الشيعة في السعودية وسؤال الهوية

تمر علاقة الشيعة في السعودية بمحيطهم الوطني بمرحلة حرجة جداً في أعقاب إعدام الشيخ نمر باقر النمر وآخرين والذي جاء على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها قرى قطيفية بدأت مع حادثة البقيع في 2009 وتكررت بشكل متقطع إلى أن تصاعدت مع أحداث الربيع العربي.
كما أن زج اسم شيعة السعودية في سياق التوتر السياسي بين حكومتي السعودية وإيران يسهم في حالة القلق لدى المجتمع الشيعي لأن ذلك يختطف مطالبهم المحلية لإزالة التمييز ضدهم.
تقع الهوية الخاصة للشيعة، والتي يرونها لأنفسهم ويراها الآخرون لهم أيضاً، في قلب هذه العلاقة الشائكة بين الشيعة ومحيطهم الوطني، ولذلك رأيت ضرورة فهم هذه العلاقة بسياقها الوطني وعلاقة الهوية الفرعية للشيعة بالهوية الوطنية الجامعة.

الهوية السعودية
صاحبت موجة الهجمات الإرهابية التي نفذها أتباع تنظيم القاعدة على أهداف مدنية وحكومية في السعودية منذ 2003 دعوات لمحاصرة هذا التيار وهزيمته فكرياً.
وكانت إحدى الوسائل التي اتبعت لتحقيق هذا الهدف التركيز على مفهوم الوطن. تجلى ذلك مع إطلاق سلسلة لقاءات الحوار الوطني والتي عقدت أولى حلقاتها في 2003 بمشاركة 30 شخصية من مختلف الطوائف والتيارات الدينية، وإدخال منهج التربية الوطنية في المدراس، مروراً بإقرار اليوم الوطني كإجازة رسمية اعتباراً من سبتمبر 2005.
أثارت هذه الخطوات الرمزية وغيرها آمالاً بأن تتبعها برامج أوسع للإصلاح السياسي وصياغة مفهوم للوطن عبر هوية جامعة لمختلف الأطياف المكونة للنسيج الوطني في السعودية، وهو ما لم يتحقق بعد.

الوطن
عارض التيار السلفي التقليدي بعض الخطوات الرمزية التي اتخذتها الحكومة لإبراز مفهوم الوطن في التعريف الجيوسياسي والذي يحوي في جنباته مجموعات سكانية متباينة ثقافياً ومذهبياً.
فقد أصدرت مجموعة من علماء الدين حينها فتاوى مكتوبة وعبر برامج التلفزيون تحرم الاحتفال باليوم الوطني تحت عدة عناوين شملت عدم جواز الاحتفال بأي عيد سوى عيدي الفطر والأضحى واعتبار أي احتفال سنوي آخر بدعة. أثارت تلك الفتاوى ردود فعل داخل التيار الديني ذاته ناقشت مفهوم البدعة المحرمة والتي تقتصر على مجال العبادات وأن اليوم الوطني يمثل عادة لا ترتبط بأمور تعبدية ولذلك فإن الأصل فيه الإباحة.
كما شملت اعتراضات التيار السلفي التقليدي ضرورة عدم تقديم أي انتماء على الانتماء للأمة الإسلامية الأوسع، والتحذير من التشبه بالكفار. لم تمر مؤتمرات الحوار الوطني دون منغصات هي الأخرى.
ركزت أولى جولات الحوار الوطني والتي عقدت في يونيو 2003 على أهمية الوحدة الوطنية، ومكافحة الغلو والتشدد والتوسع في سد الذرائع مع التركيز على التنوع الفكري بين شرائح المجتمع. أقيمت هذه اللقاءات، في فترة شهدت فيها السعودية عدة أعمال إرهابية، لتؤكد على القبول بالتعدد الثقافي والمذهبي القائم فعلياً في المجتمع السعودي باعتباره أحد المقدمات الضرورية لتخفيف التعصب وإرساء ثقافة الحوار والقبول بالآخر المختلف.
يقول الدكتور توفيق السيف، وهو الباحث في شؤون الإسلام السياسي وأحد الناشطين السياسيين الشيعة في كتاب له تحت عنوان “أن تكون شيعياً في السعودية” بأن المجتمع السعودي ظهر “في هذا المؤتمر منقسماً بين قطبين، السلفية الرسمية في طرف وبقية السعوديين في الطرف الآخر”. [1]
وأضاف “التقليديون في التيار السلفي رفضوا دعاوى الغبن. كما رفضوا المطالبة بالتعدد. لأن قبوله يعني حسب تقديرهم إقراراً بأن الحق قد يوجد خارج الإطار السلفي وهذا يتعارض مع أحد الأركان الأساسية للمنهج السلفي التقليدي”. [1]

لم تنشر وسائل الإعلام وقائع جلسات الحوار الوطني تلك كما بقت الحكومة مشرفة ومنظمة لجولات الحوار الوطني ولم تكن طرفاً فيه وهو ما عده البعض نقصاً في هذا المشروع.
فقد كتب الدكتور خالد الدخيل، أستاذ العلوم السياسية في مقال في صحيفة الاتحاد الإماراتية “الحكومة تنتظر من أطراف الحوار الآخرين أن يمارسوا دورهم بهذه الصيغة من الوضوح والمباشرة. ولهذا السبب بادرت إلى تبني فكرة الحوار، وإلى إنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. والأجدر هنا أن تكون الحكومة ذاتها الأكثر تعبيراً عن روح المبادرة هذه، في أن تكون الطرف المباشر في الحوار الذي يلتزم بما يتطلبه هذا الحوار من وضوح وشفافية”. [2]

الهوية الوطنية والأقليات
مثلت رغبة الشيعة بحماية هويتهم الخاصة والتي تتجلى في ممارسة الشعائر الخاصة بالمذهب، والتعبير عن آرائهم الدينية، وبناء دور العبادة، إضافة إلى ضمان المعاملة المتساوية مع بقية السعوديين في الحصول على التعليم والوظائف، والتمتع العادل بموارد الدولة المختلفة، مثلت هذه الرغبة، صلب الإشكالات التي شابت علاقتهم بالسلطة وبالمؤسسة الدينية في البلاد.
يقول توبي ماثيسون، وهو باحث في العلوم السياسية في جامعة أكسفود في بريطانيا في مقالة أكاديمية تحت عنوان “المؤرخون الشيعة في دول وهابية، رواد الهوية وقضايا الجغرافيا والتاريخ في السعودية” واجه الشيعة صور تمييز مارسته الدولة ضدهم بما في ذلك استبعاد تاريخهم من الرواية التاريخية الرسمية. إن هذا التمييز الذي مورس ضدهم دفعهم للانضمام إلى الحركات المعارضة سواء اليسارية والقومية في خمسينات وستينات القرن الماضي وصولاً إلى الحركات الإسلامية في السبعينات”. [3]
في وقت لاحق، أسهمت التسوية السياسية التي قادتها إحدى فصائل الإسلام السياسي الشيعي وحكومة الملك فهد في 1993 في معالجة العديد من مكامن التوتر في العلاقة بين الطائفة الشيعية والحكومة. وقد لامست بعض مكامن التوتر تلك صلب الهوية الذاتية التي يسعى الشيعة لحفظها وبينها السماح ببناء المساجد ونشر الكتب الشيعية وفتح حوزات علمية محلية وصولاً إلى إزالة التمييز في مجالات التعليم والوظائف، وبعض القرارات ذات الطابع الأمني السياسي، إلا إنها توقفت عند ذلك ولم تتجاوزها لإصلاحات سياسية أشمل.
أوجدت هذه التسوية قنوات اتصال أدت دوراً في معالجة الكثير من القضايا وانضجت تلك التجربة تعاطي الوسط الشيعي مع الحكومة والذي تجسد بشكل واضح في خطاب “شركاء في الوطن” الذي قدم لولي العهد في حينها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في أبريل 2003، إلا أن هذه الجهود تعثرت لأسباب ذكر بعضها الدكتور السيف في كتابه المذكور سابق بأنها شملت “العلاقة المشوبة بالشك بين الطرفين، وافتقار الحكومة إلى استراتيجية واضحة للقضاء على التمييز الطائفي الأمر الذي أتاح لأشخاص متعصبين في هذه الإدارة أو تلك لتسميم الأجواء بين حين وآخر، وافتقار الشيعة السعوديين إلى تمثيل سياسي موحد”. [1]
وأضاف “منذ اوائل 2008 بدا أن الحكومة قد قررت فعلياً تجاهل مطالب الشيعة، مكتفية بما تحقق”. [1]

الهويات الفرعية
نشرت الصحافة العربية في أعقاب أحداث الربيع العربي مقالات عدة تحذر من صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، وكأنهما مفهومان متضادان بالضرورة.
إن الهوية الوطنية في هذه الكتابات هي هوية ضيقة لا تمثل الجميع وثابته غير متغيرة.
إني أرى بأن الهوية بصورتها الصحية لابد أن تفسح المجال لكافة أطياف المجتمع لأن يعبروا عن هوياتهم الخاصة بشكل كامل على تتحول الهوية الوطنية إلى فسيفسفاء تعكس كافة ألوان الطيف الوطني، فالهوية الوطنية ليست متعالية على الهويات الفرعية بل هي جامعة لها.
يشير الباحثون الاجتماعيون إلى أن الأقليات تركز على هويتها الذاتية كأسلوب دفاعي عند تعرضها للتمييز. وقد برز هذا واضحاً في كتابات المؤرخين السعوديين والذين نشطوا منذ ثمانينات القرن الماضي في تدوين التاريخ المحكي للمنطقة الشرقية من السعودية، حسب ماذكره توبي ماثيسون، للتركيز على عدة عناصر في هوية الشيعة في السعودية وهي الاهتمام بالأصول، والوعي بالتهديدات، ومقاومة التدخلات الأجنبية والاحتلال، والإشارة إلى ما يسمى بالعصر الذهبي، وأخيراً التركيز على الخواص المشتركة بين أبناء الطائفة.
يقول توبي ماثيسون إن من أسماهم برواد الهوية “مهمون لصياغة الهوية الجمعية خصوصاً في حال تجاهل الدولة وجهات النظر المعارضة في التاريخ. يقوم هؤلاء عادة بإنتاج سياق تاريخي قابل للاستخدام من قبل جماعات المصالح لوضع مطالب سياسية والتأكيد على الأطر الجامعة”. [3]
إن نزع فتيل التوتر الحالي هو مسؤولية تقع على عاتق كافة أطراف العلاقة، بما في ذلك الحكومة التي تستطيع من خلال مبادرة سياسية تهدئة المخاوف التي دفعت أنصار الحوار والتواصل المفيد إلى الصمت.

___________________
[1] د. توفيق السيف، أن تكون شيعيا في السعودية، 2013
http://talsaif.blogspot.co.uk/
[2] د. خالد الدخيل، كلمة الأمير عبدالله : الحكومة طرف في الحوار لكن فوق الأطراف الأخرى، 2004.
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=2450
[3] د. توبي ماثيسان، المؤرخون الشيعة في دول وهابية، رواد الهوية وقضايا الجغرافيا والتاريخ في السعودية، 2015.https://oxford.academia.edu/TobyMatthiesen

منشورات أخرى للكاتب