خليجياً وعربياً: مسار مقاطعة الانتخابات أقوى في الديمقراطيات المشوّهة

عام 2018، هو عام الانتخابات العربية بامتياز، حيث شهد أكبر عددٍ من الانتخابات، بلدية وبرلمانية ورئاسية، في ثلث الدول العربية، ولم ينقضِ من العام إلا ثلثه. ورغم العدد الكبير نسبياً، إلا أن زخم المشاركة الجماهيرية ظلّ يتراجع تدريجياً، بعد سبع سنوات من نجاح عملية محاصرة وإجهاض ما عُرف بالربيع العربي.

ولأن شيئاً من التحسّن لم يطرأ على حياة المواطن العربي، سياسياً أو اقتصادياً، فإن الشعوب العربية باتت أكثر زهداً، وأقل صبراً، على ما يمكن أن تنتجه التجارب الانتخابية البطيئة من ثمار زهيدة، ليس في الدول التي مسّها طائفٌ من رياح التغيير فحسب، بل حتى في الدول التي كانت تتباهى أنظمتها بالمرونة أو الديمومة والاستقرار مثل الكويت والمغرب.

المتتبع لأوضاع الانتخابات العربية، قد ينتهي إلى نتيجةٍ سلبية، وهي أن هناك ما يشبه الإجماع من النخب الحزبية أو الفئوية الحاكمة، على “تطفيش” الشعوب وبث اليأس فيها من العملية الديمقراطية، وإن كانت تحثّ الناس على المشاركة فيها علنياً. وآخر هذه الانتخابات ما شهده الثاني عشر من الشهر الجاري في العراق والكويت وقبلها بأسبوع في لبنان وتونس. وكل هذه الانتخابات شهدت تراجعاً كبيراً في نسبة المشاركة في الانتخابات.  

في الانتخابات النيابية في العراق، لم تتجاوز المشاركة نسبة الـ45 في المئة، رغم كل التحشيد الإعلامي والأموال المرصودة للترويج للقوائم الحزبية المختلفة، ورغم حثّ المرجعية الدينية ذات الرأي المسموع لدى قطاع واسع من العراقيين، على المشاركة الواسعة وتقديمها النصح بعدم اختيار المسؤولين المجرّبين، من الفاسدين أو الفاشلين. ورغم ما كان يعوّل الكثيرون على هذه الانتخابات من تغيير، إلا أن حملاتٍ كثيرةً كانت ساحتها الكبرى وسائل التواصل الاجتماعي، دفعت باتجاه المقاطعة، يأساً من التغيير. ولم تنجح الصحافة والقنوات الفضائية الرسمية والحزبية الكثيرة في إقناع الناخبين للتوجه نحو صناديق الاقتراع. هذه المقاطعة هي التي أوصلت كتلة “سائرون” التي يقودها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر إلى تصدّر المشهد، بالفوز بأعلى نسبة من المقاعد، مع ما يحمله ذلك من إمكانية للتأثير على بعض جوانب السياسة العراقية، داخلياً وخارجياً.

في الكويت، وفي اليوم نفسه، تم انتخاب عشرة مرشحين في الانتخابات البلدية، تسعة منهم جدد، ورغم هذا التغيير في الوجوه إلا أن الانتخابات شهدت إقبالاً ضعيفاً أيضاً، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 30 في المئة، رغم التحشيد الكبير من العوائل والقبائل وبعض الشخصيات المعارضة للمشاركة. وكان لافتاً فشل رئيس المجلس السابق مهلهل الخالد في الحصول على أصوات كافية تؤهّله للفوز. ورغم أن الانتخابات البلدية لا تحظى بذلك الاهتمام أو التغطية الإعلامية أو الأهمية السياسية التي تحظى بها الانتخابات البرلمانية، إلا أنها تعتبر بروفةً أوليةً لما يمكن أن تشهده الانتخابات البرلمانية المقبلة من عزوف جماهيري.   

مزاج خليجي/ عربي عام

هذه الظاهرة لم تقتصر على العراق والكويت خليجياً، بل نكاد نجزم أنها ظاهرةٌ عامةٌ في عموم العالم العربي، فهناك حالةٌ من القنوط واليأس من إمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع، وشيوع نظرة سلبية بعدم جدوى المشاركة، عكس ما يحدث في مختلف شعوب وقارات العالم. ففي مصر التي شهدت ثورة شعبية أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك، وبعد عامٍ واحدٍ من فترة انتقالية مضطربة في ظل “الإخوان المسلمين”، عاد العسكر ليواصل مسيرة الحكم الممتد ستين عاماً. وقد تظهّرت نزعة الحكم الفردي بصورةٍ جليةٍ في الانتخابات الرئاسية في مارس الماضي، حيث استُبعد أيّ منافسٍ للرئيس عبدالفتاح السيسي، وانتهى بعض المنافسين إلى السجن بتهمٍ متفرقة، بينما جيء بمرشّحٍ من الظل في الوقت بدل الضائع. أعطت المشاركة الجماهيرية الضعيفة مؤشراً واضحاً على اليأس من إمكانية التغيير وعبثية المشاركة، حيث لم تتجاوز نسبتها الـ40 في المئة.

إنها ظاهرة عربية عامة إذن، تكرّرت في الانتخابات البرلمانية في لبنان، يوم السادس من مايو 2018، بعد تسع سنواتٍ من الانتظار والتمديد للبرلمان الذي تسبّب بسخط شعبي متزايد واحتجاجات دورية كانت تنفجر في الشارع بين عام وآخر. ورغم التحشيد الكبير محلياً وخارجياً للإنتخابات، واستنفار الأحزاب كل طاقتها للفوز بأكبر عدد من المقاعد، والتوقّعات بأن تشهد الإنتخابات زخماً كبيراً، خصوصاً مع ارتفاع عدد المرشّحين من المجتمع المدني والنساء، ودخول المال السياسي على الخط لشراء الأصوات، إلا أن ضعف المشاركة كانت صادمةً لجميع الأطراف، إذ لم تتجاوز حاجز الخمسين في المئة.

تكررت الظاهرة نفسها أيضاً في الانتخابات البلدية في تونس في اليوم نفسه، ورغم كل ما يُكال من مديحٍ للثورة التونسية، واتخاذها نموذجاً للتغيير السلمي المأمول، إلا أن نتاجها غير مشجّع حتى الآن لدى الأكثرية من الشعب التونسي، حيث انتهت بعد تجربة “الترويكا” إلى تقاسم السلطة بين حركة “النهضة” المعارضة السابقة، وحزب “نداء تونس” بكبار شخصيات العهد القديم. وفي الانتخابات الأخيرة أعلنت النهضة فوزها، ولكنه كان “فوزاً بطعم الهزيمة” كما وصفه بعض المراقبين بحق، حيث تراجعت نسبة ما حصلت عليه من أصوات إلى الثلث مقارنةً بحصادها قبل خمس سنوات، فيما تراجعت نسبة المشاركة العامة إلى 33 في المئة فقط.

المقاطعة والدعوات المضادة

هذه الحالة ناتجةٌ عن إحكام الأحزاب التقليدية والنخب الحاكمة القديمة قبضتها على السلطة في بعض الدول، أو تقاسمها مع أحزاب أخرى في البعض الآخر. ونتيجةً للشعور باليأس من التغيير، تتولد ردة فعل مضادة باتجاه خيار المقاطعة، رفضاً لإعطاء الحالة السياسية شرعيةً أو الاعتراف بها كأمر واقع. ويفضّل الكثيرون ذلك رغبةً في عدم المشاركة بتزوير إرادة الجماهير، لما يرونه لعبة انتخابية مغلقة، لا تخدم سوى الأقلية الحزبية الحاكمة ومصالحها. من هنا تأتي المقاطعة كوسيلةٍ للاحتجاج والرفض لهذا الواقع السياسي الجامد الذي يكرّس الفساد والاستبداد وتقاسم الغنائم بين الأحزاب والقوى السياسية النافذة.

لم تمرّ دعوات المقاطعة دون معارضة، فقد شهدت وسائل التواصل الاجتماعي دعواتٍ للمشاركة الواسعة لإثبات الوجود، باعتبار المشاركة حقاً أساسياً يجب عدم التفريط فيه، وفرصةً متاحةً أمام التغيير، “فببقائك في المنزل وعدم الإداء بصوتك، أنت تشارك بتعزيز فرص فوز الفاسدين”. وهي حجةٌ منطقيةٌ واضحة، إلا أنها لم تستطع أن تغيّر من المزاج العام المؤيّد لمقاطعة الانتخابات الذي يجتاح المنطقة العربية، بسبب انعدام الثقة بمجمل العملية السياسية ونتائجها، وحصادها الهزيل في كل هذه الدول، وزيادة توسّع دوائر الفساد والمحسوبية والفقر والبطالة والتهميش.

منشورات أخرى للكاتب