العداء الإيراني السعودي: الثابت الوحيد في إقليم يتغير

في الآونة الأخيرة، تستمرئ تصريحات المسؤولين السعوديين المقرّعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية ولدورها في المنطقة ردود الفعل الفاترة التي يعقب بها موظفو الخارجية الإيرانية، لتصل حدة التصعيد الكلامي الصادر عن أركان العائلة الحاكمة والنظام السياسي التابع لها مستويات غير مسبوقة. وإذا كان وزير الدفاع الإيراني لدى تهديده قبل أيام بتدمير المملكة عن بكرة أبيها باستثناء مكة والمدينة في رده على حديث ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التي توعد الأخير فيه بنقل المعركة إلى داخل إيران، قد حاول مجاراة النبرة العدوانية في لغة الوعيد السعودية ضد بلاده، فإن الحقائق الميدانية للمعارك المحتدمة على امتداد رقعة الإقليم بين وكلاء وحلفاء الطرفين تغني عن الحاجة لتتبع إحداثيات الأزمة المتصاعدة بينهما في ما تنقله وكالات الأنباء من أحاديث للمسؤولين في كل منهما.
الانتخابات الإيرانية
علاقة إيران بجوارها الإقليمي واحدة من الموضوعات الرئيسية التي تشغل الطبقة السياسية والجمهور الإيراني وتطرح نفسها بإلحاح، يُقبل الإيرانيون على انتخابات رئاسية الأرجح أن لا تُحسم نتائجها في الجولة الأولى وأن تستلزم تنظيم جولة ثانية بين المرشحَين اللذين ستستقر عليهما المنافسة التي يصعب التنبؤ في ما ستسفر عنه مخرجاتها، سيما وأن حالة من غياب الرضا عن كل الأسماء المرشحة في كلا المعسكرين اللذين جرت العادة على تقسيمهما إلى إصلاحيين ومتشددين هي السمة التي تهيمن على المزاج الشعبي.
الإصلاحيون الذين هم الأقرب في تبني خطاب تحسين العلاقات مع الغرب والإقليم وفي القلب منه السعودية، وعلى عكس الانتخابات السابقة، يخوضون المعركة الحالية بمرشحهم الأبرز الرئيس حسن روحاني ببرنامج ووعود فاترة وفي رصيدهم إنجازات متواضعة سبّبها انسداد الأفق السياسي الذي نجم عن انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وما خلّفه من انتكاسة في مسار الانفتاح الإيراني على الغرب. أيضا فإن تجربة الرئيس حسن روحاني في الحكم خيبت الآمال التي كانت قد علّقت عليه لدى انتخابه رئيساً في المرة الأولى عام 2013، ومنيت بإخفاقات كبيرة تنكرت للوعود التي كان قد أطلقها، إذ واظب الأخير على تبريرها بحجة مفادها أنها إرهاصات للتركة الثقيلة التي خلفها حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد.
كذلك فإن معسكر المتشددين لا يبدو أفضل حالاً عن منافسيه في ظل عجزه عن تقديم مرشحين كاريزماتيين يحظون بثقل سياسي وشعبي وازن يستوفي بحسب البعض متطلبات خاصة تؤهله لأن يعبر عن رد الفعل الإيراني تجاه ما استجد في الأشهر الماضية من إدارة الغرب ظهره لمسار التفاهمات مع إيران، وبخاصة أنه قد جرى استبعاد المرشح أحمدي نجاد الذي كان المتشددون يعولون عليه كحصان رابح في هذا السباق.
عداء عابر لموقع الرئيس
ولئن كانت المقاربات السياسية لمعسكر المتشددين فيما يتصل بالعلاقات الإقليمية والدولية هي الأقرب إلى تصورات المرشد الأعلى للجمهورية والمؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية التابعة له، فإنه ومن حيث المبدأ، يمكن الجزم بأن ملف علاقات إيران مع الغرب والإقليم يتجاوز نطاق الإشراف والصلاحيات لموقع رئاسة الجمهورية، وأنه يندرج ضمن اختصاصات قيادة الثورة والأجهزة المحيطة بها، وهي الهيئات التي يمكن لنا استعارة وصف “الدولة العميقة” للإشارة إليها. وبالحديث عن العلاقة مع السعودية فإن مشاريع إيران الإقليمية التي تثير مخاوف السعوديين تعبُر من فوق موقع الرئاسة الذي تقتصر المفاضلة السعودية بين المرشحين لشغله على حدود مستوى العدائية في الخطاب ليس إلا، من دون أن يجد هذا التفاوت الخطابي ترجمة له في ميادين الاشتباك بين البلدين.
الأهم من ذلك، هو أن العقل السياسي الإيراني يقارب الأمر وفق معادلة ترى بأن وجهة الجهد السياسي من أجل فك العزلة الدولية وتهدئة التوتر من حولها في الإقليم، ينبغي تعيين مسارها نحو الغرب. وفي حساباته أن أي تسوية قد يصل إليها معه من شأن مفاعيل التهدئة التي تترتب عليها أن تنسحب ولو بالإكراه على كل الأجواء المتوترة المهيمنة على علاقة إيران بخصومها في الإقليم وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية.
أما بالنسبة للسعودية فإن توالي الإخفاقات السياسية والعسكرية التي منيت بها، وعجزها عن تحقيق أي إنجازات تذكر في المعارك الإقليمية التي تخوضها ضد إيران وحلفائها، فاقم من حدة التوتر والانفعال المهيمن على سلوكها وخطابها السياسي ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي ربما سحب نفسه بالتبعية على علاقة المملكة بكل الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى. فما بين الغرق في مستنقع القتال العبثي في اليمن من دون أن تلوح أي بوادر لمخارج آمنة منه حتى وإن اقتصر على خروج بحل سياسي يحفظ ماء الوجه، وحرب سورية تدخل عامها السابع من دون أن تنجح في إسقاط نظام الأسد، ونجاح إيراني في استئصال مواطن النفوذ السعودي على الساحة العراقية، واختلال في علاقة المملكة بحلفائها التقليديين في المنطقة، وفوق ذلك نزاعات داخل الأسرة الحاكمة نفسها لم تعد خافية على أحد. تجتهد المملكة بشق الأنفس في قطع الطريق على التقدم الإيراني في أي من ميادين المواجهة معه. وهي في سبيل ذلك وبوعي ربما منها بالقصور في فاعلية عناصر قوتها الذاتية في مواجهته، تحاول بشتى الطرق عرقلة مساعي فك العزلة الدولية عن إيران وتشجيع الإدارة الأمريكية الجديدة للانقلاب على الإطار السياسي الناظم لعلاقتها بإيران والذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وحث الغرب والمجتمع الدولي على الانخراط بأجندات حلول راديكالية مفترضة في ميادين المواجهة المفتوحة في الإقليم وبخاصة في اليمن وسوريا، أملاً في أن تلتف على ضعف أدواتها الذاتية عبر تعويض أوجه العجز والنقص المختلفة باستدراج فاعلين دوليين إلى قلب المواجهة لتعديل الكفة لصالحها أو أقله ضمان التوازن.
خاتمة:
أياً كانت المناورات السياسية والعسكرية التي تجريها كل من إيران والسعودية، وبغض النظر عن مكاسبها الآنية لأي منهما، فإن العامل الدولي والأمريكي على وجه الخصوص لا زال يحتفظ بقدرته على خلق توازنات جديدة وحاسمة على صعيد النزاع بينهما في اللحظة التي يقرر فيها شكل ونطاق مستوى التدخل الذي يبتغيه. ولعل الإبهام والغموض المطبق الذي يلف نوايا الإدارة الأمريكية الجديدة فيما يتعلق بملفات السياسة الدولية هما ما يشعل فتيل القلق والعصبية في الإقليم، فإلى أن تفصح هذه الإدارة عن أولوياتها عما إذا كانت تدخلاً عسكرياً مباشراً في سوريا أو حرباً بعيدة مع كوريا الشمالية، وتحدد نطاق تدخلها في الحرب اليمنية، فإن مستقبل الصراعات الدائرة في الإقليم أقلها في الوقت الحالي، لن يقرره ملك في الرياض أو رئيس في طهران، بل إعلان مرتقب يتلوه المتحدث باسم البيت الأبيض.

منشورات أخرى للكاتب