد تعرقل الى امدٍ ربما يطول، عملية قيصرية تنتظرها مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة.

رئاسة الوزراء الوظيفة التي ستظل شاغرة لأشهر

اما داخلياً، فإن الرفض الشعبي المتزايد لإعادة انتاج ذات الأسماء سيضطر، عرّابي تأليف الحكومات العراقية الى اعادة التفكير غير مرة بالاسم الذي يترأس الحكومة، الوظيفة التي ستشغر لأشهر عدة بعد الانتخابات، والتي سيظل العراق يبحث عمن يشغلها بانتظار التوافقات الداخلية والخارجية البالغة التعقيد، ولن تكفي العبادي الانتصارات التي حققها على داعش، للحصول على ولاية ثانية، أمام سخط شعبي من تردده ولا جديته في ملف محاربة الفساد، أو إجراءاته الاقتصادية التي ترى فيها شريحة الموظفين والمتقاعدين (أكبر كتلة للناخبين) استهدافاً لها وتقليماً لمكتسباتها في سلسلة من الاستقطاعات الشهرية وفرض الضرائب والرسوم، وإيقاف التعيينات الحكومية، وعدم وضوح سياسات تنشيط القطاع الخاص وجلب الاستثمارات.

والامر ذاته ينسحب على رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي وإن كان لا يزال يحتفظ بالكثير من عناصر النفوذ والقوة، فإن تاريخه الضاج بالانكسارات العسكرية التي تجرح الكبرياء الوطني العراقي، والهدر المروع للمال العام، ستظل تلاحقه وتأكل من جرف (شعبيته) بين أوساط الموظفين والمتقاعدين، كما ان البحث عن وجه جديد بين قيادات حزب الدعوة (المالك الحصري لمنصب رئيس الوزراء)، مهمة ليست سهلة مع استنزاف غالبية وجوه الخط الاول في المشاركة الفعلية في إدارة الملفات الكبرى للدولة وما لحق بها من اتهامات بالفساد والفشل.

وداخلياً أيضاً، يبدو متغير (التيار المدني) اكثر اتضاحاً من الانتخابات السابقة لجهة شعبيته النخبوية من جهة وحجم المال السياسي الذي يقف ورائه من جهة ثانية (يموله رجل الأعمال حمد الموسوي)، ما قد يجعله عاملاً من عوامل محاولة إظهار تغيير ما في السمة العامة للعملية السياسية.

وعلى المستوى الخارجي، فإن الهيمنة الإيرانية الطاغية على المشهد السياسي العراقي، لن تكون كافية لتمرير حكومة بميول إيرانية فاقعة، وإن كانت مهمة سهلة على الورق، لكنها ستصطدم بالعديد من الكوابح، ليس أقلها (المماحكة) الامريكية، التي لن تمرر حكومة بنفوذ إيراني كامل، فإيران التي لا تحبذ كثيراً حيدر العبادي ولا تستطيع الدفاع طويلاً عن نوري المالكي، ستجد نفسها أمام خيارات حادة للبحث عن شخصية غير مستهلكة، تؤدي دور (المفاجأة) شعبياً من جهة وتحظى بالقبول الأمريكي من جهة ثانية.

اما عربياً، وبالتحديد خليجياً، فلن يتجاوز التأثير هنا، مستوياته السائدة من ناحية الاستمرار في الاستراتيجية التي انتهجتها كل من السعودية والإمارات (وهي امتداد للرؤية الامريكية) في الاقتراب الحذر من مصادر صنع القرار العراقي.

لقد أصبح متداولاً ومنذ (التوأمة) السعودية الاماراتية (محمد بن سلمان، محمد بن زايد)، ان الدور الخليجي لن يتجاوز في أفضل حالاته، دعم مرشح لرئاسة الحكومة العراقية الجديدة، لا يكون قد وضع كل تفاحاته في السلة الإيرانية، مع الاستمرار في الدعم المالي لبعض الشخصيات السنية، اخذين بعين الاعتبار استمرار الأزمة الخليجية، وانفراد قطر بدور مغاير نسبياً، في الملف العراقي كما هو الحال في الملفات الاخرى امعاناً في مناكفة خصومها الخليجيين، إذ يحاول القطريون مسك العصا من المنتصف، في الوصول الى رئيس حكومة عراقي جديد، مرضي عنه اميركياً وايرانياً.

حكومة اللحظة الاخيرة مرة اخرى

وفِي العموم، فإن الانتخابات العراقية ستجري، بإقبال شعبي محدود نعم، لكنها ستمضي قدماً، وستعيد انتاج ذات الأحزاب والشخصيات، وان اختلفت في عدد المقاعد التي ستحصل عليها زيادة أو نقصاناً، تحالف (الفتح) بزعامة هادي العامري سيحقق نوعاً من (الاختراق) على حساب قائمتي العبادي والمالكي، بينما سيتراجع اياد علاوي وقائمته، نفوذاً وعدد مقاعد.

سنياً، وحيث ستزداد نسب المقاطعة في الشارع السني، فإن أصواته لن تبتعد أيضاً عن ذات القوائم التقليدية، مع وجود فرص سانحة لفوز اسماء جديدة تفرزها طبيعة المرحلة التي يعيشها سنة العراق، لجهة رفض جمعي للتجديد لنفس الأسماء، وهي رغبة تُحّجمها الآليات الانتخابية المعمول بها (طريقة سانت ليغو المعدلة)، والمال السياسي المستخدم، لكن ان حدثت مفاجأة في الانتخابات المقبلة فستكون في القوائم السنية أكثر من غيرها، اما كردياً فإن الأحزاب الكردية الكبرى هي التي ستحصل على معظم الأصوات، برغم كل تداعيات فشل الاستفتاء الكردي، ولن يكون بمقدور (حراك الجيل الجديد) الذي أسسه لأغراض هذه الانتخابات، رجل الاعمال الكردي الشاب شاسوار عبد الواحد وبرغم امكانياته المالية والدعم الأمريكي الواضح، ان يحقق ما يمكن تسميته بـ (المفاجاة)، ربما يحصل على مقعد أو اثنين.

في كل الأحوال، ستجري الأمور بروتينيتها المتوقعة، لكن الصعوبة ستكمن في تشكيل حكومة جديدة، ترضي شارعاً مقاطعاً (الى حد ملحوظ) او متذمراً، وتحظى بقبول إقليمي ودولي، وسيأخذ تشكيل هذه الحكومة وقتاً طويلاً، لربما أطول مما هو متوقع، لكن حكومة اللحظة الاخيرة بأطراف من شيعة إيران وسنتها وأكرادها، سترى النور في نهاية المطاف.

منشورات أخرى للكاتب