الإخوان المسلمون في البحرين: ما الحكاية؟
حين نتكلّم عن “الإخوان المسلمين” في البحرين، فإننا نتكلم عن إحدى الجماعات الفكرية القديمة، التي يعود تاريخها إلى الأربعينات والخمسينات، مع عودة بعض المبتعثين للدراسة في مصر، واحتكاكهم بالجماعة في موطنها الأم، ولكن بسبب سيطرة التيار القومي الناصري على الشارع البحريني في الخمسينات، ظلت الجماعة معزولةً، و انحصر نشاطها في العمل الدعوي والفكري، حتى بداية الثمانينات، حيث تحوّل المسمى عبر هذه العقود من “نادي الإصلاح الخليفي”، إلى “نادي الإصلاح”، فـ “جمعية الإصلاح”، والتي انبثقت عنها “جمعية المنبر الإسلامي”، الجناح السياسي للإخوان المسلمين. وقد حقّقت سبعة مقاعد في الانتخابات الأولى (2002)، وكان لها مناطق نفوذ أخرى في أجهزة الدولة، بحكم عيشها في ظل النظام وتمتعها برعايته.
مؤخراً؛ ألقى حادث توقيف كاتب ونائب ينتميان إلى جماعة الإخوان المسلمين في البحرين، في الأسبوع الثالث من أبريل 2019، سؤالاً منطقياً عن آفاق العلاقة التي تربط الجماعة بالمؤسسة الحاكمة في البلاد، وهل هي بداية فك الارتباط كما حدث في دول أخرى، أم أن القضية لم تتعد “فركة أذن” لشخصين تجاوزا خطاً أحمر لبرهةٍ ضئيلةٍ من الوقت وسرعان ما سيعودان للالتزام بحدود اللياقة المطلوبة في أدب الخطاب؟
مناطق الحظوة والنفوذ
في كتاب “القوة الصاعدة”، (ط. 2008) تناولت الصحافية والإعلامية ندى الوادي، التيارات الإسلامية السياسية الثلاث (السلف والإخوان والوفاق) التي سيطرت على البرلمان في انتخابات 2006. وخصّصت الفصل الثاني منه للحديث عن “الإخوان المسلمين”، وكتبت تقول: “إذا أردت أن تحقّق أحلامك، وتصل إلى كل ما تريده وتطمح إليه في هذه الحياة، فعليك بهم. إذا أردت أن تنفتح أمامك الأبواب المغلقة، ويُفرش طريقك بالورود والرياحين، فتنال من العمل أحسنه، ومن التعليم أعلاه، ومن المناصب أكبرها وأجلّها، فما عليك إلا أن تنضم إليهم، فتكون وفياً ومخلصاً وثابتاً على (الحق)، وتدخل بولائك جنة أخرى أعمدتها قوية ثابتة، تدفعك وتعزّز ثقتك بنفسك، وتجعل منك في النهاية وزيراً، سفيراً، نائباً، وكيلاً، أو ربما أكثر من ذلك بكثير”.
تضيف الوادي: “ليست تلك جماعة سحرية، تتعاطي التخاطب عبر المجهول، هي جماعة واقعية عملية جداً، سماها البعض تنظيماً محكماً، وانتقد البعض أداءها كثيراً، وحارب البعض أساليبها التي اعتبرها كثيرون ملتوية، فيما اعتبر البعض الآخر ما تقوم به بديلاً واقعياً مرضياً عن عدم وجود جماعة إسلامية سنية في البحرين”.
كان هذا التوصيف دقيقاً إلى حد بعيد، فالعقد الأول من الألفية الجديدة كان “شهر العسل” الطويل بالنسبة للجماعة التي ظلّت محل رعاية رسمية مديدة، في معادلةٍ تبادليةٍ للمصالح. ففي 2004، حين دعت الجمعيات الحقوقية والسياسية الأخرى في البحرين إلى تطبيق “العدالة الانتقالية”، استلهاماً من التجربتين المغربية والجنوب أفريقية، لتجاوز جراح حقبتي الثمانينات والتسعينات، أرسل النظام شخصين (وزير ووزيرة) ينتميان إلى المنبر الإسلامي ليمثّلاه، وكان موقفهما الرفض المطلق للعدالة الانتقالية.
في الانتخابات الثالثة (2010)، بدأ تقليص الحضور البرلماني للجماعة تدريجياً، رغم مواقفها اللصيقة بالنظام، فانخفض عدد مقاعدها من 7 إلى 2 فقط. وفي الأحداث التي عصفت بالبحرين في فبراير 2011، اتخذت موقفاً أكثر التصاقاً وتماهياً مع سياسات النظام، فكان أن أوكِلت مهام وزارتين كبيرتين (العمل والصحة) إلى الوزيرة نفسها، وحمل ذلك دلالة واضحة على درجة توظيف الجماعة سياسياً، واستخدامها في تلك المرحلة لأداء المهمات الصعبة.
في انتخابات 2014، فازت بمقعد واحد فقط، بعد أن أزيحت الجمعيات الوطنية المعارضة من المشهد السياسي بصورة شبه تامة، وجرت عملية تقليص أخرى للتيارين الإخواني والسلفي معاً، حيث اقتضت هندسة العملية الانتخابية إسناد دور أكبر لـ”المستقلين”، لعدم وجود انتماء مسبق، وسهولة التعامل معهم كـ”أفراد” بدل التعامل مع “كتلٍ” قد تصطدم في بعض المحطات ببعض الرغبات الحكومية فتعرقلها. وفي الانتخابات الأخيرة (2018)، خرج الأخوان من البرلمان، مع عدم اعتراف أحد الفائزين المحسوبين عليهم بذلك الانتماء.
رافق تغيّر الجانب الرسمي على الجماعتين السلفية والاخوانية، تغيّرٌ كبيرٌ في المزاج العام لشارع الموالاة، حيث كان الجمهور يراجع حصيلة التجربة ومردودها المحدود على واقعه الاقتصادي المباشر. ولعبت الصحافة شبه الرسمية دوراً في إحداث هذا التغيير أيضاً، حيث خاضت معارك ضد الجماعتين، لمواقفهما داخل البرلمان خصوصاً من ناحية الحريات الفردية والثقافة، إلى درجة أن عمدت بعض الصحف إلى مقاطعة نشر أخبار نواب الأخوان، أو عدم نشر صورهم مع الخبر إمعاناً في التحقير والإذلال، لياً لأذرعهم في بعض الفترات بسبب بعض المناكفات. كان ذلك شكلاً آخر من أوجه سياسة الاستخدام للجماعات الوظيفية.
صراعات الإقليم
إلى جانب خلافات الداخل التي شعرت فيها الجماعة بنوع من القوة وحملتها على مناكفة الدولة، ودفعت ثمنها في تقليص وجودها، دفعت الجماعة أيضاً ثمن انتمائها أو مواقفها إبان صعود نجم الإخوان في المنطقة بعد موجة ثورات الربيع العربي. ورغم كونها جماعة موالاة محافظة في الداخل، إلا أن الارتباط العضوي بالتنظيم العالمي للإخوان وقياداته (شاركت في بعض مؤتمراته الدولية في اسطنبول والقاهرة). وانعكس ذلك عليها تشكيكاً وريبةً في نواياها وتطلعاتها المضمرة، خصوصاً على مستوى دول الخليج الذي اتخذت موقفاً متحفظاً إن لم يكن مناهضاً للمشروع الغربي لتمكين الأخوان من الحكم، كونهم “القوة الصاعدة” الجديدة. ولم يجدِ الجماعة نفعاً ما كانت تصدره من بيانات نفي لأي ارتباط لها بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
وزاد موقف الإخوان حرجاً مع تصاعد حدة الصراع في الإقليم، خصوصاً بعد إسقاط حكم محمد مرسي في مصر (يوليو 2013)، ولاحقاً فشل الانقلاب ضد رجب طيب أردوغان في تركيا (يوليو 2016). وجاءت الأزمة الخليجية (يونيو 2017) تتويجاً للصراع، حيث كان أحد مطالب الدول الأربع (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) التخلص من قيادات الأخوان وطردهم من الدوحة، التي رفضته بدورها، حيث اعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية وارتباطاتها السياسية.
في هذا السياق، لم يكن غريباً استمرار الحملات الإعلامية من بعض كتاب الموالاة وانتقاداتهم للجماعة في السنوات الأخيرة، لكن الجديد هو الارتفاع المفاجيء في درجة حرارة الاحتكاك، حيث جرى التراشق بين كاتبين متنافرين يكتبان في صفحة واحدة بجريدة واحدة، أدّت إلى استدعاء أحدهما (المحسوب على جماعة الإخوان) وإيقافه ثلاثة أيام، إلى جانب نائب سابق عُرف بمواقفه المتشددة ولغته الحادة المتطرفة في مهاجمة كلّ من يختلف معهم، سواءً كان من المعارضة أو الموالاة أو بعض المسؤولين.
انتهت الحكاية النافرة بالإفراج عن الشخصين، وبادر الكاتب إلى نشر مقالٍ سريعٍ في اليوم التالي (وكان يوم جمعة) يعتذر فيه عن مقاله السابق ويقدّم مبرراته بأنه أسيء فهمه؛ بينما بادر النائب لإغلاق حسابه على موقع “تويتر”، مبّرراً ذلك بأنه “برٌ بوالديه”!
لكن السؤال الذي يطرح بجدية: هل كان ذلك بداية لانفراط علاقة قديمة مختلفة عمّا ألِفناه بفعل الضغوط المعيشية والأزمة الاقتصادية وسخونة الوضع الإقليمي… أم أنها مجرد فركة أذن عابرة وسرعان ما تعود المياه إلى سواقيها؟