من مظاهر الخلل الديمغرافي في اقتصادات الخليج الريعية

تظل دول الخليج نماذج صاخبة للإقتصادات الريعيّة ونتائجها. وتعتبر النتائج الديمغرافية من أهم ما أفرزته السياسات المالية والفلسفات الإقتصادية التي تحكمت في بلدان الخليج.

كانت بلدان الخليج في أوائل خمسينات القرن العشرين محدودة السكان ولا يزيد عدد سكان هذه البلدان مجتمعة عن مليوني نسمة. ووقتئذ؛ اعتمدت هذه الدول على مصادر دخل محدودة. حوّل النفط هذه البلدان إلى إقتصادات تعتمد على الإنفاق العام والعمالة الوافدة حتى تجاوز عدد سكانها في الوقت الحاضر إلى ما يزيد عن الـ 53 مليون نسمة، حيث يقدّر عدد سكان السعودية بـ 31.5 مليون نسمة، والإمارات بـ8.9 مليون نسمة، والكويت 4.5 مليون نسمة، وعمان 4.2 مليون نسمة، وقطر 2.1 مليون نسمة، والبحرين 1.8 مليون نسمة.

ويبلغ عدد المواطنين في هذه البلدان 23.3 مليون، منهم 20 مليون في السعودية. لاشك أن الأوضاع السكانية ونسب المواطنين والوافدين في كل مجتمع سكاني خليجي تختلف عن الآخر، حيث نجد أن نسبة الوافدين طاغية في الإمارات وقطر حيث تبلغ 90 في المئة و86 في المئة على التوالي، لكنها تصل إلى 69 في المئة في الكويت و51 في المئة في البحرين و44 في المئة في عمان و 35 في المئة في السعودية.

معلوم أن الهجرة إحدى السمات الإنسانية القديمة وإن إتسمت بها شعوب أكثر من أخرى، ويعتبر سكان المناطق الساحلية الأكثر تنقلاً بين مواطنهم والبلدان الأخرى.

ومن الشعوب العربية عرف عن اللبنانيين والسوريين أنهم الأكثر هجرة منذ أواسط القرن التاسع عشر حيث هاجروا إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وبلدان غرب أفريقيا. كما أدت الحرب العالمية الثانية إلى هجرة الكثير من سكان شمال أفريقيا إلى فرنسا وبلجيكا وهاجر الأتراك إلى ألمانيا. بيد أن هؤلاء وغيرهم من المهاجرين من بلدان أخرى ومنهم هنود وصينيون لم يشكلوا في البلدان المضيفة سوى نسب محددة تتراوح بين خمسة إلى عشرة في المئة من إجمالي سكان أي من البلدان التي هاجروا إليها.

ومثّل قدوم الوافدين إلى دول الخليج العربةي ظاهرة مختلفة، فمنهم من جاء للعمل ولكن القليل منهم توقع التوطين والحصول على جنسية أي من البلدان. كذلك إتّسم هؤلاء أو غالبيتهم، بمستويات تعليمية ومهنية متواضعة وتقبّل الكثير منهم رواتب وأجور نظير أعمال تقلّ كثيراً عن رواتب وأجور المواطنين، وبما يشمل أولئك الذين يؤدون الأعمال أو الوظائف ذاتها. بطبيعة الحال هناك العديد من الوظائف والمهن التي لم تعد ذات جاذبية للمواطنين وباتوا يعزفون عنها.

إن من السمات الديمغرافية للإقتصاد الريعي في عدد من بلدان الخليج  إستقدام عمالة لا تملك مؤهلات تعليمية على الإطلاق، أي بعبارة واضحة استيراد الأمية من الخارج.

وأشارت بيانات تربوية في الكويت، على سبيل المثال، أن عدد الأميين في البلاد في العام الدراسي 2016/2017 بلغ 131,503 منهم 60,885 من الذكور و70,623 من الإناث. ويبلغ عدد الوافدين من هؤلاء الإميين 107,462 وبنسبة 82 في المئة من إجمالي الأميين في البلاد و2.3 في المئة من إجمالي السكان و3.5 من إجمالي عدد الوافدين. ويضاف إلى هؤلاء أولئك الذين حصلوا على مستويات متواضعة من التعليم بما يعني أن ما يزيد عن 70 في المئة من الوافدين هم من الحاصلين على تحصيل تعليمي متدني.

غني عن البيان أن هذه البيانات تؤكد أن النشاط الإقتصادي في الكويت مازال يفتقر إلى التحديث والتطوير والذي يستلزم حصول العاملين على تعليم أكاديمي أو مهني متطور. ويضاف إلى ذلك أن أغلبية العمالة الوافدة تعمل في مهن خدمية في مؤسسات القطاع الخاص أو في الأعمال المنزلية. وتمثل هذه الوضعية سمة رئيسية من سمات الإقتصاد الريعي الذي يدفع المواطنين إلى الإتكالية والإعتماد على العمالة الوافدة لأداء مختلف الأعمال دون بذل جهود تذكر.

ويزعم البعض بأن انخراط المرأة في بلدان الخليج في سوق العمل دفع إلى الإعتماد على العمالة المنزلية بشكل كبير. لكن هذا الدفع لا يمكن تبريره حيث أن المرأة في البلدان الصناعية الناشئة والمتقدمة في أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية تقوم بمهام وتعمل في مهن عديدة خارج المنزل دون هذا الإعتماد الهيكلي على العمالة المنزلية.

هناك سمة ديمغرافية أخرى نتجت عن الإقتصاد النفطي وآلياته الريعية وهي النمو الطبيعي المتسارع للسكان من المواطنين حيث تراوح معدل النمو الطبيعي في سنوات العقود الماضية منذ بداية عصر النفط بنحو 3 إلى 3.5 في المئة. هذا النمو المتسارع أخذ بالتباطؤ في السنوات القليلة الماضية لكن أعداد الشباب وصغار السن مازالت طاغية وتمثل نسبة هامة بين المواطنين حيث تقدر نسبة من تقل أعمارهم عن خمسة وثلاثين عاماً من المواطنين بما يتراوح بين السبعين والخمسة وسبعين في المئة.

في الكويت صدرت إحصائية من الإدارة المركزية للإحصاء بأن الفئة العمرية من 5 إلى 29 سنة تشكل نسبة 63 في المئة بين المواطين. تمكن الكثير من المواطنين من تحسين أوضاعهم المعيشية ووفرت لهم السياسات المالية التي إنتهجتها حكومات بلدان المنطقة مثل توفير السكن وقروض الزواج والوظائف المريحة وإستقدام العمالة المنزلية من إعتماد سلوكيات إجتماعية عززت أعداد الأطفال في الأسرة الواحدة ولم تكن هناك ضوابط للحد من الإنجاب وإعتماد الأسرة النووية. ولا شك أن القيم المجتمعية لم تتغير كثيراً عن ما كان سائداً في المجتمعات القديمة السابقة لعصر النفط.

إذاً هناك سمات إجتماعية وديمغرافية توطدت في بلدان الخليج منذ بداية عصر النفط ولا تتسم بالتحضّر والحداثة التي تتمتع بها المجتمعات في البلدان الصناعية المتقدمة التي استوعبت متغيرات الثورات الصناعية المتلاحقة..

أهم ما يمكن استنتاجه أن الإقتصاد يحدد معالم الحياة بكل مجالاتها ومن ذلك المجال الديمغرافي. لا يمكن توقع تطور المجتمعات الخليجية وتغيير بنيتها السكانية دون إحداث إصلاحات جذرية في الحياة الإقتصادية وتعزيز إمكانيات تحرير الإقتصاد من هيمنة الدولة وتطوير عملية تنويع القاعدة الإقتصادية. يضاف إلى ذلك أن تعديل التركيبة السكانية في أي من بلدان الخليج يتطلب إنجاز عملية تنمية بشرية عمادها إصلاح النظام التعليمي وتحفيز المواطنين لإيثار التعليم المهني. يمكن لهذه البلدان أن تستفيد من أنظمة التعليم المهني في بلدان مثل الهند والفلبين والتي أصبحت من أهم البلدان المصدرة للعمالة المدربة والتي تدر عليها إيرادات مالية مهمة من تحويلات العاملين في الخارج.

يفترض أن توفر حكومات بلدان الخليج محفزات حقيقية للشباب في سبيل الإلتحاق بالتعليم المهني ووضع شروط مناسبة للإلتحاق بالتعليم الأكاديمي بالإضافة إلى الإرتقاء بالتعليم في المراحل الأساسية، وتوفير هيئات تدريسية متمكنة. وهكذا يمكن تعديل الخلل الديمغرافي ورفع نسبة المواطنين في التعداد السكاني، وتعزيز مساهمة المواطنين الخليجيين في سوق العمل بصورة مفيدة.

منشورات أخرى للكاتب