استقلال الجنوب: من مشاريع محلية إلى أجندات إقليمية

تعود جذور مشروع استقلال جنوب اليمن، إلى حرب صيف (1994) التي شنها نظام “علي عبدالله صالح” على شريكه السياسي في تحقيق الوحدة. حيث كرست الحرب، انتهاكات حقوق اليمنيين وخاصة المنتمين إلى الجغرافيا الجنوبية، إلا أن النتيجة الكارثية للحرب، هي حرف مسار الوحدة وضرب المشروع الوطني لليمنيين.
طالبت بعض القوى السياسية اليمنية بإصلاح مسار الوحدة، إلا أن نظام صالح رفض هذه المطالب، واستمر في سياسته القمعية للجنوبيين، فاتسعت رقعة الغضب الشعبي في الجنوب، وانبثق منه “الحراك الجنوبي”، كحراك شعبي، طالب بإزالة آثار الحرب أول الأمر، إلا أن قمع النظام لتظاهرات الحراك، أسفر عن تبنيه لمشروع الاستقلال، ثم ما لبثت أن تعددت مشاريع الاستقلال، حيث طالبت بعض فصائل الحراك باستعادة الدولة الجنوبية السابقة، في حين أنكرت بعض الفصائل الهوية اليمنية للجنوب وطالبت باستعادة مشروع الجنوب العربي.
نجحت ثورة 2011 في توحيد مطالب اليمنيين بإسقاط نظام صالح وتأسيس دولة مدنية تضمن الحل العادل للقضية الجنوبية، إلا أن فشل الثورة اليمنية في تقديم حلول اجتماعية ناجعة وتحولها بعد ذلك إلى صراع عسكري، أسهمت كل تلك المتغيرات إلى تفضيل كثير من الجنوبيين لخيار الاستقلال. كما أن السلطة الانتقالية ممثلة بالرئيس اليمني “عبده ربه هادي” لم تتعاط بجدية حيال القضية الجنوبية وتعالج مسبباتها بما يؤدي إلى تطبيع العلاقة بين الشمال والجنوب وإزالة آثار حرب صيف 94، بالإضافة إلى أن الأحزاب السياسية بما فيها فصائل الحراك التي شاركت في الحوار الوطني، كانت حلولها اجتزائية، وحصرت حل القضية الجنوبية في هوية الدولة اليمنية، ونتج عن هذه المقاربة القاصرة، مشروع دولة اتحادية من إقليمين ومشروع دولة اتحادية من ستة أقاليم، يتبناها الرئيس هادي.
إن فشل السلطة الانتقالية ومخرجات الحوار في حل المشكلات الوطنية وعلى رأسها القضية الجنوبية، أدى إلى ترحيل المظلومية الجنوبية والاحتقانات الاجتماعية المصاحبة لها، والتي ما لبث زحف مليشيات الحوثي وصالح على مدينة عدن وما تبعه من قتل وتهجير الجنوبيين، أن فاقم المظلومية الجنوبية، وعزز من مشاريع الاستقلال والعصبوية المناطقية، إذ لم ينظر كثير من الجنوبيين إلى شكل الصراع السياسي باعتباره صراع على السلطة بين انقلابيين والسلطة الشرعية، وأن الحرب طالت جميع اليمنيين بل فسر الحرب بأنها احتلال شمالي للجنوب، وإعادة لسيناريو صيف 94.
منذ بدء العمليات العسكرية لقوات التحالف العربي في اليمن، دخل متغير في المعادلة السياسية اليمنية وكذلك الجنوبية، إذ لم تعد الأطراف اليمنية المتحاربة تمتلك قرار صياغة مستقبل اليمن، حيث أفسح اللاعبون المحليون المجال السياسي للاعبين الإقليميين، وبات هذا الدور بارزاً بعد نجاح قوات التحالف العربي وتحديداً الإمارات والسعودية في تحرير مدينة عدن وبعض المدن في جنوب اليمن.
حافظت الإمارات على تموضعها في جنوب اليمن، مدافعة عن دورها الجديد، كوصي إقليمي، يسعى إلى تصريف مصالحه، بالاستعانة بأدوات محلية تقوم بدور شرطي يحمي هذه المصالح. لهذه الغاية، وليس إيمانا منها بأحقية أي جماعة في الاستقلال، وظفت الإمارات ملف استقلال الجنوب لصالحها، ودعمت بعض فصائل الحراك الجنوبي مالياً وإعلامياً، ووقفت خلف دعاوى التحريض الجنوبي بطرد الشماليين من عدن، وهدفت الإمارات من خلال تبني هذه التوجهات العصبوية لإخضاع مدينة عدن لإدارتها الفعلية. في حين، تتعاطى السعودية مع استقلال جنوب اليمن بطريقة أكثر احترافية، إذ تعمل على تحريك ملف استقلال الجنوب وفقاً لمجريات معاركها وأجنداتها في حضرموت وفي شمالي اليمن.
إن الحقيقة التي كرستها الحرب في الساحة الجنوبية، هو تحول مطلب الاستقلال من مطلب جنوبي، يتسم بمقدار من الشعبية إلى غطاء لأجندات إماراتية أو سعودية، وتحول بعض فصائل الحراك الجنوبي إلى أدوات إقليمية، إذ تختلف السياقات السياسية التي ولدت حراك (2007) عن حراك ما بعد الحرب، حيث انطلق الأول، من قاعدة شعبية، عبرت عن تمثلاتها، بمظاهرات احتجاجية سلمية، وبآليات محلية، ومهما اختلفنا مع أطروحاتها إلا أنها انطلقت من خيار جنوبي وليس من مقاربة إقليمية للمظلومية الجنوبية، فمشاريع استقلال الجنوب في يمن ما بعد الحرب، لا تتغذى من المظلومية الجنوبية بل من إصرار الأجندات الإقليمية في إزاحة أي حلول وسطى تضمن بقاء اليمن الموحد، واستخدام ورقة استقلال الجنوب كأداة سياسية للضغط على السلطة الحالية أو أي سلطة سياسية قادمة.
لم تتحل الشرعية اليمنية، بالمسئولية الوطنية، لمعالجة القضية الجنوبية في ضوء المتغيرات التي فرضتها الحرب، واكتفت الشرعية باتباع سياسة “صالح” في تعاطيه مع القضية الجنوبية، إما بإنكارها أو شراء ولاءات بعض القيادات الجنوبية أو بترحيلها للمستقبل. وفي سياق التدخلات الإقليمية التي باتت تحكم اليمن، تخلت الشرعية اليمنية، عن ملف الجنوب لصالح حلفائها الإقليميين، وهو ما يفسر استبعاد القضية الجنوبية من المشاورات اليمنية في الكويت، ويؤكد إصرار الشرعية اليمنية والفرقاء اليمنيين عزل القضية الجنوبية عن سياقها الوطني.
لم يحتفل الجنوبيون بالعيد السادس والعشرين للوحدة اليمنية، وتم إلغاء يوم “22 مايو” كعيد وطني، في حين احتفلت جماعة الحوثي وصالح في صنعاء بالوحدة، متجاهلين حقيقة تمزيقهم النسيج الوطني، وتقويضهم لما تبقى من ممكنات بقاء الوحدة اليمنية. في عشية الوحدة، تتعدد مشاريع مقاربة القضية الجنوبية، من مشروع ينادي بالاستقلال واستعادة الدولة الجنوبية ومشروع ينادي بدولة الجنوب العربي، ومشروع اليمن الاتحادي، الذي لا يختلف عن المشاريع التمزيقية الأخرى، في خلق دويلات يمنية متصارعة دون حل جذور كل تلك الاحتقانات الاجتماعية.
يؤمن كثير من اليمنيين بعدالة القضية الجنوبية، لكنهم باتوا يدركون أنه لا يمكن حلها بانتزاعها من سياقها التاريخي الذي تخلق في حرب صيف 94، وتكريس مظلوميتها في الحرب الداخلية التي دشنتها مليشيات الحوثي وصالح، وبالتالي لا بد من الاعتراف بأن أصل المظلومية الجنوبية نابعة من أسباب سياسية وليس جغرافية، وأن أي حل للقضية الجنوبية حتى لو كان استقلال الجنوب، لا يكون باستغلال الأجندات الإقليمية في حسم خيار جنوبي، أو استحضار رد انتقامي على مواطنين شماليين، قد يؤدي إلى إشعال اقتتال أهلي في الجنوب.
على امتداد تاريخها، ناضلت الحركة الوطنية في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية، وقتل العديد من قياداتها، في حين لازال بعضهم مخفي قسراً في سجون” صالح”، لذا تظل الوحدة اليمنية بالنسبة لكثير من اليمنيين معطى وجدانياً لا يمكن المساس به، على الرغم من الحروب التي شنت باسمها، والانحرافات الذي تعرضت لها، لكن في يمن ما بعد الحرب، لا مجال للتكهن ببقاء خيار الوحدة، ولامجال للاعتقاد بأن بلداً يعيش قسوة الحرب، وتحكمه نخب سياسية ومليشيات طائفية، يمكن أن يُخضع المشاريع الاستقلالية والأجندات الإقليمية، ويحافظ على هويته الوطنية. وفي واقع كهذا قد تصبح اليمن الموحد ليس مجرد دولتين وشعبين كما يقال بل دويلات صغيرة لشعوب متحاربة.

منشورات أخرى للكاتب