مقتدى الصدر في السعودية… اختراقٌ أم احتراقٌ؟

كانت زيارة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، للمملكة العربية السعودية مفاجئة، وأثارت الكثير من ردود الأفعال العراقية والخليجية، بين ترحيبٍ ومعارضةٍ وتفنيد.
مع هذه الزيارة عاد الكثير من الإعلاميين العرب للحديث عن عودة العراق إلى “الحضن العربي”، وتوسّع بعضهم في تصنيف شيعة العراق إلى شيعة عرب وشيعة صفويين، وهي مصطلحات مستهلكة تضلل القارئ العربي عن ما يجري في العراق من صراعات سياسية حزبية محتدمة.
الساحة العراقية تتميّز بالتشظي والتشرذم، وتعيش مكوناتها الكبرى صراعات حزبية شديدة. والمكوّنات الثلاثة الرئيسية، الشيعة والسنة والأكراد، تحكمها قيادات حزبية متصارعة، مع الآخرين وداخل البيت الواحد نفسه، حيث تتغلّب المصلحة الحزبية على الوطنية، وهو أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار اضطراب العراق بعد العام 2003، ناهيك عن التدخلات الإقليمية والدولية. وعامل الصراعات الحزبية الداخلية سيبقى مؤثراً في العراق لأمد طويل، ومن يحاول أن يركز فقط على عامل الصراع المذهبي سيخونه التحليل.
بعد العام 2003، سقط الإعلام العربي في فخ التشكيك بعروبة العراقيين، وذلك بعد أن شاركت دول عربية عدة في إسقاط نظام صدام حسين، وقبله شاركت بفعالية في فرض الحصار المحكم على العراق لمدة 13 عاماً. وهو أمرٌ ترك الكثير من المرارة في نفوس العراقيين. وعودة الحديث المرسل عن رجوع العراق إلى “الحضن العربي” بعد خراب البصرة، يولد مرارةً أخرى.
زيارة الصدر جاءت في أعقاب زيارتين رسميتين، الأولى لرئيس الوزراء حيدر العبادي والثانية لوزير الداخلية قاسم الأعرجي، مع فارق أن الصدر لا يحتل منصباً رسمياً وإنما هو زعيم تيار شعبي، طالما انتقد الخليجيين وسياساتهم، وطالما انتقده الإعلام الخليجي كزعيم ميليشيا متطرف. والزيارة أعطت انطباعاً بتنحية الخلاف العقائدي جانباً، والقفز على ما كان متداولاً من خطاب يومي والتركيز على مصالح اللحظة، ونسيان قضية “المهدي” و”جيش المهدي”.
تأتي الزيارة على خلفية الصراع الخليجي الداخلي، الذي أحدث انشقاقاً غير مسبوق منذ تأسيس مجلس التعاون مطلع الثمانينيات. ويمكن أن يفسّرها البعض كخطوة على طريق التحشيد والاستقواء بأطراف أخرى من خارج المنظومة الخليجية. ويعزّز ذلك ما صدر من أحد أبرز المتحدثين القطريين في هذه المرحلة، وهو أستاذ جامعي، من رد فعل غاضب على الزيارة، بينما الموقف الرسمي العراقي كان متوازناً جداً، حيث التزم بسياسة النأي بالنفس عن الطرفين المتنازعين في الخليج، والدعوة للحوار والحل السلمي للأزمة الخليجية.
الزيارة لم تكن عادية بطبيعة الحال، فالدعوة السعودية للصدر كانت تحمل عدة رسائل، سواء لدول الخليج أو الجوار الإقليمي أو الداخل العراقي، وكان لافتاً جداً أن من استقبل الصدر هو السفير السعودي السابق في بغداد ثامر السبهان، الذي أثارت مواقفه السابقة موجةً من المعارضة والانتقادات انتهت بمغادرته العراق قبل أشهر. واستقبال السبهان للصدر معناه أن حبل السياسة السعودية لم ينقطع، وأن أملها باقٍ بالعودة لممارسة دورها في العراق، وفي ذلك نوعٌ من المبادرة الجريئة والتحدّي أيضاً، قد يعتبر في حال نجاحه اختراقاً كبيراً.
إلا أن هذه المبادرة كان لها رد فعل معاكس في العراق، حيث أحيطت بالكثير من الشكوك من خصوم الصدر، خصوصاً حين طالب في اليوم التالي لعودته بحل “الحشد الشعبي”، وهو ما يتطابق تماماً مع ما كان يطالب به السبهان واعتُبر حينها تدخلاً مرفوضاً في الشأن العراقي.
الصدر كشخص ليس بالحصان الذي يمكن المراهنة عليه، فمواقفه متقلبة وغير مستقرة، وكثيراً ما يغيّر اتجاهاته. ولا يمكن إنكار أنه يتمتع بشارعٍ من الأنصار المتحمسين بل والمتعصبين جداً، لكن الحماسة والاندفاع والتعصب لا تكفي لتأمين موقف سياسي ناضج، أو تغيير سياسة واضحة لبلدٍ اجتمعت كلمته على ضرورة الحسم مع الإرهاب وتأمين الاستقرار.
الزيارة لاقت في اليوم الأول تأييداً من أنصاره كما هو متوقع، بل وتفهماً حتى من رئيس الوزراء العبادي، الذي اعتبرها “أمراً طبيعياً”، من أجل احتواء حركة الصدر، لكن اللهجة في اليوم التالي تغيّرت، بعد أن كشف الصدر عن نيته تنظيم مظاهرات، ودعا إلى حل الحشد الشعبي. وهي دعوةٌ سيرفضها العراقيون، خصوصاً أن بلدهم يتحضّر لمعركته الأخيرة مع “داعش”، وتحرير بقية الجيوب والمناطق التي يسيطر عليها. فحلّ القوة الشعبية الضاربة التي ساهمت في كسر شوكة “داعش” وهزيمته في الأنبار والفلوجة وأخيراً في الموصل، تبدو دعوةً تآمريةً على مستقبل العراق، لا تقل خطورةً عن دعوة مسعود البرزاني الذي يحضّر لإجراء استفتاء لاستقلال كردستان وانفصالها عن العراق في هذا الوقت الحرج من المعركة.
ردّ الفعل جاء على لسان العبادي نفسه، وكان مباشراً وسريعاً وحاسماً، بشأن بقاء الحشد الشعبي، فهو قوة “تحت إشراف الدولة والمرجعية” معاً، وهي القوة التي أنقذت الدولة العراقية من السقوط تحت قبضة “داعش” بعدما سيطر في أيام على ثلث أراضي البلد، وكان مندفعاً نحو بغداد وبقية المدن الكبرى وسط العراق.
الصدر له حساباته الداخلية البحتة، فهو يتحضّر للانتخابات المقبلة. ومع أن له وزراء ونواباً وموظفين في الجهاز التنفيذي، إلا أنه يراهن على حصة أكبر من الكعكة، مثل غيره من المتنافسين. ومع قلة التسريبات عن ما دار في المفاوضات، إلا أن التصريحات الأولى التي سربت من جانب الصدر حاولت إعطاء انطباع بأنه طرح مطالب محدّدة، بعضها مساعدات، وبعضها تتعلق بفتح المنفذ البري والمطار وتسيير الرحلات الجوية، وهي تدخل في صلب مهام المسؤولين الحكوميين وليس من اختصاص زعيم قوة يصفها الإعلام الخليجي بـ”الميليشيا”. بل إن جهات عراقية تعتبر الصدر غير ذي اختصاص، ولم يخوّله أحدٌ أو يكلّفه بمهمة رسمية للحديث باسم دولةٍ لها حكومة وبرلمان. بل إن بعض ما روّجه التيار من مطالب يعد تدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة المضيفة، ما يُتوقّع أنها ستُجابه بالرفض والامتعاض لو تجرأ على طرحها على السعوديين.
من هنا، فإن زيارة الصدر للسعودية لن تمنحه مكاسب إضافية داخلية، بل العكس، قد تكون عبئاً عليه، وتعطي خصومه أوراقاً إضافية لمهاجمته، خصوصاً أن له سوابق لا تعطيه أهليةً للحديث عن حلّ الحشد الشعبي، الذي أصبح قوة نظامية خاضعة للدولة، على خلاف “السرايا” التي يقودها، أو “جيش المهدي” الذي خاض به معاركه الداخلية وقدّم صورةً لحركة ميليشيا منفلتة، وتورّط في صدامات طائفية طاحنة، حتى اضطرت الدولة للاصطدام به أيام وزارة نوري المالكي.
لا يبدو أن زيارة الصدر للسعودية ستثمر عن الكثير، ولكنها إذا أثمرت فستعتبر اختراقاً سعودياً كبيراً للعب على تناقضات الساحة العراقية بكل تأكيد.

 

منشورات أخرى للكاتب