أين سيظهر تنظيم “داعش” من جديد؟

بعد أن شهد نوفمبر 2017 هزيمة التنظيم الإرهابي الأكبر “داعش” وسقوط “دولة الخلافة في العراق والشام”، يبدو أن السؤال الأهم: أين ستكون محطة التنظيم المقبلة؟ في قارة آسيا أم أفريقيا أم أوروبا؟ أم سيظهر في دولة جديدة من الدول العربية؟
هذا التنظيم الذي خُلق ليبقى ويتمدّد، وصُرف على تسييره وتجهيزه مليارات الدولارات، لن يُسمح له بالتلاشي والانحلال. ومن هنا فإن السؤال اليوم عن وجهته القادمة مطروحٌ أكثر بين الأوساط السياسية والأمنية والاستخباراتية في الدول الكبرى التي ارتبطت بهذا التنظيم، خصوصاً تلك التي قدّمت له السند والدعمين المادي واللوجستي.
هذا التنظيم الذي ظهر فجأةً كالوحش، وفرض صورته الدموية المروعة، لم يأتِ من فراغ، وإنّما كان نتاج التقاء مصالح محلية وإقليمية ودولية، راهنت على إضعاف دولتين مركزيتين في شرق المتوسط، سوريا والعراق، وتمزيق نسيجهما الاجتماعي، لأهداف استراتيجية كبرى.
هذه الظاهرة، ستحتاج إلى الكثير من الوقت للكشف عن أسرارها وألغازها، وفي مقدمتها كيف تم تحشيد ما بين 120 إلى 150 ألف مقاتل، من ثمانين دولة عبر العالم، واستقطابهم من مئات المدن والقرى، وتنظيم نقلهم بسلاسة وسرية، براً وبحراً وجواً، ليجتازوا الحدود الدولية، عبر مختلف المطارات والمحطات، حتى يصلوا إلى دول الاستقبال، حيث يجري تدريبهم ومن ثم توزيعهم على جبهات القتال في سوريا والعراق.
مثل هذا العمل الجبار يحتاج إلى درجاتٍ عاليةٍ من التنسيق والتعاون اللوجستي؛ وإلى موازنات ضخمة تضاهي موازنات بعض الدول متوسطة الحجم؛ وإلى تسهيلات ميدانية عبر الحدود الدولية. وهي أمورٌ ستظل أسراراً غامضة لأمد بعيد، لأن من مصلحة الدول المشاركة في هذه “الفوضى الخلاقة” أن تبقى طيّ الكتمان.
واليوم حيث يقف البلدان المنكوبان –سوريا والعراق- على أعتاب إعلان النصر النهائي على التنظيم، وتطهير أراضيهما من آخر فلول الإرهاب، فإن السؤال الأهم: أين ستكون المحطة القادمة لظهور التنظيم؟

الدائرة العربية

فدائرة الخطر الأقرب هي بطبيعة الحال، تركيا والدول العربية (خصوصاً تونس وليبيا)، التي كانت مصدراً رئيسياً للمتطوعين في صفوف “داعش”، فالتقارير تقدّر هذه العناصر بالآلاف، بينما يكفي وجود عشرات الأفراد الانتحاريين أو بضع ذئاب منفردة لخلخلة الوضع الأمني في أي بلد، كما حدث في فرنسا وبلجيكا، أو تونس ومصر. وتوفر ليبيا الحاضنة الأقرب لهؤلاء، حيث لا تخضع لحكومة واحدة تفرض الأمن وتضبط الحدود، مع وجود قوى محلية مسلّحة على الأرض قريبة في المنهج من “داعش”، فضلاً عن مجاورتها لدولٍ تعرّضت لاهتزازات أمنية كبيرة من الشرق والغرب (مصر وتونس والجزائر)، ما جعل تغذية الخطر عملية متبادلة بينها.

الدائرة الغربية

فدائرة الخطر التالية هي الدول الغربية الرئيسية التي فتحت الباب أمام الراغبين في الهجرة إلى “دولة الخلافة”، منذ وقت مبكر من الأزمة السورية، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وألمانيا. فمن هذه الدول خرج الآلاف من الشباب الباحث عن هويةٍ أو قضيةٍ يُقاتل من أجلها. ومع انتهاء القتال، سيعود عددٌ كبيرٌ من الناجين إلى أوطانهم، محمّلين بتجارب عنفية وآيدلوجيات متطرفة، بينما سيبحث قسمٌ آخر منهم عن ميادين جديدة للقتال.. فأين تكون محطته المقبلة؟

الشكوك الروسية

فهذا السؤال المسكوت عنه عربياً، وشبه المسكوت عنه غربياً، يبدو أكثر إلحاحاً عند الروس، سواءً بحكم تدخلهم الحاسم في الأزمة السورية، أو بحكم معلوماتهم بأعداد العناصر التي التحقت بالتنظيم من روسيا وغيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة، فضلاً عمّا يُنشر من تقارير عن عودة هذه العناصر إلى أفغانستان، مركز الانطلاقة التاريخية للجيل الأول من المقاتلين الإسلاميين، حيث تتوفر أمامهم فرص التسلل عبر الحدود. وهو ما دعا نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف للتساؤل مؤخراً: ماذا سيفعل الحلفاء الموجودون عسكرياً في أفغانستان؟ وهي نبرةٌ لا تخلو من التشكيك أو الاتهام غير المباشر للطرف الذي يمسك بالأرض في أفغانستان.
الكثيرون في المنطقة وخارجها يؤمنون بنظرية تورط الأميركيين بدعم “داعش”، وهي نظريةٌ عزّزتها التصريحات الواردة عن وزيرة الخارجية بالإدارة الأميركية السابقة هيلاري كلنتون، فضلاً عن الرئيس دونالد ترامب، بالمسؤولية عن خلق “داعش”. من هنا تطرح فكرة عن عملية إعادة تجميع العناصر المتبقية من التنظيم وتوجيهها نحو محطتين مهمتين محتملتين لتحقيق أهداف استراتيجية أخرى، في ظل مناخ دولي يميل للتوتر والصدام. المحطة الأولى روسيا، التي يملك التنظيم ثارات كبيرة للإنتقام من هزيمته في سوريا؛ والمحطة الأخرى الصين، القوة الدولية المنافسة التي يتوقّع الأميركيون اقتراب موعد المواجهة معها جنوب شرق آسيا في الأفق المنظور.

منشورات أخرى للكاتب