الحِراك السعودي: كوابح للحد من هيمنة الخصم

تنطلق التقديرات الرائجة إزاء التحول الأمني والسياسي السعودي مؤخراً من تفسير يرى أن المملكة تسعى إلى الهيمنة، التي تمثل المبدأ العام الناظم لاستراتيجيتها في الإقليم، بعد أن طرأ إحساس وتقدير عام لديها بتخلي الولايات المتحدة عنها.
تبدو مقولة الهيمنة ههنا غير واقعية. فبسط السيادة والنفوذ والإشراف التام على الإقليم الممتد على البحر الأحمر والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط وبحر العرب ممنوع على دول المنطقة الفاقدة للسّيادة المادية والرمزية. إن شرط تحقيق الهيمنة هو امتلاك القدرة على إعلان الحرب وهو حكر على المركب الأمريكي الإسرائيلي. فضلاً عن أن تراتبية توزيع القوة في الإقليم هي من النوع الصّلب وفق توازن إقليمي محكم يحبس قدرة دول المنطقة على تحقيق تطلّعاتها في الهيمنة. تبقى المسافة بين الرغبة والقدرة على تحويلها إلى واقع ملموس مستحيلة حتى على إيران التي تتناولها التحليلات منذ أزيد من ثلاثين عاماً من خلال المقولة ذاتها؛ أي الهيمنة على الإقليم.
لكن التفسير الأكثر واقعية هو أن السعودية لا تسعى إلى الهيمنة على الإقليم وإنما إلى إنشاء كوابح للحدّ من هيمنة الخصم: إيران.
عندما أرسلت السعودية قواتها العسكرية إلى البحرين العام 2011 لحماية العائلة المالكة (السنية) هناك، ولمواجهة ما اسمته بـ”الانتفاضات الشيعية” كان ذلك علامة تحول في المنظومة الأمنية والسياسية للمملكة. وعلى إثر الانتفاضات العربية، قامت السعودية بقيادة الثورة المضادة، وسعت إلى توسيع مجلس التعاون الخليجي ليضم الأردن والمغرب من أجل إيجاد فضاء سياسي مشترك يتشاطر أعضاؤه القيم السياسية المحافظة للحيلولة دون نجاح ثورات الشعوب وتمددها. كان للسعودية دورٌ بارزٌ ومؤثرٌ في تعطيل هذه الثورات من خلال الدعم السّخي للأنظمة العسكرية. فضلاً عن تورطها في حرب اليمن، الشيء الذي رسخ الوعي بأن ثمة تحولاً في السياسة الخارجية السعودية التي ما فتئت تعتمد على المال والدبلوماسية ووكلاء محليين لتنفيذ سياساتها دون أن تتورط بشكل مباشر في الميدان كما هو حاصل اليوم.
تستند السعودية في هذه المرحلة على تكنولوجيا عسكرية متطورة بعد أن أنفقت مليارات الدولارات من أجل تشكيل بنية عسكرية متطورة لمواجهة تحديات البيئة الجيو-استراتيجية المتحولة. ولذلك سعت إلى إجراء مجموعة من التغيرات الجديدة في الحكم من شأنها أن تواجه تلك التحديات من خلال عملية تحريك جريئة داخل الأسرة الحاكمة.
يسوق البعض جملة من المتغيرات وراء استفزاز المملكة استدعت تدخلاً مباشراً، منها تضاؤل اعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي، فضلاً عن شروعها في إجراء اتفاق نووي مع إيران ونفوذ الأخيرة المتصاعد في العراق واليمن ولبنان وسورية. واكتملت خيبة السعودية إزاء الرهان على الحليف التاريخي بعد التشريع الأمريكي “قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب” الذي يتيح لأسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر بمقاضاة السعودية طلباً للتعويضات. وهو ما أكد على تقديرات المملكة التي تذهب إلى أن الولايات المتحدة لا تقدر التحديات الكبرى والمخاطر الجيو-استراتيجية التي تواجهها. تلك التحديات المتمثلة في الطموحات الإيرانية الساعية وفق السعودية، إلى الهيمنة الإقليمية، والتي تحاول بحسب تقديراتها غرس حليف آخر في خاصرتها اليمنية من خلال الحوثيين على شاكلة حزب الله في لبنان. وأن التحول في سياستها الخارجية بحثاً عن توازن جيوسياسي جديد، جاء كرد فعل على المبادرات الدبلوماسية التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي أوباما تجاه طهران في إطار الاتفاق النووي وسياسات واشنطن في سورية التي ترى المملكة أنها تتبع موقفاً أقرب إلى الموقف الإيراني والروسي حول سورية. فضلاً عن انتقاداتها الشديدة للحرب الجوية التي تشنها السعودية في اليمن.
من جانب أخر، يأتي ضم السعودية لجزيرتي صنافير وتيران الواقعتين في مدخل خليج العقبة بالبحر الأحمر إلى أراضيها الإقليمية ليجعل الرياض على علاقة مباشرة وجيو-استراتيجة بإسرائيل. وهو مايوفر فرصاً للأخيرة لبعثرة أوراق منطقة الشرق الأوسط، بما يشمل إعادة تقسيم دول المنطقة من جديد، وهو ما يُعد من منظور إسرائيل سابقة إيجابية في مسألة تبادل الأراضي، تمكنها من محاكاة هذا الاتفاق في المستقبل.
تأسيساً على ما تقدم، توصلت الرياض إلى نتيجة مفادها أن واشنطن لم تعد حليفاً يمكن الوثوق به عندما تركتها لأول مرة تدبر شؤونها الأمنية منفردة. وهو ما جعل المملكة تتحرك في اتجاه اعتماد سياسات تبعدها عن السياسات وثيقة الصلة مع واشنطن.
وتسعى السعودية من خلال البحث عن سياسة إقليمية نشطة إلى زيادة ثقة الولايات المتحدة بها وبالتالي تعزيز التحالف معها تأكيداً للمأثور الساداتي مع بعض التحوير “كل الطرق تؤدي إلى واشنطن”. فضلاً عن ذلك، يبدو الحد من هيمنة إيران ليس ببعيد عن استراتيجية المركب الأمريكي الإسرائيلي فقد عبرت إسرائيل عن سعادتها، ذلك أن هذه التحولات تفضي إلى مكاسب مريحة بالنسبة إليها، على أنّ المكسب الأهمّ – وهو سابقة في تاريخ المنطقة – هو أن العديد من الدول الإقليمية باتت ترى أن المزيد من السيطرة الإسرائيلية يكفل لها بيئة أمنية مستقرة. لذلك هي تسعى إلى أن تنتظم ضمن تحالف إقليمي – بمباركة الولايات المتحدة – بين إسرائيل والسعودية ودول أخرى حليفة؛ لتطويق التوسع الإيراني.
أدى هذا الحراك السعودي إلى تصعيد خطاب إقليمي ينطلق من فرز سياسي شديد الحدة وحالة استقطاب غير مسبوقة من حيث الكثافة والنتائج لا تترك مساحة للفاعلين الآخرين للمساومة وفق خطوط حركية سائلة مع الفاعلين كافة كما كانت في السابق عندما كانت التوازنات الإقليمية تسمح بخيارات مريحة ليست ثنائية صرفة. غير أن حالة الاستقطاب هذه لن تترتب عليها في الأفق، على الأرجح، حرباً واسعة بين إيران والسعودية بل إن هذا الاستقطاب يهدف فقط إلى الحدّ من إمكانية نشوب حرب إقليمية، لأنه في ظل الحالة الاستقطابية الشديدة، فإن المحافظة على البقاء باتت استراتيجية للفاعلين الدولانيين وما دونهم.
وعليه، ومن منظور المركز الأمريكي الإسرائيلي فإن أي دولة طرفية إقليمية تحاول الحصول على مقدار كبير من القوة الإضافية سينتهي بها المطاف إلى الدخول في سلسلة من الحروب الخاسرة. وبناء عليه، فالسياسات الأمنية السعودية تركز على المحافظة على مكانتها في ميزان القوى متكيّفة مع بنية توزيع القوى القائمة التي تضع سقوفاً لتحصيل القوة الإضافية، مما يجعل تكاليف مساعيها في تحصيل قوة إضافية تفوق الفوائد. وهو ذات الدرس الذي استوعبته إيران منذ أكثر من ثلاثين عاماً بصرف النظر عن كل المشاعر القومية المتضخّمة لديها.
تدرك إيران اليوم أن الحقائق الأساسية عن الحياة في النظام الدولي واضحة وتتمثّل في الحد من رغبتها في المزيد من امتلاك القوة الجيوسياسية، وإلا عرضت نفسها لخطر يهدد بقاءها، لذلك تبقى المنافسة الأمنية محكومة بأفق لا يهدد وجودها إن حبست نفسها عن مساعي تحصيل سقف أعلى والحصول على قدر أكبر من القوة الإقليمية والعسكرية، لأن الجهد الإيراني المبذول في نيل المزيد من القوة الإقليمية والنووية والسّياسية يمكنه بسهولة أن يأتي بنتائج عكسية.
لذلك تسعى إيران إلى الحصول على القدر المناسب من القوة، لا إلى الهيمنة على الإقليم وإنما تعتمد كوابح للحدّ من هيمنة الخصوم. تعلم السعودية أن امتلاك قوة إضافية يعني استفزاز إيران وهو ما يدفعها إلى البحث عن المزيد من الفرص للحصول على قوة أكبر، الأمر الذي من شأنه أن يجرّ السعودية إلى سباق محموم لامتلاك القوّة والتسلح لن تستطيع تحمل عواقبه الوخيمة لاسيّما أنّ دفع الإقليم إلى حرب استنزاف ستكون هي الخاسرة فيها من الناحية الاستراتيجية.
ومن منظور إسرائيل فإن استنزاف السعودية وإيران في صراع طائفي يرمي إلى الحدّ من هيمنة إحداهما على الأخرى، يفضي إلى نظام إقليمي متمركز حول إسرائيل، وخاصة أن الحد من نفوذ إيران استراتيجية تحظى بمباركة واشنطن وتل أبيب والعديد من دول المنطقة وعلى رأسهم السعودية.