مآلات الأزمة القطرية… إلى أين؟

تلاشت أمآل الخليجيين بحلٍّ للأزمة التي نشبت فجأة بين قطر والدول الأربع المقاطعة للدوحة: السعودية والإمارات والبحرين ومصر. الأزمة مرشحة إلى الاستمرار لأسابيع أو أشهر.
بعد يوم واحد من اختتام قمة الرياض التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع أكثر من خمسين من رؤساء الدول الإسلامية، تفجّرت الأزمة بشكل فاجأ الكثيرين، لم تكن هناك مؤشرات أو أسباب ظاهرة لحدوث مثل هذا الشرخ في مجلس التعاون الذي كان حريصاً على الظهور بمظهر متماسك قدر الإمكان. ولم تمر 24 ساعة حتى أزيح الستار عن أعمق أزمة داخلية تضرب هذه المنظومة الخليجية، إذ تتفاعل الأحداث بتسارع.
في البدء كان هجوم إعلامي مكثف عبر نشر تصريحات نسبت لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على بعض الفضائيات الخليجية، تصريحات بدت شاذة عن الموقف الخليجي العام نشرت في وقتٍ متأخرٍ من المساء، استضافت القنوات عدداً من المتحدثين للتعليق على التصريحات بمنحى هجومي واضح. ولتزامن البث مع منتصف الليل بدت الدوحة متفاجئة وغير مصدقةٍ لما حدث في الصباح. سرعان ما أعلنت الدوحة أن التصريحات لم تصدر عن الأمير، وأنها محض مادة إعلامية مفبركة. لكن هذا الإعلان الرسمي لم يغيّر من موقف الدول الأربع، فاستمر الهجوم الإعلامي باعتبار التصريحات حقيقية، وأن الدوحة يجب أن تُدان.
الهجوم كان مركّزاً وكثيفاً، وأعلن عن فرض حصار جوي وبري وبحري مع ضغط إعلامي متواصل. وانتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي تسريبات عن إجراءات أشد، وهو ما استشعرت معه الدوحة احتمال حدوث عمل عسكري.
مقاربة الدوحة القائمة على وقوع اختراق حدث عبره زرع هذه الأخبار، عزّزته بالاستعانة بوكالات أجنبية (أميركية وبريطانية)، للتحقيق في الأمر وإثبات الاختراق وتحديد مصدره، وبالتالي تأييد وجهة نظرها. وفي الوقت نفسه خطت بسرعةٍ في اتجاهين لخرق الحصار، بالاستعانة بدولتين إقليميتين: إيران وتركيا.
وقعُ الحصار كان شديداً للوهلة الأولى، انتشرت لقطاتٌ لرفوف محلات الأغذية الفارغة، وهو أمرٌ عالجته الدولة بانفتاح سريع على الجار الشمالي، الذي تلقّف الفرصة وأعلن عن تخصيص بعض موانئه الجنوبية لتصدير ما تحتاجه الدوحة من مواد غذائية، فضلاً عن فتح أجوائه أمام الطيران القطري، بعد غلق الأجواء الإماراتية السعودية البحرينية أمامه.
في الاتجاه الآخر، لجأت قطر إلى حليفتها تركيا للتزوّد بالغذاء من ناحية، ولتأمين الحماية والدعم العسكريين من ناحية أخرى. وهي فرصةٌ تلقّفها الأتراك لتعزيز نفوذهم في المنطقة بعد سلسلة من الإخفاقات، والتموضع مادياً في قلب الخليج بعد قرنٍ من إجلائهم عن المنطقة نهاية الحرب العالمية الأولى. وخلال يومين، مرّر البرلمان التركي اتفاقية التعاون العسكري مع قطر في 7 يونيو 2017، والتي سرعان ما وُضعت موضع التنفيذ بإرسال دفعات من الجنود والدبابات إلى قطر.
الأحداث التي تطورت دراماتيكياً أعطت انطباعاً لدى كثيرين بقرب حدوث عمل عسكري ضد الدوحة، ولكن بوصول الجنود الأتراك شعر القطريون بتأمين جانبهم عسكرياً. هناك من أكد أن العمل العسكري كان احتمالاً وارداً في أول أيام الأزمة، لكنه اليوم أصبح صعباً، خصوصاً بعد امتصاص الصدمة الأولى، والدخول التركي المباشر على الخط. وإلا أن التواجد التركي سيظل مشكلةً أخرى تواجه الخليج مستقبلاً، حتى لو تجاوزت دول الخليج المشكلة الحالية قريباً، إذ من الصعب أن يقبل الأتراك بالجلاء السهل دون أثمان.
الجانب الإنساني كان حاضراً من اليوم الأول من الأزمة، خصوصاً أن الإجراءات مسّت النسيج الشعبي الخليجي المترابط، بحكم العلاقات القبلية والمصاهرة، فضلاً عن آلاف الطلاب الجامعيين الذين سيفرض عليهم قطع دراساتهم ومغادرة البلد المضيف، إلى جانب التجار والشركات وأصحاب رؤوس الأموال. وهي خسارات كبيرة نتجت على هامش الأزمة الخليجية.

الموقف الدولي
الأزمة أخذت أبعاداً إقليمية ودولية منذ يومها الأول. الموقف الأميركي كان غامضاً، وسيظل كذلك للفترة المقبلة، حيث تبرز التناقضات بين تصريحات الرئيس وأقطاب إدارته للمراوحة بين الضغط على هذا الطرف أو ذاك، والإبقاء على الأزمة في درجة من الغليان المُسَيطَر عليه. ومقابل دور الوسيط البرئ الذي اتخذه الأميركان، دعا الأوروبيون والروس إلى الحوار لحلّ الأزمة التي سيتضرر منها جميع دول المنطقة.
الأسابيع التالية تقدّم نموذجاً لطريقة إدارة الأزمة، عبر الوسائل الناعمة، والتهويل الإعلامي، والرد والرد المضاد. فبعد استنفاد قائمة التهديدات، وتراجع احتمالات العمل العسكري، باتت الحرب مفتوحة عبر الفضاء الإلكتروني، حيث برز لكل طرف منصات وشخصيات وأدوات تتبنى سياساته، وتدافع عن موقفه، وتهاجم الطرف الآخر بشراسة وعنف. في هذه الحرب “البديلة”، تم تجاوز كثيرٍ من الخطوط الحمر، والتقاليد التي كانت تؤخذ في الاعتبار في الخلافات التي نشبت في الفترات السابقة بين الدول الخليجية أو العربية. وبما أن عنوان الخلاف هو محاربة الإرهاب، شهد الرأي العام العربي سجالات مفتوحة واتهامات متبادلة بدعم الإرهاب، بل ومفاضلات بين من كان يدعم أقل من الآخر.

الأزمة إلى أين؟
المتتبع لمسار الأزمة يرى أنها تتجه إلى طريق مسدود، فالدول الأربع تراهن على تعزيز الحصار وتشديد الإجراءات، مع التعويل على التأييد المحلي الذي تتصدى لإدارته وسائل الإعلام الرسمي والإعلام الجديد (الرديف). في المقابل تراهن الدوحة على عامل الوقت، للخروج من الحصار الخانق الذي ترى أنها نجحت بدرجة كبيرة في مقاومته، والتعويل على تفهّم قطاعٍ من الرأي العام العربي، والموقف الدبلوماسي الغربي في ظل دبلوماسية نشطة.
الأزمة تبدو دون أفقٍ للحل في المستقبل القريب، فمع التصعيد الإعلامي، تتمسك الدول الأربع بموقفها ومطالبها الـ13، بينما رأت فيها قطر مساً بسيادتها الوطنية، و”أنها وُضعت أصلاً لتُرفض”. ومع دخول الأزمة شهرها الثاني، أعلنت الدول الأربع بعد اجتماع القاهرة أن شروطها باتت ملغاةً.
سيستمر الموقف الأميركي الغامض، بين الضغط على الدوحة “الحليف الاستراتيجي”، والدفاع الدبلوماسي عنها على طريقة أن “على حلفائنا أن يتذكروا أن قطر استضافت وفوداً من حركتي (حماس) و(طالبان) بناء على طلبنا”، كما قال المدير السابق لـ(CIA) الجنرال ديفيد بترايوس.
كان هناك أملٌ عامٌ بأن الأزمة نهايتها قريبة أملاً بنجاح الوساطة الكويتية، إلا أنها تبدو أكثر استعصاءً على الحل الآن، ولا يستبعد أن تظل معلقةً شهرين أو أكثر. الكثير من المياه الجديدة تدفقت تحت الجسر، والخليج الذي عرفناه لخمسة وثلاثين عاماً لن يعود كما كان.

* مصدر الصورة http://www.asergeev.com

منشورات أخرى للكاتب