سيناريوهات متعددة لتفتيت اليمن

عمقت الحرب حدة الانقسامات البينية داخل المجتمع اليمني، وشكل هذا دافعاً لظهور مشاريع تستهدف الدولة اليمنية الموحدة والهوية الوطنية لليمنيين، وبقدر ما شكلت سياقات الحرب باعثاً لهذه المشاريع، إلا أن عوامل أخرى، لا تقل أهمية عنها، ساعدت في تصدير هذه المشاريع التي أمسى بعضها واقعاً بقوة السلاح؛ حيث أدى غياب قوى سياسية يمنية فاعلة في الواقع تتجاوز حالة الحرب، وتتبنى خارطة طريق تضمن حقوق متساوية ومستقبل مشترك لليمنيين، إلى تسيد قوى حاملة لمشاريع التفتيت والتقسيم، إضافة إلى أداء أطراف الصراع اليمنية والإقليمية خلال الحرب، وتنامي الخطابات العصبوية المناطقية والطائفية التي تصب في صالح تحقيق هذه المشاريع.
شكل قرار الحرب الذي تبنته جماعة الحوثي وصالح الإطار العام الذي استمدت منه مشاريع التقسيم والتفتيت صلابتها ومشروعيتها، فقرار الحرب، بما يتضمنه من دلالات سياسية لنجاح أقلية في فرض خياراتها بالقوة على اليمنيين والتنكيل بهم، وخلق هذا الاعتداء ردة فعل في جنوب اليمن تمثل بتنامي مشاريع الاستقلال، وأحيت حرب الحوثيين وصالح في المناطق الوسطى مظلومية تاريخية تطالب بالانفكاك من سلطة المركز. كما أسهمت إدارة جماعة الحوثي وصالح للمناطق التي تقع تحت سيطرتهم في تكريس فعلي لتقسيم اليمن، تجلى ذلك بالتعبئة السياسية والطائفية ضد المحافظات الأخرى، واتخاذ سياسات انفصالية عمدت إلى عزل المحافظات الشمالية عن السياق التاريخي والوطني لليمن الموحد.
لم يكن أداء السلطة الشرعية أحسن حالاً من أداء سلطة الأمر الواقع في صنعاء، إذ أدى فشلها في تثبيت الأمن وتوفير مقومات الحياة في المناطق المحررة في الجنوب إلى بلورة وعي سياسي لدى كثير من الجنوبيين بفشل السلطة في تقديم نموذج وطني يمكن الرهان عليه، وهو ما ساعد في انحسار شعبية السلطة الشرعية لصالح القوى السياسية المطالبة بالاستقلال، كما عمل الوضع المنفلت في الجنوب على تغذية خطاب مناطقي في مدن المواجهات.
تتحرك المشاريع الاستقلالية أو التجزيئية التي تشهدها اليمن في سياقات جغرافية معزولة ومتضادة ومتناحرة، وفي هذا السياق، يبرز مشروع الدولة الاتحادية المكونة من ستة أقاليم، كخيار يتبناه الرئيس “هادي”، ويدافع عن مضامينه السياسية، باعتباره مُخرجاً من مخرجات الحوار الوطني الشامل، فعلاوة على الطريقة الاعتسافية التي أنتجت هذا المشروع، فإن خيار الدولة الاتحادية ليس خياراً آمناً في ظل المتغيرات التي أفزرتها الحرب والتي تعيق تطبيقه، إذ أفرزت الحرب بنية اجتماعية وثقافية منغلقة في كل المدن اليمنية، وقوى مسلحة استغلت هذه البنية لإنتاج خطابها العصبوي، وبالتالي فإن مشروع الدولة الاتحادية الذي لا يزال يبشر به الرئيس “هادي” أسقطته الحرب وجعلت منه مشروعاً غائماً لا وطنياً، كونه يخدم على المدى البعيد تحويل اليمن إلى جيتوهات متحاربة.
في مستوى آخر، يبرز مشروع الفيدرالية وتقسيم اليمن إلى إقليمين على حدود الشطرية السابقة، ويتبنى هذا المشروع جزء من القوى السياسية للحراك الجنوبي التي ترى فيه الحل الملائم لضمان توزيع عادل للسلطة والثروة، وهناك مشروع الفيدرالية المزمنة الذي يستفتى فيه الجنوبيون بعد فترة زمنية حول بقائهم مع الشمال من عدمه؛ إضافة إلى مشروع الاستقلال الذي تنادي به كثير من قيادات الحراك الجنوبي على الأرض، وتطالب باستعادة مؤسسات الدولة الجنوبية.
من البديهي بأن الحرب وتبعاتها على مختلف الأصعدة أسقطت مشروع الدولة اليمنية الموحدة، خاصة مع تقديم جماعة الحوثي وصالح نفسيهما كحامل سياسي لهذا المشروع، إلا أنه وفي المقابل، لا يمكن الرهان على المشاريع المتعددة التي تطرحها القوى السياسية والجماعات المنفلتة التي تستقوي بالسلاح وبالقوى الإقليمية لتنفيذ مشاريعها، فمخاطر معظم هذه المشاريع عديدة، إضافة إلى التحديات التي تواجه تطبيقها في الواقع؛ فعلى الصعيد السياسي، لم تتخلق هذه المشاريع ضمن حراك سياسي وطني، وإنما اتكأت القوى السياسية والاجتماعية الحاملة لهذه المشاريع على شرعية القوة وسياقات الحرب وأجندات الأطراف الإقليمية، وبالتالي هي جزء من مخرجات الحرب وتحيزاتها. وعلى الصعيد الوطني، يعني تطبيق أي من هذه المشاريع حرمان اليمنيين من حقهم في تحديد مستقبل بلادهم، وحسم هذا المستقبل قسراً لصالح الأطراف المتحاربة أو القوى المسلحة المسيطرة على الأرض. أما على الصعيد الأمني والعسكري، فيمثل غياب الأمن في معظم المدن اليمنية، سواء التي تعيش حالة الحرب أو المناطق المحررة، عائقاً أمام تطبيع الحياة اليومية، ناهيك عن المجازفة بتغيير شكل الدولة، إضافة إلى تنامي الجماعات الدينية المتشددة، كتنظيم القاعدة وداعش، وهو ما يعني الحيلولة من تحقيق هذه المشاريع، أو تحالف أصحابها مع الجماعات المسلحة لتنفيذها، وهو ما سيؤدي إلى دورة متجددة من العنف. وعلى الصعيد الاقتصادي، يشكل انهيار الاقتصاد اليمني وتدهور الأوضاع الانسانية لليمنيين، وصولها إلى مستويات المجاعة، تحدياً حقيقاً أمام تنفيذ هذه المشاريع.
لا تقدم السيناريوهات والمشاريع السياسية المطروحة اليوم حلاً للمشكلة الوطنية اليمنية، لكونها تحصر المشكلة في شكل الدولة ولا تطرح معالجات لجذر المشكلة، وهو ما يعني فتح باب للمجهول، ناهيك عن مصادرتها لمستقبل اليمنيين، مما يعني استحالة تحققها لاستقرار سياسي. لكن في المجتمعات التي تعيش حالة الحرب، كما في اليمن، وتفتقر إلى سلطة سياسية وطنية جامعة لاحتكار القرار السيادي فيما يخص تحديد شكل الدولة، فإن تحديد المستقبل السياسي لليمن قد لا يتحدد وفق خيارات القوى السياسية حاملة مشاريع الاستقلال والتجزأة وإنما على ما تريده الأطراف الإقليمية وما يخدم مصالحها.
كدولة متدخلة في الحرب والأزمة اليمنية، يبرز الدور السعودي في إسناد بعض القوى السياسية التي تتقاطع مع مشاريعها، بما ينسجم مع مصالحها الاستراتيجية، ويحمي أمنها القومي من تدفق العنف إلى حدودها، فبقاء اليمن الموحد أو تقسيمه إلى دولتين أو أكثر لا يشكل فارقاً كبيراً للأجندة السعودية في يمن منزوع السيادة، وبالتالي فإنها ستبارك القوى اليمنية القادرة على حماية نفوذها ومصالحها، سواء كانت السلطة الشرعية أو أي قوى استقلالية أخرى في الجنوب.
خلافاً للسعودية، كانت الأجندة الإماراتية واضحة في اليمن منذ بدء العمليات العسكرية، وتركز على الساحة الجنوبية كهدف مستقبلي لمصالحها الحيوية في اليمن، وقد نجحت الدبلوماسية الإماراتية في تحقيق ذلك، بدءاً من تكريس شعبيتها لدى الجنوبيين، حيث اضطلعت بالدور الرئيس في تحرير مناطق الجنوب، وكمرحلة أخرى، استقطبت الشارع الجنوبي من خلال الجهود الإغاثية التي تقوم بها جمعية الهلال الأحمر الإماراتي، ثم شراء ولاءات قيادات الحراك الجنوبي مالياً وتبني خطابه المنادي بالاستقلال، وهو ما بات جلياً في أبوية الإعلام الإماراتي لخطاب استقلال الجنوب والدفاع عنه كخيار مستقبلي محتمل، كون استقلال جنوب اليمن، في حال تحقيقه، يخدم المطامع الاقتصادية للإمارات في الجنوب عامة وعدن خاصة، كما يكرس حضورها كقوة إقليمية صاعدة.
تدفع القوى المحلية المسيطرة على الأرض والأطراف الإقليمية بأسوأ مشاريع التقسيم في اليمن، ولم يعد ذلك محض مخاوف لدى اليمنيين وقد باتت ملامحه واضحة، إذ أنتجت تموضعات أطراف الصراع اليمنية في الحرب خارطة جغرافية محددة يمكن البناء عليها، هي: سلطة الأمر الواقع في العاصمة ومحافظات شمالية أخرى، وسلطة الشرعية في المناطق الجنوبية المحررة، إضافة إلى مدن يمنية أخرى تسيطر عليها جماعات مسلحة قد تنساق مع أي مشروع يناسب مصالحها.
واقع الحرب ديناميكي فيما يخص إنتاج أبطاله ومعاناة العالقين فيه، لكنه قادر على تثبيت حدود لجغرافيا مبتدعة، في اليمن خلقت الحرب خارطة جغرافية للصراع، يمكن اعتبارها مؤشراً لسيناريو متاح لا يحتاج سوى إلى الدعم الإقليمي ليتحول إلى واقع مُعاش.

منشورات أخرى للكاتب