الحرب في اليمن: تضاعف الانتهاكات والإفلات من العقاب

فرض التدخل العسكري لقوات التحالف العربي في اليمن تعدد الأطراف المحلية والإقليمية الفاعلة على الأرض اليمنية، وبالتالي تعدد المنتهكين بحق المدنيين اليمنيين، وأمام وضع معقد كهذا كان لزاماً على المجتمع الدولي الاضطلاع بمسؤوليته الأخلاقية والإنسانية التي تبدأ بمراقبة العمليات العسكرية لهذه الأطراف وحصر أخطائها والوقوف على مسافة واحدة من انتهاكاتها والانتصار للضحايا، إلا أن تذبذب مواقف المجتمع الدولي وتحيزاته السياسية انسحبت بدرجة رئيسية على موقفه من الانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتصارعة في اليمن، ويبدو أن انشغال المجتمع الدولي بالحرب في سوريا، إضافة لارتهانه سياسياً ومالياً للقوى الدولية الممولة للسلاح لدول التحالف في اليمن، وهو ما أثر على مقاربته لقضية انتهاكات أطراف الصراع في اليمن، وقد استثمرت الأطراف المتصارعة تواطئ المجتمع الدولي لصالحها، واستطاعت عبر المنظومة الإعلامية والقانونية التابعة لها من التنصل من مسؤوليتها القانونية حيال استمرار سقوط الضحايا اليمنيين، وشرعنتها لمبدأ الإفلات من العقاب.

إن تعقد بنية الحرب في اليمن، واستطالة أمدها وتداخل مصالح الأطراف المتحاربة، قد ضاعف الانتهاكات التي طالت ولا زالت تطال اليمنيين، فمن الصعب في ضوء هذه المعطيات تحديد قائمة نهائية للأطراف المسؤولة عن الانتهاكات خاصة مع توالد الجماعات المسلحة وتنامي الانفلات الأمني، إلا أنه يمكن تسمية المنتهكين الرئيسين لحقوق الإنسان في اليمن، وتأتي جماعة الحوثي والقوات التابعة للرئيس السابق علي عبدالله صالح في قائمة المنتهكين لليمنيين، وذلك لتعدد انتهاكاتها وتجاهلها للقوانين المنظمة للحروب والنزاعات الأهلية، فمنذ اسقاطهم لمؤسسات الدولة اليمنية في سبتمبر2014، حرصت جماعة الحوثي وقوات صالح على إخضاع المدن اليمنية بالقوة، وإلحاق الضرر المباشر بالمدنيين، عبر قصف التجمعات السكنية بشكل عشوائي وفرض حصار خانق على المدنيين، إضافة إلى الاعتقالات والإخفاء القسري والتعذيب في السجون.

تكمن المفارقة في الحرب اليمنية في تحول دول التحالف العربي المتدخلة في اليمن بقيادة السعودية من منقذ لليمنيين من جرائم مليشيات الحوثي وقوات صالح، كما تزعم البروباجندا الإعلامية التابعة لهم، إلى التحول لجلاد آخر ينكل باليمنيين، فما تؤكده الجرائم المرتكبة بحق اليمنيين تصدُّر السعودية وحلفائها قائمة المنتهكين، إذ لا يختلف أداء دول التحالف وسلوكها عن ممارسات جماعة الحوثي وقوات صالح. ففي حين يتم التعاطي مع انتهاكات الحوثي وصالح باعتبارها سلوك صادر عن مليشيات لا تحترم القوانين المنظمة للحروب، لا يقل سلوك الدول المفترض احترامها للقانون الدولي الإنساني عنفاً عن الميليشيات، حيث تؤكد التقارير الحقوقية تصاعد سقوط المدنيين اليمنيين جراء غارات طيران التحالف، إضافة لإصرار السعودية على تجاهل البروتوكولات الدولية المنظمة لسير العمليات العسكرية في الحروب بما تقتضيه من حماية أرواح المدنيين.

لا يكمن تعقيد موقف الضحايا المدنيين في اليمن بتعدد هوية المنتهك فقط، وإنما بالتعاطي معهم كمادة إعلامية تستخدم بغرض الابتزاز السياسي، إذ توظف جماعة الحوثي مقتل المدنيين بغارات التحالف إعلامياً لتكريس مشروعيتها كقوة مدافعة عن اليمنيين من التدخل الخارجي، متجاهلة جرائمها بحق المدنيين في مناطق أخرى، كما استطاعت السعودية قائدة التحالف العسكري في اليمن، بتوظيف علاقاتها الدولية للإفلات من المسئولية الناجمة عن استهداف المدنيين اليمنيين، حيث نجحت بإسقاط اسم دول التحالف من لائحة العار التي وضعتها الأمم المتحدة، ومنع تدويل ملف الانتهاكات في اليمن وحصر متابعته باللجنة الوطنية التي شكلها الرئيس اليمني “عبدربه منصور هادي”، التي لا تملك قراراً يمكنها من تسمية الأطراف المنتهكة لحقوق الإنسان في اليمن، كما أن تجاهل الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي لتبعات الحرب في اليمن ساعد في التعتيم حول هذه الجرائم، فقد أسهم دخول السعودية بثقلها في الصراع اليمني في تجاهل هذه الجرائم لتعدد مسئوليات القوى التي تقف خلف تمويل أسلحة للسعودية ودول التحالف.إلا أن الجلي هنا هو ما كشفته بعض  تقارير المنظمات الدولية من تحول في طبيعة الصراع في اليمن،  وهو ما يؤكد لا اخلاقية أطراف الحرب، اذ لم تعد القضية محصورة في تجاهل المجتمع الدولي للجرائم المتكررة الناجمة عن قصف قوات التحالف للمدنيين وإنما استخدامها أسلحة محرمة دولياً.

أشار تقرير منظمة العفو الدولية في مايو الماضي، توثيق عشرات الحالات في مدينة حجة وصعدة والمناطق اليمنية الحدودية مع السعودية، تؤكد مقتل وإصابة مدنيين يمنيين جراء استخدام السعودية لذخائر عنقودية، وقد حرك هذا التقرير استياء بعض شرائح المجتمع الدولي حيال الحرب الدائرة في اليمن، وهو ما أعاد ملف الضحايا اليمنيين إلى الواجهة الإعلامية، فعلى خلفية التقرير واستجابة لضغط المنظمات الدولية، اعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حينها وقف بيعها صفقة أسلحة للسعودية، إلا أن نفى السعودية لصحة التقرير، واعتباره تشويه للدور السعودي، قد كرس مرة أخرى تسييس ملف الانتهاكات في اليمن.

إن توالي  تقارير المنظمات الدولية عززت ما أكدته منظمة العفو الدولية حول استخدام أسلحة عنقودية في اليمن، وهو ما أقره قائد العمليات العسكرية لقوات التحالف في اليمن، العميد الركن أحمد عسيري” في 19 ديسمبر الماضي، مبررا ذلك بالقول بأن استخدام الأسلحة العنقودية غير مجرم دولياً، إلا أن الاعتراف السعودي المتأخر لا ينم عن مراجعتها لأدائها العسكري طيلة الحرب في اليمن، أو إدراكها لمسؤوليتها الأخلاقية حيال المدنيين الذين قتلوا جراء القنابل العنقودية، وإنما لاطمئنانها أنها والدول المنخرطة في التحالف العربي في اليمن ليست ضمن الدول الموقعة على اتفاقية حظر استخدام القنابل العنقودية، وبالتالي فإن هذا يجعل المسؤولية القانونية تنتقل منها إلى الدول التي زودتها بهذه الأسلحة.

أكد الاعتراف السعودي دورها المباشر في قتل المدنيين اليمنيين ولا مبالاتها حيال هذه الجرائم، لكنه يوجه أصابع الاتهام للدولة الممولة للسلاح والموقعة على المعاهدات الدولية، وهو ما يعني قدرة السعودية على الإفلات من المساءلة، فتولي بريطانيا بدرجة رئيسية ثم أمريكا تمويل السلاح للسعودية وحلفائها، يبرهن على حرصها منع استصدار قوانين تعرّض السعودية ودول التحالف للمساءلة، لحماية نفسها أولاً، وهو ما يؤكده الموقف الرسمي البريطاني، فعلى الرغم من اهتمام الصحف والمنظمات البريطانية بموقف بريطانيا على خلفية تقرير منظمة العفو، ومطالبتها بوقف بيع الأسلحة إلى السعودية، إلا أن بريطانيا التي تتربع على قائمة الدول المزودة للسعودية بالأسلحة، تجاهلت التقارير الدولية، حيث أشار وزير الخارجية البريطاني أن السعودية لم تتجاوز الخطوط الحمراء في حربها باليمن، كما أن الموقف الأمريكي الرسمي يتقاطع مع الموقف البريطاني، الذي ينحصر في تجنيب دول التحالف- وتحديداً السعودية- أي مساءلة قانونية في المستقبل القريب، أو تحريكه بين وقت وآخر بغرض الابتزاز السياسي للسعودية لا أكثر، إذ لم يمنعه ذلك من إبرام صفقات تمويل أسلحة أمريكية للسعودية ودول التحالف.

في حرب منسية كالحرب التي تدور في اليمن، لا تتضاعف فقط الخسائر البشرية لليمنيين أمام فشل الأطراف المتصارعة في حسم الحرب عسكرياً أو إيقافها، وإنما تتضاعف بالمقابل لا مبالاة المجتمع الدولي الذي لا يزال للأسف يتجاهل المأساة اليمنية. كلفة الخسائر البشرية المتزايدة في اليمن تفرض على المجتمع الدولي مراجعة مواقفه حيال ملف انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، والتعاطي مع تلك الخسائر بمسؤولية أخلاقية وإنسانية، تبدأ بتجريم الأطراف اليمنية والإقليمية المنتهكة لحقوق وحياة اليمنيين، ومعاقبة الدول التي تحتمي خلفها والتي تنجح دائما في الإفلات من العقاب .

 

منشورات أخرى للكاتب